بالبارزاني مصطفى عنوان نهضة أمة

لا يوجد ردود
User offline. Last seen 15 سنة 1 يوم ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 04/04/2009

اقترنت الحركة التحررية الوطنية الديمقراطية الكردستانية بإسم قائد الشعب الكردي ملا مصطفى البارزاني منذ أكثر من نصف قرن من المسـيرة النضالية الطويلة. فهو المفكر والقائد الذي لقب بأب الكرد، ورمزا لنضال الشعب الكردي باعتباره وضع أَساسيات النضال الثوري الديمقراطي الكردستاني، وقاد هذا النضال بحكمة ودراية وتفان وتضحية. وشكلت نضالاته وأفكاره تراثا قوميا وطنيا نيرا سمي بـ ‘‘تراث البارزاني الخالد‘‘، ليصبح نبراسا للجماهير الكردستانية الكادحة في الدرب الطويل، درب كردستان العظيم.

حاول البعض تزوير الحقائق للنيل من عظمة البارزاني الخالد من خلال أشخاص آخرين، لتمويه الناس من أن تلاميذه يبدؤون يتخلون عن تراثه ونهجه. مثل هذه العقليات الساذجة التي تريد أن تطمس الحقائق بالكلمات الرخيصة، والألوان السوداء بعيدا عن الصواب.

أنا بصدد تبيان حقائق عايشتها بنفسي في بعض فصول المسيرة النضالية التي قادها البارزاني الخالد، حيث لازال النور ينبعث من الشعلة التي أوقدها لتواصل الجماهير تلك المسيرة الطويلة على نهج الكوردايتي، حتى تتحقق الحرية والكرامة والعزة للكرد وكردستان.

الأب الراحل مصطفى البارزاني ذلك الصرح الشامخ الذي رفع راية الكوردايتي عالية بقلبه وفكره وعمله، ودخل قلوب الجماهير لتحتضنه وتحبه ماشاء الله تعالى أن تدوم الحياة، فسارت الجماهير الكردستانية تحت تلك الراية. حملها الأب، ويحملها النجل والحفيد، ومعهم يحملها الشعب الكردي كله، وتحميها الأفئدة والأنفس، وتدافع عنها الجوارح والأرواح.

كُتب عن البارزاني الأب ما لم يكتب عن أي قائد كردستاني آخر، وأعتز أنني كنت أول كاتب كتب ردا على تهورات مدير المخابرات العراقية (فاضل البراك) في كتابه ‘‘البارزاني - الأسطورة والحقيقة‘‘عام 1989 . وكان ردي في كتاب باللغة الكردية، بعد كتابي الذي سبقه باللغة السويدية، وحصل على منحة مالية من وزارة الثقافة السويدية. ولم تمر أيام إلاَ وصدر الحكم عليَّ بالإعدام من محكمة خاصة عراقية للنظام الدكتاتوري البائد.

لا أردد ماكتبه الآخرين عن وطنية وشهامة البارزاني، ذلك القائد الإنسان، إنما أنا بصدد كتابة ذكريات لا تبرح عن خيالي. ذكريات عاشت معي منذ الشباب، وعشتُ معها في ذاكرة الأيام. وكم حاولت أن أجد ملجأ لهذه الذكريات، لكنها أبت إلاّ أن تراودني بين الحين والآخر. وكم عاندتُ نفسي أن أحتفظ بها لذاتي، وأتسلى بها لراحتي، بل أرويها في مخيلتي لكنني وجدتها تثور في جوارحي، وتأبى إلاّ أن ترى النور. وفي غمرة هذا العناد وهذا التحدي وهذا الإلحاح في عقلي وهذا التمرد في قلبي دفعني أن أعترف بقوتها، وتمردها لكي تتحرر إلى النور.

نظم الجواهري الخالد عام 1962، قصيدة، في حوالي مئة بيت أو أقل، عن وطن الكرد بعنوان (كردستان يا موطن الابطال) . أشاد فيها بنضال وشجاعة القائد الأب ملا مصطفى البارزانى. القصيدة سفر بليغ و رائع يقَيم فيها الشاعر كفاح الكرد الثوري، وصلابتهم المبدئية، إلى جانب رؤيته بحتمية الانتصار .

ألقى الجواهري قصيدته أو مقتطفات منها فى مؤتمر ‘‘جمعية الطلبة الكورد في أوربا‘‘ المنعقد فى ميونخ بالمانيا عام 1962 ويقال عام 1964.

مطلع القصيدة :

قلبي لكردستان يُهدى والفم

ولقد يجود بأصغريه المعُدم

ودمي وإن لم يُبِق في جسمي دما

غرثى جراح من دمائي تطعم

وينتقل في منتصف القصيدة إلى بارزان عرين الأسد القائد:

بأسم الأمين المُصطفى من أمةٍ

بحياته عند التخاصم تُقسَمُ

نفسي الفداءُ لعبقريَّ ثائر

يهبُ الحياة كأنَّه لا يفهَمُ

سلَّم على الجبل الأشم وأهلِه

ولأ نت تعرف عن بنيه من هُم

وتقصَّ كل مدبَّ رجل ٍعنده

هو بالرجولة والشهامة مُفعَم

والثم ثرىً بدم الشهيد مخضبا

عبقاً يضوع كما يضوع البرعم

متفتح أبدَ الأبيد كأنه

فيما يُخَّلد عبقريُ مُلهم

وأهتف تجبكّ سفوحه وسهوله

طرباً وتبسمُ ثاكل، أو أيَّمُ

ويختم الجواهري قصيدته الطويلة بتحقيق حلم أمة الكرد بقيادة الزعيم الكردستاني الخالد البارزاني، وبفعل تضحيات مناضليها ودماء شهدائها الأبرار على أرض كردستان الطاهرة:

يا أيها الجبل الاشم تجلة

ومقالة هى والتجلة توأم

شعب دعائمه الجماجم والدم

تتحطم الدنيا ولا يتحطم

مع البارزاني الأب

أحب أن تتجلى مصداقية هذه الكلمات على الصفحات التي بين أيدينا من أن هذا الحديث ليس خيالا إنما حقيقة عايشتها قريبا من دائرة البارزاني الخالد، وتلميذا في مدرسته الوطنية الرائدة دون أن أنتمي لأي تنظيم سياسي بعيدا عن البارزاني. وتأكيدا لمصداقية الحديث بالالتزام الأخلاقي بتراث ذلك القائد العظيم، اقتنعت أن العمل الوطني الديمقراطي المفعم بالعلم والمعرفة أعلى مركزا من المال والسلطان، من زاوية وفاء الإنسان للشعب والوطن أينما كان، حتى وإن لم ينتم لأي تنظيم سياسي.

