سورة طه.. سنن كونية تزيح غفلة معرفية

لا يوجد ردود
صورة  نون's
User offline. Last seen 11 سنة 23 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 17/04/2008


سورة طه.. سنن كونية تزيح غفلة معرفية

بقلم - الشيخ محمد الغزالي

في هذه الزاوية تتيح مدارك النص المكتوب لخواطر الشيخ محمد الغزالي رحمه الله حول سورة "طه" مأخوذا عن كتاب التفسير الموضوعي لفضيلته، كما تتيح كذلك تسجيلا صوتيا نادرا لخواطر الشيخ حول نفس السورة كان قد سجله فضيلته بالتليفزيون الجزائري منذ سنوات طويلة.

ومدارك إذ تتيح مثل تلك المواد فإنها تلفت الأنظار إلى نماذج مضيئة من المقاربات القرآنية والتي تختلف عما اعتاده المسلمون في تعاطيهم مع التفسير من حيث اهتمامها بالقضايا الكلية والسنن الكونية وتأثيرها في حركة الأمة المسلمة صعودا وهبوطا، وعدم الاقتصار على المعاني اللفظية أو البيانية.

التفسير الموضوعي لسورة "طه"

طه.. حرفان من حروف الهجاء، وليسا اسما للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولم يرد ذلك في حديث صحيح! وهما من الحروف المفردة التي بدأت بها سور شتى، والله أعلم بمراده منها!.

وقيل المراد إشعار العرب بأن القرآن كلام مكون من هذه الحروف التي تألفونها، ومع ذلك تعجزون عن الإتيان بمثله، وقد نزل القرآن الكريم وحيًا من السماء والصبغة السماوية ظاهرة في نظمه وهدفه، ولا يوجد له نظير في إثبات الوجود الأعلى والوحدانية المطلقة.

والقارئ النزيه يشعر بأن القرآن يسوق الناس سوقًا إلى ربهم، ويشرب قلوبَهم خشيتَه، ويغمر عقولهم بنوره، ويريهم الآخرة رأي عين، والإنسان الذي استقبل القرآن زاكي البصيرة، نقي الفطرة مشهور في الجاهلية الأولى بالصدق والأمانة، فما جرؤ ألد أعدائه أن يغمر شرفه، أو يقدح في سيرته.

وقد ظن النبي -عليه الصلاة والسلام- أن قومه مصدقوه حين يتلوه؛ لأنه ما كذب قط! بيد أن تعصبهم لمواريثهم حملهم على رفض ما جاء به، ونسبوه إلى الافتراء والجنون! والرجل الشريف عندما يتهم بما هو منه براء يحزن ويأسف، وقد يؤثر الضيق في صحته وينغص حياته، وذلك ما جعل رب العالمين يرحمه ويواسيه، لماذا تشقى بتكذيبهم؟ إنما أنت مذكر!! من تبعك نجا، ومن رفضك هلك: (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى (3) تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ العُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى) (سورة طه: 2 ـ 5).

وهذه الأوصاف المتتابعة في إجلال الله وإعظامه ترتد إلى القرآن النازل من لدنه فترفع قدره، وإلى الرسول المبلغ له فتعلى شأنه، والتبليغ وظيفة شاقة، ومواجهة المكذبين الجفاة أمر معنت، وتصبيرًا للنبي على لأوائه قيل له: لست وحدك الذي كلف بالتبليغ ومكابدة الخصوم المستكبرين، فقبلك موسى تحمل العنت في ملاقاة الفراعنة، وقيادة بني إسرائيل، وهم شعب غليظ الرقبة قاسي الطباع". وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى) (سورة طه).

وقصة موسى تملأ أكثر السورة، وهي تسرد أولاً كيف حاول هداية فرعون، ثم لقاءه مع السحرة، وكيف انتصر عليهم، وتسرد ثانيًا بني إسرائيل، والمتاعب التي تحملها من قومه..

ومع أن قصة موسى تكررت بضع عشرة مرة في الكتاب الكريم إلا أن سياقها يختلف اختلافًا كبيرًا في شتى مواضعه، وأنت واجد في كل موضع ما لا تجده في الموضع الآخر، فهنا يصف موسى عصاه وصفًا فيه إطناب السعيد بالحديث مع الله سبحانه: (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) (طه: 18).

