الإمام ابن حزم

--------------------------------------------------------------------------------

هو الإمام الحجة عند أهل الظاهر أبو محمد علي بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معد بن سفيان بن يزيد، مولى يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي، أصل جده من فارس، ولكنه ولد بمدينة قرطبة سنة 384 هـ من أسرة غنية رفيعة الشأن عريقة النسب، كان أفرادها من ذوي المجد والحسب والعلم والأدب.

كان والده أحمد بن سعيد من كبار الوزراء، فقد ولي الوزارة للحاجب المنصور بن أبي عامر، ثم وزر أيضاً لابنه المظفر الذي خلفه. وقد نشأ ابن حزم الابن في قصر أبيه نشأة المترفين المنعمين، فلم يعرف في طفولته وصباه الحرمان والحاجة.

ولم يضطر إلى بذل نفسه بالتملّق على أبواب السلاطين والأمراء والوزراء وابن حزم يذكر بنفسه بين ما أودعه في كتاب «طوق الحمامة في الألفة والألاف» الرقابة التي فرضها عليه أبوه، ويشير إلى العلماء الكبار الذين استجلبهم لتثقيفه وتعليمه وتهذيبه. وهو يذكر أيضاً أنه تلقى تربيته الأولى في رعاية بعض النساء العالمات من أهل بيته، وقيل: لعل هذا الأمر كان له الأثر في رهافة حسه وثراء وجدانه.

لم يطلب ابن حزم إذن العلم سعياً وراء الجاه والسلطان، وقد تربى في كنف أبيه في قصره، وإنما كان طلبه لتحصيل المعرفة عن إيمان عميق بها وبقيمتها، وهو أيضاً لما ارتمى في لجّة السياسة والفتن والمؤامرات، آثر أن يعود إلى ساحة العلم مثخناً بجراح المعارك السياسية ولعل القدر أراد أن يدفع بابن حزم في المعترك السياسي، رغم أن الشاب كان يتطلع إلى كسب العلم.

ففي مطلع القرن الخامس هاجم البربر قرطبة، ثم توفي والد ابن حزم بعد هذا الهجوم بقليل حوالي سنة 402ه، وكان ابن حزم آنذاك قد بلغ الثامنة عشرة من عمره.. فلما مات أبوه تولى ابن حزم زمام المدافعة عن الأسرة الأموية ضد جحافل البربر، فرحل عن قرطبة إلى ألمرية حيث جهد في توحيد الصفوف من أجل استعادة العرش الأموي المفقود. لكن حاكم ألمرية اعتقله وزج به في السجن ثم نفاه، فاضطر ابن حزم عندئذ إلى الهجرة، فتوجه إلى بلنسية.

وفي بلنسية صادف المرتضى الأموي وحارب معه في طلائع جيشه بغرناطة، لكنه وقع أسيراً سنة 403هـ وظل في أسره ولم يتمكن من العودة إلى قرطبة إلا بعد ست سنوات.

وكان أن تولى صديقه عبدالرحمن المستظهر الخلافة في رمضان عام 414هـ فاستوزره، ولكنه لم يبق في هذا المنصب إلا أياماً معدودة، فقد قتل المستظهر وسجن ابن حزم بعد أربعين يوماً من تقلده الوزارة، ثم عفى عنه وأعيد إلى الوزارة بين 418 و422ه. لكن الأمور السياسية لم ترق له فآثر ترك الوزارة وعاد أدراجه إلى سبيل العلم ينهل ويحصل.

وكانت وفاته في الثامن والعشرين من شعبان سنة 456هـ عن اثنين وسبعين عاماً، مخلفاً تراثاً عظيماً من الإنتاج العلمي بلغ فيما روى ابنه الفضل أربعمائة مجلد تشتمل على ما يقرب من ثمانين ألف ورقة، ضاع بعضها في حريق اشبيلية في عهد المعتضد بن عباد.

وإذا كان هناك من تحامل عليه في الأندلس، فأكثر منهم وأشد عنفاً مناوئوه والناقمون عليه بالمشرق، ولكنه ـ رحمه الله ـ كان جريئاً في الإعلان عن رأية، قوياً في تقرير ما يراه لا يعبأ بمخالفة من يخالف ولا موافقة من يوافق، وقد كانت زبدة آرائه ومواقفه مبنية على رفض التقليد.