نبذة مختصرة عن حياة البارزاني الأب

أود أن أشير إلى نبذة مختصرة عن حياة البارزاني مقتبسا ‘‘كلمة سكرتير اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكردستاني‘‘ في مناسبة تاريخية، مؤكدا صحة هذه السيرة الذاتية لذلك النبراس المضيئ الذي لا يُنسى في قلوب ملايين الكرد في ذاكرة التاريخ.

‘‘ارتبطت الحركة الكردية باسمه لأكثر من نصف قرن. واستقطب نضاله وإخلاصه حركة التحرر القومي في كافة أجزاء كردستان. واستيقظت أجيال كردية عديدة على هويتها القومية من نضال البارزاني، وأصداء كفاحه الدائب من أجل حرية الشعب الكردي وتحرره من الاضطهاد.

ولد الملا مصطفى بن الشيخ محمد البارزاني بقرية بارزان في ١٤ / آذار / ١٩٠٣م، بعيد وفاة والده. وفي الثالثة من عمره ساق العثمانيون حملة تأديبية على العشائر الكردية عقب فشل ثورة بارزان ضد العثمانيين، فأسروا الشيخ عبد السلام ( الشقيق الأكبر له ) وسجنوا الطفل ( مصطفى ) مع أمه في سجن الموصل حيث قضيا فيه تسعة أشهر. وكان لوالده أربعة أولاد آخرين وهم: الشيخ عبد السلام، الشيخ أحمد، محمد صديق، بابو.

لقد لفت انتباه الناس لشخصه منذ الطفولة، لما تحلى به من خصال حميدة في السلوك والشجاعة. وحاز على عطف وحب شديدين من قبل الأسرة البارزانية. وكان منذ نعومة أظفاره ميالاً للعلم والمعرفة، ويبذل جهده وطاقته البدنية ويصقلها في ممارسة الصيد. قضى الملا مصطفى ستة سنوات في تحصيله العلمي الابتدائي على يد معلمين خصوصيين في قرية بارزان، وبعدها درس الشريعة والفقه الاسلامي في بارزان لمدة أربع سنوات. ثم استمر أثناء نفيه من بارزان في إكمال دراسته الفقهية في السليمانية.

نضاله وكفاحه:

* دخل في معترك النضال الكردي التحرري عام ١٩١٩م وساهم في ثورة الشيخ محمود الحفيد وقاد قوة مؤلفة من ٣٠٠ مسلح.

* عام ١٩٢٠ انتدبه شقيقه الأكبر الشيخ أحمد لزيارة الشيخ سعيد بيران في كردستان الشمالية، للتنسيق معه في ثورته.

* عام ١٩٣١- ١٩٣٢م قاد القوة الرئيسية للبارزانيين للدفاع عن محور: ميركةسور- شيروان، مقابل

قوة داي الانكليزي. ولمع نجمه في هذه المعركة كثيراً في الهجوم والدفاع وقيادة العمليات العسكرية.

* عام ١٩٣٤م لجأ مع أخيه الشيخ أحمد وبعض رجاله إلى تركيا وبنتيجة المفاوضات عاد إلى العراق مع الانكليز وتم نفيهم إلى جنوب العراق ثم إلى بلدة السليمانية. ودام نفيه مدة ١٠سنوات.

* وفي ١٢ / ٧ / ١٩٤٣م وبمساهمة تنظيم «هيوا» هرب من السليمانية ودخل الأراضي الايرانية.

* وفي نفس العام ١٩٤٣م توجه من ايران إلى منطقة بارزان. وبدأ الشباب يلتحقون به في صفوف مستمرة حتى بلغ عدد المسلحين، وخلال شهرين، أكثر من ٢٠٠٠مسلح. واستولى على معظم مخافر المنطقة.

* وفي خريف ١٩٤٣م أرسلت الحكومة الوفود تلو الوفود إلى البارزاني طالبة التفاوض لوقف القتال. فاشترط

البارزاني الدخول في المفاوضات بعودة الشيخ أحمد وجميع المنفيين. وانتهت المفاوضات إلى اتفاق تعهدت حكومة نوري السعيد بموجبه بتنفيذ جميع المطالب التي قدمها البارزاني.

* اعلان ثورة البارزاني ١٩٤٣- ١٩٤٥م قادها ضد الحكومة العراقية المدعومة من قبل البريطانيين. وكان مخططاً للثورة هذه المرة أن تشمل مناطق واسعة من كردستان.

* ١١/ ٥/ ١٩٤٥م الانسحاب إلى كردستان الشرقية مع عدد كبير من مقاتليه، وكان الاقتتال الداخلي بين الأكراد أنفسهم السبب الرئيسي لوقف الثورة.

* ٢٢/ ١/ ١٩٤٦م حضر الحفل المقام بمناسبة اعلان جمهورية كردستان في مهاباد وكان على يمين قاضي محمد، وعين قائداً لجيش جمهورية كردستان حيث منح رتبة «جنرال». وأنيط بالبارزانيين دعم وترسيخ الجمهورية.

* ١٦/ ٨/ ١٩٤٦م تأسيس الحزب الديموقراطي الكردستاني /العراق، وانتخب البارزاني رئيساً له، وأعيد انتخابه للرئاسة في جميع مؤتمرات الحزب وظل رئيساً حتى وفاته

* المسيرة التاريخية ١٩٤٧م، بعد انهيار الجمهورية ورفض البارزاني الاستسلام للايرانيين قرر الانسحاب من كردستان إلى الاتحاد السوفييتي سيراً على الأقدام مع ٥٠٠ من البارزانيين، بعد الاصطدام بقوات الدول الغاصبة لكردستان (العراق، ايران، تركيا) والدول الحليفة لها (أمريكا، بريطانيا). وفي يوم ١٧ /٦ / ١٩٤٧م عبروا نهر آراس إلى الاتحاد السوفييتي السابق.

* وفي الاتحاد السوفييتي- وفي الفترة الستالينية- عوملوا معاملة قاسية ولاقوا معاناة شديدة، وبعد موت ستالين (١٩٥٣م) تحسنت أوضاعهم كثيرا. وأقبل البارزاني على العلم، وفي سن تزيد على الـ ٤٥ وطلب الانتماء إلى أكاديمية اللغات في موسكو حيث درس الاقتصاد والجغرافية والعلوم، إضافة إلى اللغة الروسية.