ولا يوجد هذا الوصف في سورة أخرى، وانظر إلى وصف موسى لربه هنا، وهو يحدث عنه فرعون: (قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى) (سورة طه).

إن هذا الوصف فريد هنا، لم تشتمله قصة أخرى، وكذلك اطرد هنا حديث السحرة عن إيمانهم بالله وكيف تشبثوا به، وصبروا على آلامه: (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى (74) وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ العُلَى (75) (سورة طه)

وأعقب قصة موسى حديث عن الآخرة يقف له شعر الرأس، ويقذف بالرعب في الأفئدة: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً (106) لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلاَ أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111)) (سورة طه).

إن هذا الوصف يزلزل كبرياء الكفر، ويحمل الناس حملاً على الإيمان بالله، والاستعداد للقائه، وقد لفت نظر العلماء أن مادة الذكر والنسيان وردت في هذه السورة في عشرة مواضع:

1ـ في قوله تعالى: (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى)

2ـ (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)، وإقام الصلاة: أداؤها في جماعة تصطف لها، وتستعد بدنيًا ونفسيًا لتسبيح الله وتحيته، ففي الحديث "تسوية الصفوف من إقامة الصلاة".

3ـ ويقول موسى بعدما طلب هارون شريكًا له في أعباء الرسالة: (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً).

4ـ ويقول الله لموسى بعدئذ: (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي).

5ـ ثم يجعل الغاية من الإرسال أن يفيق فرعون من غشيته، ويتوب إلى ربه (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى).

6 ـ ويصف موسى علم الله بالكائنات في الأزل والأبد (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى).

7ـ والطريف أن السامري يصف العجل الذي صنعه ويقول معه المخدوعون به: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ)!!.

8ـ وفي التعقيب على قصة موسى مع قومه يقول الله لنبيه: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْراً).

9ـ ويقول الله تعالى في صفة القرآن الكريم وسر نزوله: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً).

10ـ ثم يقول في إخراج آدم من الجنة، بعدما كان مكرمًا فيها (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ثم يجيء هذا الإنذار العام للأفراد والجماعات (مَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى)

فسورة طه في سياقها كله تعرض لخطورة الغفلة عن الله، والبعد عن توجيهه، إن النسيان العارض لا يخاف على صاحبه، فسرعان ما يتذكر، إن المخوف أن ينسج النسيان غشاوة طامسة تعمى معها البصيرة، ويطيش بها الهوى، ويصير المرء بها حطبًا لجهنم..

والقصة الثانية في سورة طه هي قصة آدم، وقد بدأت بإظهار العلة في انهياره أمام إبليس ثم طرده من الجنة، لقد غامت رؤيته وضعفت إرادته، أو بتعبير القرآن الكريم (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) إنه كان صاحيًا واعيًا عندما نهى عن الأكل من الشجرة، لكنه على مر الأيام أخذ ينسى، وتنفك إرادته، وتشتد رغبته، ويستمع إلى الوساوس الكاذبة التي بثها إبليس في نفسه، خلود طويل، وملك عريض إذا أكل من هذه الشجرة: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى)

وأقبل آدم على الشجرة المحرمة يأكل منها، وأغرى امرأته فتبعته وطردا جميعًا، والسياق القرآني جازم في أن آدم هو المسئول، وذنب امرأته أنها لم تقاومه وتنصحه، وقد فقد آدم النعيم وفقدته معه امرأته، ونزلا معًا إلى الأرض ليبدءا حياة مليئة بالمعاناة والشدائد، والقصة الأولى تتكرر كل يوم في حيوات الأبناء!

