جمع القرآن
مقدمة
آعتاد المسلمون منذ قرون عديدة على الفكرة القائلة ان القرآن بقي محفوظا في نصه الاصلي منذ زمن الرسول محمد إلى يومنا هذا بدون أن يَمسًّه أي تغيير أو نقصان أو إضافة من أي نوع كانت و بدون أي تغيير في طريقة قراءته. في الوقت ذاته يعتقد المسلمون أن هذا الكمال المزعوم للنص القرآني هو دليل على أصله الإلهي بدليل أن الله وحده استطاع الحفاظ على هذا النص. لقد أصبح هذا الشعور جد قويا عندهم لدرجة أنه نادرا ما نجد باحثا إسلاميا يقوم بتحليل نقدي لموضوع جمع القرآن حيث أنه كلما ظهرت بوادر محاولة مثل هذه فهي تُقمَعُ في حينها.
لكن ما الذي سنَسْتَنْتِجُه إن نحن استعرضنا الوقائع و المعطيات المتوفرة لدينا حول جمع القرآن في بداية العهد الاسلامي؟
حين نضع الانفعالات العاطفية جانبا و نقوم بتقييم موضوعي للمعطيات التاريخية المتوفرة لدينا فإننا نصل إلى استنتاج مناقض تماما لما يزعمون. سيظهر لنا من خلال هذا الكتاب أن ما دُوِّن في إطار الإرث الإسلامي كاف للبرهنة على أن القرآن كان في وقت من الأوقات يحتوي على عدد مختلف من الآيات بل أحيانًا على مقاطع كاملة لا توجد في الَّنص القرآني الحالي. زيادة على هذا فقد كان هناك عدد جُّد مهم من القراءات المختلفة قبل أن يُقَرِّر الخليفة عثمان بن عفان آستأصالها جميعًا و الاحتفاظ بالمصحف الذي وصلنا.
في سنة 1981 نشرت كتيبا عنوانه "The Textual History of the Quran" كرد على منشور ٍاسلامي حاول الطعن في موثوقية الإنجيل. فبالرغم من أن هذا البحث اتجه أساسا نحو تكذيب ما قيل في موضوع الإنجيل إلا أنه لا يخلو من أدلة تثبت أن نقل القرآن لم يكن أبدا أوثق من نقل الإنجيل.
في سنة 1986 نُشر مقالان في مجلة "البلاغ" حاول صاحباهما الرد على كتيبي السالف الذكر. أحد هذين المقالين كتبه الدكتور كوكب الصديق الباحث الإسلامي المتمركز في أمريكا و الآخر كتبه الباحث الجنوب إفريقي عبد الصمد عبد القادر. يكفي هنا أن نشير إلى أننا سنعود لهذين المقالين بالتفصيل لاحقا.
بعد أبحاث دقيقة في الموضوع أصدرت كتيبا أخر في سنة 1984 عنونته "Evidences for the Collection of the Quran". هذا المؤَلَّف أثار بدوره رد فعل بعض العلماء المسلمين تُوِّج بنشر كتيب سنة 1987 من طرف "مجلس العلماء" لجنوب إفريقيا لكن مع الأسف لم يذكر المؤلف إسمه إلا أنني علمت أن الأمر يتعلق بالمدعو "مولانا ديزاي" (Maulana Desai) القاطن بمدينة بورت إليزابث و سأشير ٍاليه على هذا الأساس.
هذا الكتاب ألف أساسا ليكون تأكيدا للحجج التي قدمت في منشوراتي السابقة و كذلك الاستنتاجات المستخلصة منها و ليكون في نفس الوقت تقييما للأجوبة الثلاث الصادرة عن العلماء المسلمين السالفي الذكر و تفنيدا لمقولاتهم.
إحدى المصاعب التي يواجهها كاتب في مثل هذه الحالة تتجلى في الحساسية المحيطة بهذا الموضوع في الأوساط الاسلامية. إن الشعور السائد عند جل المسلمين يُعتقد على أساسه أن الأصل الالهي للقرآن برهانه يكمن في الطريقة المثالية التي تم بها إيصاله إلينا عبر العصور. هذا الشعور يؤدي إلى الإحساس بالخوف من كون أي دليل على عكس ذلك قد يكون برهانا على عدم ألوهيته.