* عاد إلى العراق بعد ثورة ١٤ / تموز / ١٩٥٨م واستقبل استقبال القادة الأبطال.

كما اُستقبل من قبل الرئيس العراقي الزعيم عبد الكريم قاسم بتاريخ 7 أكتوبر 1958

* ١١/ أيلول / ١٩٦١- ١٩٧٥م قاد ثورة أيلول المجيدة ضد الحكومات العراقية.

* توصل مع الحكومة العراقية إلى بيان ١١/ آذار / ١٩٧٠م لاتفاقية الحكم الذاتي.

* في ٦/ آذار / ١٩٧٥م انتكست ثورة أيلول باتفاقية الجزائر، ولجأ البارزاني إلى ايران مع الآلاف من الكرد.

* توفي في أمريكا في ١/ آذار / ١٩٧٩م ودفن جثمانه الطاهر في قصبة «شنو». وبعد الانتفاضة نقل جثمانه إلى كردستان الجنوبية‘‘. انتهى الاقتباس.

البارزاني مصطفى مفكر مشروع الكوردايتي في إقليم كردستان

لا يوجد كردي واحد في عموم كردستان لم يسمع بالبارزاني الأب. فقد كان أحد أولئك القادة العظام الذين كتبوا التاريخ الكردي، وخاض معارك الحياة بنفسه، وعانى الكثير من المآسي من أجل شعبه، وبدأ يخطط مشروع الكوردايتي في زمن كانت القضية الكردية نبتة صغيرة بحاجة إلى عناية، فرعاها البارزاني ورواها بعرقه ودمائه وراحته وجهده وكده لئلا تموت. نمت تلك النبتة الجميلة وهي لاتزال تعيش وتثمر. فالفضل الأول يعود له حين بدأ يسير بخطى حذرة، كما قال شكسبير ‘‘صعود الجبال تحتاج لخطى حذرة ومتمهلة‘‘. استوعب البارزاني تلك الحقيقة، فكانت خطواته حثيثة على الدرب الطويل، درب كردستان العظيم.

اللقاء الأول بالبارزاني الخالد تاريخ لا يُنسى في ذاكرة الإنسان

كثير من الشباب الكرد كانوا يحلمون أن يجدوا البارزاني ملا مصطفى عن بعد وعن قرب، وكنت واحدا منهم. التقيتُ به أول مرة عام 1973، وأنا أتمتع بالحيوية والنشاط في عنفوان الشباب، بعد أن تخرجت من كلية القانون والسياسة بجامعة بغداد، محكوما عليّ بالإعدام للمرة الأولى من قبل النظام البائد بسبب نشاطاتي السياسية، وباعتباري أحد أولئك الذين انخرطوا في مسيرة البارزاني منذ أن كنتُ طالبا، وانا أترأس قيادة تنظيم بغداد لإتحاد طلبة كردستان بأعضائه الألف وثمانماءة. (حكم الأعدام عليَّ للمرة الثانية عام 1989 كما تقدم).

التحقت بالحركة التحررية الكردستانية تاركا الزمالة التي حصلت عليها في السوربون باعتباري كنت أحد الطلبة المتفوقين من الثلاثة الأوائل في الكلية. آثرت أن أكون كادرا في مدرسة الشعب لأتعلم من الشعب تحت قيادة البارزاني الثائر الذي أبى أن يستسلم، وقرر أن يكون في المقدمة، بعد أن اختاره الشعب كله قائدا وزعيما وأبا لتلك الحركة الرائدة التي بدأت في الأربعينات، واستراحت، ثم تجددت في أوائل الستينات، وحققت انتصارات عام 1070، وتعرضت لمؤامرات دولية عام 1975.

عشت شخصيا في دائرة قريبة من البارزاني في تلك السنين بين العمل الثقافي أستاذا في معهد الكوادر وكادرا في العمل السياسي والثقافي في المناطق المحررة من كردستان، بعيدا عن ممارسة العنف وحمل السلاح. وفي كل الحالات تحت قيادة القائد الذي طالما حلمت أن ألتقي به يوما. فوجدت نفسي في صفوف الثورة وأنا أحمل معي ذلك الحلم الكبير.

كيف التقيت بالقائد الأب البارزاني لأول مرة؟

ترك البارزاني الأب ذكريات فريدة في ذاكرتي بلا انتهاء. كنتُ أكاديميا شابا متحمسا للقاء أب الكرد. التقيت بسيادته، فوجدت نفسي تلميذا أمام ذلك المعلم الذي تعلمت منه في أول لقاء دروسا مبرمجة في خدمة الشعب والوطن. وشعرتُ بأنني تلميذ أحتاج أن أتعلم من جديد دروسا إضافية في فنون النضال الوطني التحرري والكوردايه تي من قائد الثورة ومرشد النضال الديمقراطي.

تجربتي مع الراحل الخالد في عدة لقاءات في كردستان وخارجها، جعلتني أشعر باحترامي لتراث ذلك الإنسان العظيم الذي علمني العمل من أجل حرية الشعب. تعلمت منذ ذلك الحين من أن الوفاء للشعب الكردي هو وفاء للبارزاني أيضا، وأن الإخلاص لتراثه هو إخلاص لذلك النضال الذي ناضله طوال سنين عمره التي ضحاها من أجلي ومن أجل كل كردي مخلص. فكل من التقى بسيادته يوما، وتعلم منه درسا يشعر أنه تلميذ مدرسته الرائدة التي تخرجَت منها آلاف الكوادر العاشقة للحرية والكرامة. وفهمتُ لتَوي بأنه من الصعب على تلاميذه المخلصين أن يتمردوا على خدمة الشعب الكردي وحقوقه.

وصلنا مقر الرئيس الخالد، وأخبَرنا بعض حراسه المقربين بضرورة التحدث معه بلا ألقاب، مثل "أستاذ" أو "رئيس" أو ما شابه، لأنه لا يحب الألقاب. شعرنا للوهلة الأولى أننا سنقابل إنسانا أعظم من الألقاب، وقائدا أكبر من الرؤساء، ومحاضرا أرفع من الأساتذة والخطباء. كان الأب مسرورا حين التقينا بسيادته، حيث تكَرَّم علينا نجله النشط الذي كان شابا يانعا، مسعود البارزاني بمصاحبتنا إلى باب غرفته،(رئيس إقليم كردستان اليوم)، وقال له بثقة واحترام: ‘‘أبي! هؤلاء يمكن التحدث إليهم‘‘.