واتباع آراء السابقين من رجال المذاهب دون تدبر ودون مراجعة مثل هذا السلوك يولد العداء ويغرس الحقد والحسد، لاسيما في نفوس أقرانه، وهذا شيء معتاد مكرور، فمن الأسى والأسف أن تكون المحاسدة والمغابنة والأحقاد من شيم العلماء وهم أولى المسلمين بنبذ هذه الأخلاق والتطهر منها لأنهم في موقع الأسوة والقدوة، فكيف يضيع بينهم الإنصاف والعدالة؟!!

وماكان سبب محنة الإمام أحمد بن حنبل إلا علماء عصره، وكذلك فتنة ومحنة الإمام ابن تيمية إلا بعلماء عصره، وكما ثبت الإمام أحمد واستعان ربه على ثباته، ثبت ابن حزم في وجه الاتهامات والزراية به وبما ارتضاه من منهج، وثبت كذلك ابن تيمية ولم يتزحزح عما ارتآه من آراء ما كان لأحد أن يعاقبه عليها بالسجن مرة وأخرى حتى وفاته.

وكل ذلك بمسعى من علماء لم يتنزهوا عن الصغائر..! ودائماً تبقى الخلافات في ذمة التاريخ، تحكم عليها الأجيال، لأن وجود الخلافات ظواهر صحيحة لأنه لا بد للعقول أن تختلف، إذا تحررت من أسر القوالب الجامدة، التي يراد دائماً طبع الأفهام عليها، لتكون نسخاً مكررة، لكن هناك من يشق هذه الشرانق، ويحرر عقله ليفكر ويتدبر ويستنتج ويستنبط ويخرج بما يهتدي به..!

قال الإمام محمد أبوزهرة في كتابه عن ابن حزم: (لم يعرف التاريخ قبل ابن حزم عالماً جمع بين ضروب العلم المختلفة ما جمعه ابن حزم، فهو الكاتب الأديب، وله خوض في علوم الفلسفة والمنطق وكان جريئاً فيها كما كان جريئاً في غيرها، فهو يخطئ أرسطو في منطقه وينهج في المنطق منهاجاً يخالفه.

ويتقصى التاريخ ويدونه متحرياً الحقيقة، وهو بذلك المؤرخ العميق النظرة، ويكتب في أدق أجزاء التاريخ وهو الأنساب، ويخرج من كل ذلك وهو العالم المحقق المستوعب..!

وهو مع هذا هو المحدث العظيم ـ أي العالم بالحديث رواية ودراية ـ الذي جمع أشتات الحديث، فيحفظها ويتقنها، وإذا كان قد أخذ عليه أنه دخل عليه أحاديث غير قوية، فإن ذلك لا يمنع عظم حفظه وإحاطته ومعرفته لأخبار الرجال وأحوالهم، وهو الفقيه الذي أحيا علم الظاهر، أو بعبارة أدق دلالة... أحيا علم الكتاب والسنة. وبين عمومها وشمولها لأحكام الأحداث التي تجري بين الناس، مهما يتغير الزمان، وإذا كان قد اختار المنهاج الظاهري منهاجاً فذلك لم يكن تقليداً.

بل لأنه المنهاج الوحيد الذي يتمكن به من بيان أحكام القرآن والسنة، سائغة للواردين، بليغة جليلة للقاصدين. من غير أن يزينها أو يزورها قياسٌ ـ في نظره ـ أو تأويل عقل بأمر غريب عنها وليس منها، كما يقرر هو.. فإنه ما دام يطلب علم الكتاب والسنة، وحدهما من غير حمل عليهما. فلا مناص له من أن يختار الرأي الظاهري منهاجاً له..!

وهو فوق ذلك العالم بالملل والنحل في غير الإسلام. والعليم بالفرق الإسلامية وأهل النجاة والسلامة منها، والعليم بوجوه الرد على غير المسلمين، والعليم بالفرق بين الفرق معرفة دقيقة، وكتابه«الفصل في الملل والنحل» فيصل في هذا الباب، إذ يناقشها بطريقته الصريحة الحرة غير سائر وراء أحد.