هذا ما يمنع العلماء المسلمين من التطرق لهذه المسألة بروح موضوعية و من خلال البحث في المعطيات الخالصة بل نلاحظ أن هناك رغبة مسبقة في البرهنة بأي وسيلة كانت على الشعور السائد الذي يتمثل في الفرضية القائلة إن نص القرآن بقي محفوظا بطريقة مثالية. لذلك فإن العاطفة تلعب الدور الأهم كلما تعلق الأمر بموضوع القرآن و ليس من المستغرب أن نجد العلماء المسلمين الثلاثة المذكورين سالفا لا يستطيعون التعامل معي و مع كتاباتي على مستوى البحث العلمي المحض و لا على مستوى الوقائع. لهذا نجد الدكتور كوكب الصديق في مقدمة مقاله المعنون "يقول داعية الكذب المسيحي إن القرآن ليس قول الله" (مجلة البلاغ ‚ مجلد 11 عدد 1 فبراير/مارس 1986) يحاول مهاجمتي بكل ما أوتي من حسن اللسان حيث يقول "السيد جلكرايست يحاول تحطيم البنيان القوي للقرآن من خلال جدال حقير لا يليق بالمسألة. الطريقة التي يستعملها توضح لنا هزالة الوسائل التي بحوزته و الوقاحة التي تميز تهجمه تظهر لنا أنه يستند الى استغلال فرصة عدم وجود أية دراية بالموضوع لدى المسلمين" في حين يصفني ناشر المجلة بأنني "عدو صريح للإسلام يهذف إلى تحطيم بنيانه".
مقال السيد عبد القادر عبد الصمد نشر تحديدا في العدد الموالي لنفس المجلة تحت عنوان "كيف تم جمع القرآن؟" (مجلة البلاغ ‚ مجلد 11 عدد 2 ماي/يونيه 1986). في نهاية هذا المقال يصف الكاتب الباحثين من أمثالي بأنهم "أعداء القرآن المجنونون" تحركهم "الغيرة و البغض و العداء و النوايا السَّامة" لا غير.
أما مولانا ديزاي فقد اعتبر هو كذلك في منشور له تحت عنوان "القرآن فوق كل اتهام" أنه من الضروري فضح محاولتي و استغنى عن تقديم الدلائل على مزاعمه و اكتفى بالشتم. يزعم هذا الكاتب أنني "قررت نفي أصالة القرآن المجيد" عوض أن يتخد منهجا أكثر توازنا قد يؤدي به لا محالة الى اعتبار أنني حاولت فقط أن أركز على المعطيات المتعلقة بموضوع جمع القرآن بدون أية فكرة مسبقة. فقد ذهب الى حد القول إن "مزاعمه لا أساس لها" و في مكان ما يقول "إن جلكرايست سيلعن نفسه" و في مكان آخر يتهمني بأني أعاني من "جهل كبير" وبأنني "ذو عقلية لا تقبل النقاش".
ردود فعل انفعالية مثل هذه تكشف عن خوف العلماء المسلمين من أية دراسة تاريخية محضة لموضوع جمع القرآن نظرا لأنها قد تؤدي إلى نفي ما يزعم من أن القرآن جُمع و احتُفظ به في ظروف مثالية.
في هذا الكتاب سأبدل كل جهدي لمعرفة الى أي حد تم نقل و توصيل النص القرآني بطريقة كاملة و دقيقة. هذه الدراسة لن تكون إلا إبرازا للمعطيات المدوَّنة. إن مسألة الأصل الإلهي للقرآن لا يمكن حلها باعتبار طريقة نقله و توصيله و إنما تكون بدراسة مضمونه و تعاليمه. ما يهمنا هنا هو فقط استخلاص الدقة التي تم بها تأليفه و جمعه. أما إذا كان هناك علماء مسلمون كالذين تم ذكرهم سالفا يشعرون أن دراسة مثل هذه تحطم اقتناعاتهم بأن القرآن من عند الله (ديزاي يتهمني مرارا بأنني أهدف الى "نفي سلامة القرآن الشريف من التحريف") فهذه مشكلتهم لأنهم ينطلقون من الفرضية القائلة بأن جمعا و نقلا مثاليين يضمنان الأصل الالهي لكتاب ما.
لا أجد مبررا للرد على هؤلاء العلماء المسلمين بعبارات شاتمة كالتي استعملوها ضدي لأنني أمتلك الحرية الكاملة للخوض في هذا الموضوع بدون أية عراقيل نفسية و بدون أية فرضية أو فكرة مسبقة. زيادة على هذا فأنا أعتقد أنه إذا لم يكن كتاب ما من عند الله فلا يمكن لأي دليل كيفما كان نوعه أن يغير هذا الامر. إن هؤلاء العلماء يحاولون البرهنة على فرضية محضة و هذا ما يتضح من خلال طريقة تعاملهم مع الموضوع. كل واحد منهم حاول التطرق للمسألة بشكل جد مختلف عن الآخرين. الصديق و ديزاي يتناقضان بشكل مكشوف في نقاط عديدة بالرغم من أن كلاهما يحاول التوصل لنفس النتيجة ألا و هي كمال النص القرآني و خلوه من النقصان. هذه المعضلة لا يمكن تفسيرها إلا بشيء واحد و هو أنهما يبذلان جهذهما للانتهاء إلى حيث بدءا أو بعبارة أخرى للرجوع في النهاية إلى ما افترضاه في البداية و هو ما ذكر سالفا.