استقبلَنا الأب بعطف وإكرام كما يستقبل كل أب حنون أبناءه الذين يشتاقون للقائه. واستغربنا كثيرا من بساطته المليئة بالبهاء والجلال والوقار. واستطاع بكرمه أن يدخل قلوبنا، لا خوفا منه، إنما محبة له ووفاء لقيادته. فاحترام القائد المفعم بالمحبة أعظم من احترامه خوفا منه.

كان سيادته جالسا على كرسي بيننا لايختلف أبدا عن تلك الكراسي التي جلسنا عليها أنا وزملائي. مهيب الطلعة يحمل كثيرا من الأسرار في مخيلته، وكثيرا من الحب الفياض في قلبه الكبير لشعبه الذي أحبه بلا حدود. يتحدث وعيناه ينبعث منهما شعاعا أزليا يدخل القلوب ليأثر عليها. وحاجباه الكثيفان الممتلئان بالشعر يحتضنان تحت كل شعرة مأساة من مآسي الشعب الكردي كله.

كان يعرف كيف يتحدث على قدرعقول الذين يتحدث معهم. وكان يفهم بجلاء نفسية الإنسان الذي ينظر إليه بعينيه المتوقدتين نظرات تحمل سهاما تصيب القلوب قبل الجلود، فكان يؤثر على السامع الذي يجد نفسه مهيأ للسماع إليه بكل جوارحه. إنها كلمات تسكن في الذاكرة لترسم فيها ذكريات أطول عمرا من الأحلام.

العلم والمعرفة مفتاح التحرر والتقدم

فرَح البارزاني كثيرا حين أخبرناه بأننا استطعنا أن نهيئ دورة ثقافية خاصة لنشر الثقافة وحماية أمن المواطنين بنجاح. نظر إلينا متفحصا، ورسم على وجهه المهيب إبتسامة الرضى وقال: ‘‘الحمد للّه، الحمد للّه الذي أعان شعبنا أن يقود حلقات ثقافية بنفسه‘‘. وأضاف: ‘‘أبنائي أطلب منكم أن تؤكدوا على العلم والمعرفة والثقافة لأنها مفتاح التحرر والتقدم‘‘.

تحدَّث لنا عن نابليون بونابرت وتاريخ أوربا والثورة الفرنسية. فشعرنا بأننا أمام معلم ملم بالفكر السياسي الأوربي. كان يفهم بوضوح الأهداف التي ناضل من أجلها، وعن المرحلة التي كانت يمر بها نضال الشعب الكردي الذي كان يقوده. أكد على حقوق الشعب الكردي وضرورة نيل هذه الحقوق التي تتبلور وتتطور كلما قدّم الشعب الكردي تضحيات أكثر، وكلما ازداد تعنت النظام العراقي. وشدّد على أن الاعتراف بحق الكرد في الحرية والديمقراطية يقوي وحدة الأراضي العراقية وتقدُم العراق وأمنها. هذا الطرح الذي طرحه البارزاني الخالد في السبعينات كان حضاريا، وتعبيرا عن الوعي الاجتماعي من أجل الحرية والسلام للكرد والعرب والأقليات في العراق لترسيخ وحدته وتعميق استقراره.

وشدّد البارزاني مصطفى في مقولته الخالدة: كلما ناضلنا أكثر، واستغرق وقتا أطول، تزداد حقوقنا، وتترسخ تلك الحقوق في ذواتنا لكي نتمسك بها ونحققها. فإيماننا بالله لا يتزحزح، وسننتصر إن شاء الله، لأن الله مع الحق، وأن الشعب معنا، ولأن أملنا في الله تعالى والشعب الكردي كبير والله المستعان.

نحن أقوى من الجبال في مواجهة المؤامرات

يفكر كل كردي بما تعرض له رئيس الشعب ورمز الأمة من مؤامرات ومحاولات اغتيال. وكانت أولى هذه المحاولات في 29 سبتمبر/أيلول عام 1971، والمحاولة الثانية في 16 يوليو/تموز عام 1972، ونجى من المحاولتين بأعجوبة. ومع ذلك كان قائد الشعب الكردي يفكر بمستقبل شعبه، دون أن يفسخ الاتفاقية التي عقدت بينه وبين صدام حسين في 11 مارس/آذار عام 1970، حتى لا يعطي ذريعة للنظام بضرب القضية الكردية، وحتى لا تستغل الأوساط المعادية للشعب الكردي من أن البارزاني لم يكن جديا في السلام.

المال لا يصنع الشرف

كنا مجموعة من أساتذة معهد الكوادر العائد للثورة الكردية، التقينا بسيادته عام 1974 في حاجي عمران، وكان ذلك لقائي الثاني بسيادته، وأخبرناه عن طريقة تدريبنا وتدريسنا للكوادر الذين تخرجوا من المعهد المذكور. شعر بالغبطة الكبيرة، وقال بإعتزاز: إعلموا ياأبنائي أن المال لايصنع الشرف، ولا يقول أحد أن فلان شريف لأنه غني. المسؤولية الوطنية والنضال الوطني الديمقراطي من أجل الحرية والكرامة تحفظ لنا الشرف.

ما أعظم هذا الإنسان الذي يعطينا أجلى آيات الكرامة والفداء والتضحية بعيدا عن الماديات لنفسه، ومعَلما يعي كيف يوجه الكوادر والعامة نحو النور.

ولنا في البارزاني الراحل دروسا في الإنسان الواثق بنفسه إلى درجة خارقة حين قال: ‘‘أنا فلاح مع الفلاح الذي يعمل في حقله ليُعيل عائلته بشرف ونزاهة، وأنا عامل مع العامل في معمله لينتج ويعيش حرا. لكنني مَلك مع الملوك

ورئيس مع الرؤساء ولن أخضع لأي ظالم أومعتد‘‘.

تحدث عن أهمية العدل في الحكم، وتحدث كيف ينصف للمظلوم من الظالم حتى إذا كان من ذوي القربى. وهنا أنقل حادثة فريدة كيف أن البارزاني يأخذ العدل نبراسا في حكمه؟ وكيف أنه كان يساوي بين الحاكم والمحكوم في المعاملات؟ وكيف كان يقتص من الظالم للمظلوم؟

الحاكم العادل ونصرة المظلوم

حدث مرة أن اشتكى بيشمركه كردي عند البارزاني الخالد من أن مسؤوله الأعلى ضربه بالسياط دون سبب وجيه. فأمر البارزاني الخالد أن يُحضِرَ ذلك المسؤول، وحدد موعدا للقاء به وبالبيشمركه المظلوم. وفي ساعة اللقاء، سأل البارزاني ذلك المسؤول عن أسباب ظلمه لذلك البيشمركه، وتبين أنه اعتدى عليه. فوضع البارزاني العصا بيد البيشمركه المظلوم وطلب منه أن يضرب مسؤوله الذي ظلمه بنفس الطريقة التي تعامل معه. تردد المظلوم أن يفعل، ولكن البارزاني أصر من أن يأخذ المظلوم حقه من الظالم في مجلسه ذاك.