ولا ملتفت لقولٍ قاله عالم مهما تكن منزلته مادام يخالف ظاهر الكتاب والسنة، أو يأتي بقول لا يشتق منهما. ولا يعتمد فيه على صريحهما، هو في ذلك يبين للناس أنه لا يقصد في علم العقائد إلا ما كان ضاحياً بيناً ولا يقصد إلى المناهج المعقدة المتأثرة بمناهج اليونان. أو هي في ذاتها اقتباس منها.

ثم هو يناقش الفلاسفة ويسبق الغزالي إلى مناقشتهم وإدحاض حججهم، وبين بطلان اعتقاداتهم بأدلة منطقية من جنس أدلتهم..

وهكذا لا تجد باباً من أبواب العلم الإسلامي إلا خاض فيه ابن حزم خوض العارف بمراميه، المدرك بمغازيه، فيقبل الحق الذي يعتقده حقاً، ويرد في عنف ما يراه باطلاً، ويرد المسببات إلى أسبابها. والنتائج إلى مقدماتها، والأقوال إلى غايتها في قلم مبين مصور، وعبارة واضحة منيرة..!

ولم ينكر على ابن حزم تلك المنزلة من العلم أحد من معاصريه سواء أكانوا مخالفين له، أم موافقين، ولقد قال في ذلك ابن حيان معاصره، وليس ممن يتعاطف معه، (لم يكن بالسليم من اضطراب رأيه، ومغيب شاهد علمه، إلى أن يحرك بالسؤال فيتفجر منه بحر لا تكدره الدلاء)..!

ويقول أيضاً: (ولهذا الشيخ ـ أبي محمد ـ مع يهود لعنهم الله ومع غيرهم من أولى المذاهب المرفوضة من أهل الإسلام مجالس محفوظة، وأخبار مكتوبة وله مصنفات في ذلك معروفة من أشهرها في علم الجدل كتابه: «الفصل في الملل والنحل» وكتاب: (الصادع والرادع على من كفر أهل التأويل من فرق المسلمين) وكتاب: «الرد على من قال بالتقليدي).. إلخ كتبه وبحوثه في هذا المجال..!

وجاء في نفح الطيب: «كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة، مع توسعه في علم اللسان والبلاغة والشعر والسير والأخبار، أخبرني ابنه الفضل أنه اجتمع بخط أبيه من تواليفه أربعمائة مجلد..!

وقال الذهبي: كان إليه المنتهى في الذكاء وحدة الذهن، وسعة العلم بالكتاب والسنة والمذاهب، والملل والنحل والعربية والآداب والمنطق والشعر مع الصدق والديانة، والحشمة والسؤدد والثروة، وكثرة الكتب، حتى لقد قال الغزالي رحمه الله: (وجدت في أسماء الله كتاباً لأبي محمد بن حزم، يدل على عظم حفظه، وسيلان ذهنه)..!

ويقول عبدالواحد المراكشي في كتابه المعجب: (له مصنفات كثيرة جليلة القدر، شريفة القصد، في أصول الفقه وفروعه، على منهجه الذي يسلكه، ومذهبه الذي يتقلده. وهو مذهب داود بن علي بن خلف الأصبهاني الظاهري.

ومن قال بقوله من أهل الظاهر، ونفاه القياس والتعليل، بلغني عن غير واحد من علماء الأندلس أن مبلغ تصانيفه في الفقه والحديث والأصول والنحل والملل.

وغير ذلك من التاريخ والنسب وكتب الأدب والرد على المخالفين ـ نحوأربعمئة مجلد تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة، وهذا شيء ما علمناه لأحد، ممن كان في مدة الإسلام قبله، إلا لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، فإنه أكثر أهل الإسلام تصنيفاً»..!

وأخيراً فهذا ابن حزم في مقامه العلمي، قد أجمع العلماء على سعة علمه، وكثرة إنتاجه وقد آن لنا ونحن نكتب عن حياته وعلمه، أن نحفظ له حقه وقدره بين نجوم الفكر الإسلامي، فهو يمثل لوناً من الاعتزاز بالرأي وصدق الولاء لنبعي الإسلام المطهرين الكتاب والسنة مع الإلمام بكل الآراء المخالفة له في حينه.

وبذل الجهد في نقدها وتنفيذها، فإن أخطأ فهو خطأ اجتهادي، يثاب عليه ولو لم يكن من منهجه إلا رد التقليد ودفعه، لكان جديراً بكل تقدير واحترام.. رحمه الله رحمة واسعة