من المفيد أن نقوم بجرد سريع لمواقف هؤلاء العلماء كل واحد على حدة :
1-الدكتور كوكب الصديق
الصديق يتخد الموقف الاسلامي الرسمي. العبارة "نص واحد لا اختلاف فيه" هي ما عَنْوَنَ به جزأ من مقاله و هو ما يلخص مراده بوضوح. الفرضية تتجلى في القول بوجود نص قرآني واحد لم يضف إليه شيء و لم يقتطع منه شيء و لم يكن أبدا أي اختلاف في طريقة قرآءته. لقد كان على هذا الكاتب أن يقدم بعض الاستفسارات حول ما جاء في الحديث النبوي ( وهو من أقدم ما دُوِّن في موضوع جمع القرآن) بخصوص حرق الخليفة عثمان لجميع المصاحف القرآنية باستثناء مصحف حفصة (1) بسبب وجود اختلافات عديدة في كيفية قرآءة القرآن في المناطق المختلفة التي كانت تحت النفوذ الاسلامي. الصديق يزعم أن الاختلافات همت فقط طريقة تلاوة النص و هذا برهان يَسْتَدِل به زمرة من العلماء المسلمون. سنرى فيما بعد أن هذا التدليل غير مقنع بل لا أساس له من الصحة. الصديق يفضل السكوت عن الأحاديث النبوية التي تظهر بوضوح أن القرآن الذي هو اليوم بين أيدينا هو بشكل أو بآخر غير مكتمل.
2-عبد الصمد عبد القادر
يفضل هذا الباحث المرور مَرَّ الكرام على الأدلة الثاقبة التي يمكن استخلاصها من الحديث النبوي كما لو كانت غير موجودة بتاتاً و لهذا فإننا لا نجد أي ذكر لها في مقاله. بالمقابل نجده يحاول البرهنة على أن القرآن يحتوي على شهادة كافية بخصوص طريقة جمعه. سأتطرق إلى هذه المسألة في نهاية الجزء الرئيسي من هذا الكتاب مع العلم أنه عموما لا يؤثر على الموضوع الذي نحن بصدد دراسته.
3-مولانا ديزاي
بالرغم من الشتائم التي وجهها إلي فهو يعترف بموثوقية و صحة أغلب الحقائق التي قدمتها و يعترف بأنه كانت هناك بالفعل اختلافات نصية في المصاحف الاولى و بأن عددا من المقاطع التي كانت ضمن القرآن فقدت منه لاحقا. بخصوص الاختلافات في القراءة يعتمد ديزاي على حديث نبوي واحد يروي أن محمدا قال إن القرآن نزل من عند الله على سبعة أشكال لغوية و لهذا فهو يزعم أن كل هذه القراءات قد شرعها الله و هي التي تشكل ما يعرف ب"الأحرف السبع" و يتقبل ببالغ السهولة فكرة أن عثمان قام بالفعل بتنحية مصاحف موثوقة و نجده يبرر هذا الإجراء بكونه هدف إلى ضمان اتساق في القراءة. سنرى فيما بعد أن تفكيرا كهذا يعرض صاحبه إلى تناقضات خطيرة. بخصوص المقاطع المفقودة من القرآن يعترف ديزاي بوجودها كما ذكرنا سالفا لكن يزعم أن الله نسخها ولذلك فهي لا توجد ضمن النص القرآني الحالي. لي اليقين أن هذه المزاعم لن يستسغيها لا كوكب الصديق و لا عبد الصمد عبد القادر و نفس الشيء بالنسبة لما تعلق بالقراءات المختلفة. و مع هذا أجد نفسي مضطرا للقول بأن المولانا هو الوحيد من بين الثلاثة الذي استطاع الإعتراف بإخلاص بموثوقية الأحاديث التي تحكي عن كيفية جمع القرآن. بالرغم من أنني أعتبرأن حججه غير مقنعة كما سنرى لاحقا إلا أنني أجد أن تقبله للحقائق التاريخية أمرا مسعدا.