ماذا يمكننا أن نأخذ من دروس في هذه التجربة الفريدة؟ إنها وسيلة من وسائل التعليم المنهجي لكل كردي يشعر أنه مُكَرَم في بيته الكردستاني، وأنه المناضل في ساحات التضحية ليحتفظ بكرامته. وأنه قبل ذلك ليس في مرتبة أدنى من المسؤول في ساحات الوغى. إنه عضو كامل النمو في المجتمع تماما كالذي هو أكبر منه أو أقل منه. أنه لا أكبر ولا أقل من مناضل كردي آخر. مدرسة يقودها البارزاني الخالد، لا من أجل أن يحصل على شهادة التخرج، بل من أجل ان يتعلم فيها ويُعَلم الآخرين ويتعامل مع الأجيال ماشاء الله تعالى أن يفعل.

حكمة البارزاني بعد إعلان إتفاقية 11 آذار- لقد عفوت عنكم إذهبوا فأنتم طلقاء

كان يتألم حين كان يتحدث عن الإنشقاقات التي حدثت في صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني، وتحدث بمرارة عن أولئك الذين كانوا يحملون السلاح ضد الشعب الكردي عام 1966-1970، وكذلك أولئك الذين أطلق النظام العراقي عليهم أسم ‘‘فرسالن صلاح الدين‘‘. لكن البارزاني أثبت بجدارة عن تسامحه وقدرته على العفو عند المقدرة، فانتهز فرصة العفو عن جميع الذين وقفوا ضده وضد الثورة الكردية بعد إتفاقية 11 آذار1970. وسمح لهم بالمساهمة في البناء الديمقراطي. وهو بهذا أثبت بأنه أب الكرد بلا منازع.

كان الراحل متسامحا يحمل في أعماقه أسمى الأخلاق الأنسانية، مؤمنا أشد الإيمان باللّه، وبحق الإنسان في الحياة الحرة الكريمة. حديثه شيق وجدّي، يعرف أن الكلمة مسؤولية، وهو يدعم كلامه بالآيات القرآنية الكريمة أحيانا، وبالأمثلة أحيانا أخرى. إنها صفات القائد الإنسان الذي لم يعرف الحقد على أي كردي معبرا بذلك عن كرامة الإنسان بمنتهى درجات الكرامة الإنسانية.

عندما تآمر العدو الغاشم لإغتياله في 29 سبتمبر 1971 مرضت الشمس في كبد سماء كردستان، وغارت الأرض، وبكت ملايين القلوب، وكانت مشيئة الخالق أعظم فأنقذه ونجاه. فأدعية آلاف الأمهات الثكالى إستجابت في السماء العُلى، لما كان في قلبه الكبير من حب لشعبه، ولما كان في قلوب الشعب من محبة له. فكل الذين ذهبوا بعيدين عنه رجعوا، وكل الذين رجعوا أصابوا، وكل الذين ولّوا تاهوا، وكل الذين تاهوا ضاعوا. فلا سبيل في متاهات الصحراء، ولا إخضرار بين عواصف الرمال.

إرادة البارزاني الصامدة وآلام المؤامرة

كان لقائي الثالث بسيادته، رحمه الله واسكنه فسيح جناته، في خيمة متواضعة بمدينة نغدة الكردستانية إلإيرانية بعد مؤامرة إتفاقية الجزائر بين (شاه إيران المقبور) و (صدام حسين المشنوق) بتاريخ 6 آذار عام 1975. زرتُ سيادته برفقة شكيب عقراوي عضو اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكردستاني. تحدث البارزاني الأب بعقل متفتح ودهاء يعبران عن قدرته الكبيرة في فهم الرجال والأحداث. سأل عن وضع الأستاذ المرحوم صالح اليوسفي الذي رجع إلى العراق بموافقة البارزاني لأنه رفض أن يبقى في إيران، بعد خيانة الشاه الإيراني لوعوده التي وعدها للكرد. تحدث الرئيس الراحل البارزاني عن إتفاقية 11 آذار 1970 التي لم يلتزم بها نظام صدام حسين:

‘‘بعد الإتفاقية التي أقرَت بالحكم الذاتي للشعب الكردي بنضاله الدؤوب في 11 آذار 1970، قلتُ لأعضاء اللجنة المركزية: إعلموا أن الوضع الآن أخطر من قبل، فقد كنا سابقا نجد الطائرات والمدافع تقصفنا، أما اليوم فستقع علينا القنابل دون أن نراها، لذلك يجب أن نكون حذرين جدا، وأن لا نقع في شِباك النظام. فلا تستهينوا ولا تقولوا أن حقوقنا قد تحققت وانتهى كل شئ. يجب أن نكون متيقظين أكثر من أي وقت مضى لمعرفة نوايا النظام الذي أشك بعدالته ووفائه للوعود‘‘.

وقال:

‘‘أثبتنا للعالم أننا كنا نقف مع حق الأخوة العرب في محنتهم عدة مرات. ففي حرب الأيام الستة في حزيران 1967 بعثنا ببرقية إلى الرئيس العراقي الأسبق عبد الرحمن عارف معلنين فيها عن مساندة الكرد للعرب في حقوقهم، وطالبْنا بانسحاب القطعات العراقية من كردستان للدفاع عن الأراضي العراقية والحقوق العربية الفلسطينية، وعاهدناهم بان لا تطلق القوات الكردية النارعليهم طيلة بقائهم في المواجهة مع أعدائهم. وأيدنا العرب أيضاً أثناء دخولهم الحرب مع إسرائيل عام 1973. وأرسلنا ببرقية إلى الرئيس العراقي احمد حسن البكر معلنين فيها عن وقف إطلاق النار في كردستان، ووقفْ كافة العمليات الحربية ضد قوات النظام العراقي لكي تتمكن تلك القوات من التفرغ لحماية فلسطين، كما أرسلنا ببرقية مماثلة نفس اليوم للرئيس المصري أنور السادات. لكن تعامل نائب الرئيس العراقي صدام حسين كان عدوانيا معنا، حيث خان الإتفاقية التي إتفقنا عليها في 11 آذار عام 1970، وتآمرعلى قتلي عدة مرات. لقد كان بإمكان الكرد أن يعاقبوه أثناء زيارته لكردستان بإسقاط طائرة الهليكوبتر التي كانت تقله، لكنهم لم يفعلوا، لأن الأخلاق الكردية لا تقبل الخيانة‘‘.