إن النسيان يغلبهم فيجيء بعده السقوط، والجنة لا يرشح لها إلا ذاكر واضح الرقابة لله، عازم لا تنحل عقدته أمام المغريات! ومن فضل الله أنه فتح أبواب التوبة أمام العاثرين حتى لا يحرموا رضاه إلى الأبد، إذا زلت منهم الأقدام! فأما الذاهلون عن الله الصادون عن سبيله فلهم جزاء آخر: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى)

ومع أن الدنيا ليست دار الجزاء إلا أن الله سبحانه قد يعجل للأشرار بعض العقاب، كما يعجل للأخيار بعض الرضا، عدلاً منه وفضلاً، وننظر إلى آخر السورة فنراه متصلاً بأولها اتصالاً وثيقًا، هؤلاء الذين آذوا رسول الله وملئوا بالحزن قلبه، ألا يخشون المصير الذي انتهى إليه أسلافهم؟ (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ القُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى)

إن المعركة محتدمة بين الحق والباطل من بدء الخليقة، ومع أن حضارات بادت بما اقترفت من آثام، ومع أن الحق لم تخف معالمه مع ضراوة الحملات التي شنت عليه، فإن الأعقاب لم يرعووا عن غوايتهم، ولم يتركوا ألوية الهدى تسير!، ومع قصر حياتي بالنسبة إلى الزمان الطويل فقد رأيت مصارع الشهداء، ماتوا كي تبقى الحقيقة، ورأيت دولاً لطواغيت نسوا الله والمرسلين، بيد أن الحياة كر وفر، ومهما طالت الخصومة فالبقاء للأصلح: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ)

وقد وضع الله سننًا لهذا الصراع الدائم، لا تلين مع عجلة المعجلين، ولا تطيش مع غرور المعتدين، وهذا معنى قوله: (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى) إن هناك نظامًا مضت به السنن العليا لا يلين ولا يزغ..

ثم اتجه الحديث بعد ذلك إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يواسيه.. بم؟ بالصبر وبتسبيح الله وتحميده، وهذا يشبه ختام صورة الحجر (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) والاستغراق في الحق يضيق المكان أمام الباطل فلا يبقى له متسع يستقر فيه.

ولذلك قال الله لرسوله هنا: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) أي حتى لا تشقى من آلام التكذيب الذي يلقاك به الكافرون، والمرسلون ـ وجملة الدعوات ـ لا مسلاة لهم إلا في توكيد علاقتهم بالله واستمداد الأنس منها (وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) ربما كان الكافرون والعصاة أوفر حظوظًا في الدنيا وأكثر استمتاعًا بها! فلا قيمة لهذا ولا اعتداد به، فمصيره الهلاك.

وقد سبق قول الكافرين مفتخرين بما أوتوا: (أَيُّ الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِياًّ (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً) وقد حكت السنة الشريفة أن عمر ـ رضي الله عنه ـ تألم حين رأى عيدان الحصير مطبوعة على جلد رسول الله وهو نائم في فراشه الخشن، وتذكر متعة كسرى وقيصر في الأثاث الفاخر والدنيا العريضة، ولكن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أفهمه أن هؤلاء قوم عجلت لهم طيباتهم فلا نأسى عليها (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى).

والأفضل والأشرف أن تنار البيوت بأضواء العبادة وطهرها، وأن يسودها جو التقوى والإقبال على الله، فيخرج أهلها منها وهم يحملون للناس الأدب والعفاف، لذلك قال الله لنبيه: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) ورجالات الإسلام لا ينافسون إلا في المكارم، ولا تصدر بيوتهم للناس إلا الأسوة الحسنة، والدهماء تشغل نفسها بما ضمن لها من رزق تكاد تموت وراءه من الهم، ولا تكثرت بما كلفت به من واجبات، وهذا -كما قال ابن عطاءـ من انطماس البصيرة.

وعاد الكلام مرة أخرى إلى مشركي مكة فذكر تطلعهم إلى معجزة تقنعهم بصدق الرسول! ماذا يريدون؟ أن ينقل الصفا ذهبًا مثلاً؟!! ولو انقلب.. ما آمنوا، سيتخطفون سبائكه وينفقونها في الملذات!!.

لقد جاءتهم المعجزة الدامغة المجدية فما أحسنوا النظر فيها "وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى"؟ إن الله خصمهم بكتاب جمع فيه كل الحكم التي تناثرت على ألسنة الأنبياء الأولين، فهلا انتفعوا بها؟ أليست لهم عقول؟ وإذا أخذهم الله بضلالهم وأنزل بهم العذاب، صاحوا: ما جاءنا من نذير!! هلا جاءنا من يوقظنا من سباتنا؟ لقد جاءكم نذير مبين فتصاممتم عن سماعه، فانتظروا العقبى "قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى

ن والقلم وما يسطرون