كان البارزاني الأب يتحدث والحزن مرسوم على وجهه الذي كان يحمل آلام الشعب الكردي كله. وللتاريخ أقول، ولتكن هذه الشهادة للتاريخ، فالكلمة مسؤولية، ولا أقول هذه الكلمة اعتباطا بل عن مسؤولية كاملة ومتكاملة وعن قناعة، أن البارزاني الأب لم يخن شعبه الكردي أبدا، وأنه لم يتخاذل ولم ينهزم، ولم يوقف الثورة بارادته، ولم يستسلم. فأنا أتذكر كل همسة قالها الراحل العظيم في ذلك اللقاء، حين قال، وأنا في ديوانه المتواضع تحت تلك الخيمة المتواضعة، والألم يحز قلوبنا جميعا فيما حدث من نكسة أيام المؤامرة:

‘‘سنظل نناضل، وكلما ناضلنا أكثر فإن حقوقنا ستزداد أكثر حتى نحقق النصر لأن نضالنا مشروع، ولأن حركتنا

إنسانية تحررية أخلاقية لمصلحة العراق كله. وإن نظام صدام حسين سيُقهر وسينهزم لأنه لا يعرف العهد ولا يعرف الأخلاق‘‘.

وقال: ‘‘إننا مع الديمقراطية والسلام، ولكننا لانستسلم. لقد نجحَتْ المؤامرة، وانسحبنا من المعركة لأسباب استراتيجية، لكننا لم ننسحب من الثورة. سنرجع إلى الوطن ونجدد الثورة ونناضل بعزيمة أقوى إن شاء الله‘‘.

بارزاني عرَّف العالم المعاصر بقضية الكرد المقترنة بإسمه - بارزاني بارزاني

كان الراحل البارزاني أروع إنسان التقيت به وجها لوجه، ترك في نفسي انطباعا لازال فريدا يحتل مركز قلبي وبؤرة نفسي، وأنا عاجز أن أنساه. إنه سيبقى محبة على الشفاه وفي القلوب أكثر من أن يكون صورة على الجدران، لأنه المعلم الأب. من يجهل تاريخه الذي عرَّف العالم المعاصر بقضيتنا المقترنة بإسمه؟ فعندما توجهنا إلى أوربا قبل مايقارب الثلاثين عاما، والأوربيون يسألوننا من أين أتيتم؟ فنقول من كردستان. فيجاوبوننا: بارزاني بارزاني.

جميع الذين تهجموا على البارزاني الخالد لم يكونوا منصفين في مواقفهم. وأثبت التاريخ عدم صحة تهجمهم، فتراجع عن أخطائه. وقد تعرض الرئيس الرمز، كما يتعرض كل رئيس رمز دون استثناء إلى النقد. وهذا النقد مَردّه ذلك المركز المرموق لقائد احتل موقعا فريدا في تاريخ شعبه. فالتهجم مرفوض، لكن النقد العقلاني، غير التهجم، كان لمصلحة البارزاني نفسه، لأن ذلك النقد يبين مواطن الحقيقة من الأسطورة، وصحة ما يتردد على ألسن الناس عن إنسان عظيم كان يعتبر آخر العمالقة الكرد في القرن العشرين.

المأثرة العظيمة للإنسان الذي لُقب بأب الكرد هي حفاظه على وحدة القضية الكردية ووحدة الزعامة. وإذا تطرقنا إلى مسالة مبادئ وقواعد الوطنية في العراق نجد أن الوطنية ليست ملكا مشاعا تخص نظاما معينا أو رئيسا عراقيا معينا، بل هي الإخلاص والوفاء تجاه الوطن والمحافظة عليه، وخدمة الشعب، وتوفير الحرية، ومحافظة ثروات الوطن من الأجنبي، والاعتراف بحق المواطنة للجميع، لأن مسألة القومية هي مسالة وطنية وديمقراطية وإنسانية ولا يمكن أن تحل إلا عن طريق الديمقراطية والمساواة والعدالة وليست عن طريق استخدام الأسلحة الكيمياوية وحملات الأنفال.

إنه البارزاني الذي ما دخل بيتا إلاّ وكان للكرد مصلحة فيه، وما خطا خطوة إلاّ وكان فيها للكرد نصيب من الحرية. ترك لنا تراثا ما أن نقتديه إلاّ ولنا فيه مجد وكرامة. إنه النور الذي نحمله في نفوسنا لنسير على الدرب الطويل، درب أمنا الكبرى كردستان.

إنه البارزاني الذي ولد في 14 مارس 1903 بقرية بارزان وعرف قيمة الحرية في الثالثة من عمره منذ أن دخل سجن الموصل مع والدته عام 1906. إنه بحق أب الثورات الكردية المعاصرة، اشترك في كافة المعارك الكبيرة ضد الأنظمة التي تضطهد الشعب الكردي، وساهم في جميع الانتفاضات التي فجرت في كردستان. إنه مرشد فكر الكوردايه تي في القرن العشرين، ومخطط الحركة التحررية الديمقراطية الكردية في القرن الذي نعيشه. وإن ما نعيشه اليوم من حرية في كردستان هي جزء من نتاج تلك العقلية الفذة والخطط القيمة التي ساهم فيها البارزاني الخالد في مسيرة الحركة التحررية الكردية.

مقولات خالدة للبارزاني الأب مصطفى

إعداد د. خالد يونس خالد

•- ماذا قال البارزاني أمام الكرملين؟

بعد انهيار جمهورية مهاباد الكردستانية عام 1947 رفض البارزاني الأب الذي كان آنذاك قائداً لجيش الجمهورية، رفض الاستسلام للايرانيين وقرر الانسحاب من كردستان إلى الاتحاد السوفييتي سيراً على الأقدام مع ٥٠٠ من البارزانيين. وبعد الاصطدام بقوات الدول الغاصبة لكردستان (العراق، ايران، تركيا) والدول الحليفة لها (أمريكا، بريطانيا) وصل إلى نهر آراس فعبره مع رفاقه إلى الاتحاد السوفييتي السابق في يوم ١٧ /٦ / ١٩٤٧م ، وتحديدا إلى أذربيجان وأوزبكستان السوفيتيتين، وتعرضه ورفاقه لمضايقات من قبل قيادات الحزب الشيوعي في هاتين الجمهوريتين. وبعد موت ستالين قرر القائد الأب البارزاني السفر إلى موسكو في محاولة اللقاء بالقيادة السوفياتية الجديدة لشرح قضية شعبه وإخراجها من إطارها المحدد في أذربيجان وأوزبكستان.

قصد الكرملين مباشرة بشجاعته وجرأته المعروفة في وسط مدينة موسكو. وتوجه مباشرة إلى مكتب الاستعلامات في الكرملين وكشف عن هويته قائلاً:

‘‘أنا ملا مصطفى البارزاني جئت لأعرض قضية شعب مظلوم على شعب لينين وحزبه‘‘.

أصيب الموظف المسؤول بدهشة لأن هذا العمل غير مسبوق من رجل جريئ إلى هذا الحد.

جرى التحقيق معه في الحال، وبعد أن تعرفوا على شخصيته، نُقِل في الحال إلى فندق موسكو في وسط المدينة.

وبعد عدة جلسات تحقيق أدخلوه الكرملين لمقابلة قادة الحزب ومنها إحدى لقاءاته مع الزعيم السوفيتي خورتشوف. فسرد له ما جرى له ولرفاقه، وقص عليهم قضية شعبه المظلوم.

•- ماذا قال لرئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري السعيد؟

قال بوقار وبنفس مليئة بالثقة والاطمئنان، هذه القصة الرائعة:

قال البارزاني الخالد طيب الله ثراه: ‘‘طلب مني رئيس الوزراء العراقي الأسبق في العهد البائد نوري السعيد أن أكف عن النضال من أجل حقوق شعبي، وعرض علي وعلى أبنائي المال الكثير والقصور والوظائف العالية، فرفضتُ ذلك قطعا.

واستغرب الرجل نوري السعيد متسائلا لماذا يا بارزاني؟ فجاوبته بلا تردد وبشكل حاسم: للإنسان شيئان عزيزان، الشرف والحياة. فإماّ أن يضحي الإنسان بحياته من أجل شرفه أو يضحي بشرفه من أجل حياته. وأنا أضحي بحياتي من أجل شرفي، لأنه لا حياة بلا شرف، فالشرف باق والحياة فانية، وشرفي هو كرامة الشعب الكردي‘‘.

•- ماذا قال في كلمته أمام أمراء القيادات العسكرية للبيشمركة الكرد ومسؤولي الحزب الديمقراطي الكردستاتني بتاريخ 15 أبريل/ نيسان 1967؟

مقتطافات من الكلمة:

‘‘إنَّ كل ثورة وحركة في العالم لصالح الشعب، وعليه يجب على كل المسؤولين في الثورة أن يضعوا مصلحة الشعب أمام أعينهم، وينسوا الأنانية والمصلحة الشخصية. وإن أي عمل لمصلحة الشعب يجب أن ينفذ حتى إذا لم يكن لصالح الشخص المنفذ‘‘.

وقال: ‘‘إن المليونير الكردي الذي لم يساعد الثورة، يظهر أمام أبناء الشعب إنسان ذو سمعة سيئة، ولا يحظى باحتلرام الآخرين، لأن الغنى لا تخلق الشرف. إن الأموال إذا لم تصرف لمصلحة الشعب يعني أنها تؤدي إلى الرذالة. إننا لم نسمع في التاريخ مدح إنسان كان يتعاطى الأكلات الطيبة أو ينام على أفرشة ناعمة. إن الذين يُذكّر أسماءهم في سجل الشرفاء هم أولئك الذين تحملوا المشاق وناضلوا من أجل مصلحة الشعب‘‘.

وقال: ‘‘لقد أخبرتكم آلاف المرات بأنني أخدم أصغرنا، إنني لست رئيس أحد، ولا أريد رئاسة أحد، بل أريد ان أكون أخا لكم وأخدمكم، وأريد أن تكونوا إخواني وتتعاونوا معي لنصبح أبناء الشعب وفي خدمة الشعب، ونبتعد عن حب الذات والطمع والأنانية. ونكون حذرين من العدو، ولا ننسى واقعنا بورقة أو كلمة أو أكذوبة‘‘.

وقال: ‘‘إذا لم يكن هناك تعاون وتضحية بيننا، فلن نستطيع خدمة شعبنا. يجب أن تعلموا إننا لن ننتصر بالسلاح فقط، ولا بالأموال، ولا بالنهب والسلب، ولا بسلب حقوق الآخرين وقتلهم، بل ننتصر حين تكون قلوبنا صافية مع بعضنا البعض، الكبير والصغير يحترمان بعضهما البعض. كل كردي يجعل مصلحة أخيه مصلحته، وضرر أخيه ضرره‘‘.

وقال: ‘‘إنني لم أخن صديقي أبدا ولم اطمع لشئ لذاتي ولم يكن لدي حب الذات تجاه رفيقي. قدمت له خبزي وتحملت الجوع، وأعطيته ملابسي وتحملت البرد، حتى أنني شاركت في الجبهة مع إخواني وذهبت إلى المكان الذي كان يقصف بالطائرات والمدافع، والمكان الذي لم يعش فيه أحد. وكنت في مقدمة البيشمركه الذين تعرضوا للهجوم أكثر من مرة إلى أن وصلت إلى هذه الحالة‘‘.

وقال: ‘‘يجب أن لا ننسى، كل من يعمل ضمن هذه الثورة، ابتداءً بشخصي ثم المسؤولين ومرورا بالبيشمركه والعضو الحزبي. إن جرح شعور قروي أو راعي أو كاسب أو إمرأة أو طفل، أو الطعن بكرامة الآخرين، أو أخذ بيضة أو دجاجة أو أي شئ آخر من أبناء الشعب بالغدر والظلم، يعني أننا أعداء الشعب وأعداء أنفسنا. إذا كانت قلوب الشعب معنا فإن العدو لن ينال منا حتى إذا كان أقوى مما هو عليه الآن ألف مرة. أما إذا لم تكن قلوب الشعب معنا فوالله إننا نخسر ونفشل حتى إذا كنا أقوى مما نحن عليه الآن ألف مرة‘‘.

وقال: ‘‘ نحن لا نريد مخالفة الحكومة العراقية إذا لم تكن السلطة بأيدي حكومة سارقة أو لا أخلاقية تخدم أعداء العرب والكرد. إننا نريد مصلحة العراق في ثورتنا هذه. أولا للعرب، وثانيا للكرد وكل الأقليات، تركمان وآشوريون وأرمن وغيرهم من العراقيين الشرفاء. نريد حكومة ديمقراطية عادلة بالانتخابات الحرة النزيهة بدون ضغوطات وظلم واعتداء. ويوضع قانون عادل من قبل الشعب. لا أن ينادي عسكري كل يوم: قررنا ما يلي ليحكم الشعب بأنانيته ومصلحته الشخصية دون أن يتجرأ الشعب محاسبته. نحن لم نشن الهجوم على أحد ولن نفعله. نحن ندافع عن حقوقنا الشرعية وعن شرفنا وأموالنا وحياة شعبنا الكردي ... عليهم أن يرحموا بالشعب العراقي وأن يكفوا عن الظلم ضد الشعب الكردي حتى نستطيع نحن الشعب العراقي ككل أن نعيش بسعادة وأخوة وسلام وعدالة‘‘.

(ملاحظة: الكلمة طويلة جدا ألقاها البارزاني الأب مصطفى باللغة الكردية، واقتبست مقتطفات منها.

سبق لكاتب هذه السطور أن ترجم نص الكلمة إلى اللغة العربية عام 1980 ووزعت على أعضاء جمعية الطلبة الأكراد في أوربا في حينه).

•- ماذا قال للصحفي الأمريكي دانا آدمز شمدت؟

‘‘ إنَّ هدفي هو الأخذ بيد الشعب الكردي إلى عيشة مستقرة وآمنة، وكان الله في عوننا‘‘ (ينظر: شمدت، رحلة إلى رجال شجعان، ص 281).

وقال جوابا على سؤال طرحه الصحفي شمدت حين سماه جنرالا: أجاب البارزاني ببساطته المعهودة وثقته بنفسه وحبه لشعبه مايلي:

إني لست جنرالا، إني مصطفى لاغير. قل لصحيفتك إني لا أهتم قلامة ظفر بالألقاب. وإني لست إلاّ فردا من الشعب الكردي‘‘ (ص 283).

وقال: ‘‘لا أريد القول بأني فعلت كذا وعملت كذا. لكني استطيع القول بأني حائز ثقة الشعب الكردي وأعتقد أنهم يثق بي‘‘ (ص 293).

وقال: ‘‘ إني لست ضد الشعب العربي، إني أطالب بحقوق شعبي فحسب، إني لا أطلب أراضي منهم‘‘. (ص345).

ولكن ماذا قال دانا آدمز شمدت بدهشة عن البارزاني؟

قال لدهشتي ‘‘أن الطعام في مقر البارزاني قد يكون أسوء من طعام أية قرية صادفناها في الطريق. إنه لا يخص نفسه ولا هم حوله بالأطايب‘‘. (ص282).

•- ماذا قال للصحفي السويدي تورد فالستروم؟

نحن ندافع عن وطننا، وكل ما نطلبه هو حقنا في الحياة الكريمة. لكننا مجبرون أن نواجه عدوا يفتقد للمشاعر الأنسانية، وعدوا لا يعرف الرحمة ولا يراعي حقوقنا. see: Tord Wallsstrom, Bergen ar vara enda vanner, p. 137

•- ماذا قال لنا في زيارتنا له بعد مؤامرة الجزائر الخيانية عام 1975؟

نحن أقوى من الجبال، سنرجع ونثور ونصمد مع صمود جبال كردستان.

•- عن الطلبة؟

الطلبة رأس الرمح في كل المعارك والثورات

•- عن العلم والمعرفة؟

عليكم بالعلم والمعرفة لأنهما مفتاح التحرر والتقدم

•- عن نابليون بونابرت؟

كان بونابرت مصابا بداء العظمة

•- عن الاعتزاز والثقة بالنفس؟

أنا فلاح مع الفلاح وعامل مع العامل، ولكني في مرتبة أعلى من الذي يريد أن يسلط نفسه على الشعب فأقاومه.

•- عن القيادة والثقة بالشعب؟

أستمد قوتي من شعبي. لا أحب الزعامة ولكن الشعب يريدني رئيسا.

خاتمة

إنه الأب الخالد ملا مصطفى البارزاني الذي وافته المنية في 1/3/1979 ونّقل جثمانه الطاهر إلى إيران ليوارى الثرى في قرية شنو الكردستانية، وبحضور آلاف الناس من مختلف مناطق العالم لتوديع القائد الذي ناضل من أجل حرية واستقلال شعبه.

تلاميذ مدرسة البارزاني الخالد، ملتزمون بنهجه، أوفياء لفكره نبراسا يضئ دروب الظلام، سائرون على التراث الذي فتح الطريق، وزرع الأزهار والنرجس في ربوع الوطن الجميل.

إنه البارزاني، أب الكرد الذي منح حرية للبلابل كي تغرد، وجمالا للعصافير حتى تزقزق، ولولا هذه الحديقة التي اخضرت بالحرية، وبعمل وكدِ ووفاء الشهداء الذين سكبوا دماءهم الطاهرة، لما وصل الشعب الكردستاني إلى ما وصل إليه اليوم بعون الله تعالى.

إنه البارزاني الذي أبت القلوب إلاّ أن يكون الحبيب بينهم، فنُقلَ جثمانه الطاهر من قصبة شنو إلى بارزان وسط حشد جماهيري كبير لم يسبق له مثيل، تاركا وراءه نبراسا منيرا وتراثا مضيئا ونهجا وطنيا ديمقراطيا، ومدرسة لها تلاميذها ومناضليها الأوفياء لقيادته وللكوردايه تي. إنه اليوم في بارزان.

بارزان الذي قال فيه الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري:

بارزان يا قمما يشبهها الدم
وتنوء كاهلها والثلوج فتهرم

وتغازل القمر المضىء فتزدهى
وتعارك الموت الزوام فتظلم

بارزان يا لغزا تعاص حله
عبر القرون الغبر فهو مطلسم

بالمصطفى عنوان نهضة أمة

يوم التخاصم باسمه يقسم

إنه البارزاني الذي سيبقى حيا في الأفكار،

وذكرى في الأفئدة،

ورمزا للأحرار،

ومحبة تُضفي بالعطر لكل أطفال وأبناء كردستان من عشاق الحرية في كل مكان.

إليك أيها القائد الإنسان محبتي وحبي بلا إنتهاء.