في نهاية هذا الكتاب سأقدم عرضا موجزا عن المصاحف القرآنية الاولى التي استطاعت أن تصلنا. هذفي من هذا هو تحديد إمكانية وجود أحد المصاحف العثمانية التي تنوقلت بعد تنحية المصاحف الأخرى. يتضمن هذا الكتاب صورا لأقدم المصاحف التي وصلتنا وبالخصوص تلك التي بقيت من القرن الثاني للهجرة قبل أن يشيع استعمال الخط الكوفي في شكله المتطور في أوساط الخطاطين و يصبح معيارا إلى أن عوض بالخط النسخي.
لي الثقة بأن هذا الكتاب سيكون بمثابة إسهام في التقييم الحقيقي لمسألة جمع القرآن في بداية التاريخ الإسلامي من خلال دراسة موضوعية للمعطيات المتوفرة لدينا. لن أعتدر عن كون دراستي هذه لا تأخذ بعين الإعتبار الشعور السائد في الأوساط الإسلامية كما ذكر سابقا و أتمنى أن لا تؤدي إلى ردود فعل انفعالية كتلك التي صدرت كجواب على منشوراتي السابقة. أؤكد مرة أخرى أن هذفي هو الوصول إلى خلاصة مضبوطة و مبنية على الحقائق بخصوص موضوع جمع القرآن لا غير. أنا لست "عدوا صريحا للإسلام" تسيطر عليه رغبة جنونية للإستهزاء بالقرآن أو نفي سلامته من التحريف بأي وسيلة كما يفترض بعض الكتاب الإسلاميين.
جون جلكرايست
29 يناير 1989
________________________________________
(1) ابنة عمر ابن الخطاب و كانت من أزواج محمد
رجوع
المصادر المستعملة
أستفدنا في تأليف هذا الكتاب من عدة دراسات و مراجع يبدو لنا من الائق أن نقدمها حسب أهميتها و علاقتها بالموضوع و حسب نوعيتها -مراجع رئيسية أو مراجع ثانوية- و كذلك حسب كونها قديمة أو حديثة. باستثناء القرآن الذي يحتوي على بعض الإشارات إلى طريقة جمعه في عهد محمد فإن المصادر المباشرة المتعلقة بجمع القرآن هي أساسا كتب السيرة النبوية التي ألفت في فترة مبكرة و كتب الحديث. بالإضافة نجد أعمالا أخرى ألفت في المراحل التالية من طرف كبار المؤرخين المسلمين. هذه المؤلفات تعطينا معلومات مهمة حول جمع نص القرآن.
المصادر التي استعملت هي :
1-كتب السيرة النبوية
أقدم الكتب التي دَوِّنت تفاصيل جمع القرآن هي التراجيم الثلاثة المعروفة بكتب السيرة النبوية
-سيرة رسول الله لمحمد بن إسحاق (اعتمد عليه بن هشام في تأليف كتاب السيرة النبوية)
-كتاب الطبقات الكبير لمحمد بن سعد
-كتاب المغازي لمحمد بن عمر الواقدي
2-كتب الحديث
المصادر التالية التي دَوِّنت حياة محمد وكذا مراحل جمع القرآن تتجلى في كتب الحديث التي ينظر إليها في الأوساط الإسلامية على أنها تأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن من حيث الأهمية و الموثوقية. المؤلفات الآتية استعملت حين تأليف هذا الكتاب :
-صحيح البخاري لمحمد بن اسماعيل البخاري
-صحيح مسلم لمسلم بن الحجاج
-سنن بن أبي داوود لسليمان بن أبي داوود
-الجامع الصحيح لأبي عيسى محمد الترمذي
-الموطأ لمالك بن أنس
-السنن الكبرى لأبي بكر أحمد البيهقي
3-كتب التفسير
بعد الفترة التي ظهرت فيها المراجع المذكورة سابقا كُتب عدد من مؤلفات التفسير التي كانت بمثابة شروح و تعالييق حول القرآن كتبها كبار المؤرخين المسلمين. أشهر هذه المؤلفات "جامع البيان في تفسير القرآن" لأبي جعفر الطبري. {استُفيد من هذا الكتاب بطريقة غير مباشرة من خلال المراجع الحديثة} رغم أن كتاب الطبري قُصد به التفسير بالدرجة الأولى إلا أنه يحتوي على معلومات بالغة الأهمبة حول جمع القرآن في الحقبة الأولى. ألشيء نفسه نجده في كتب التفسير الأولى.
لقد كان من الضروري الرجوع إلى الكتابين التاليين نظرا لاحتواءهما على معلومات بالغة الأهمية رغم أنه لا علاقة مباشرة لهما بالتفسير القرآني :
-كتاب المصاحف لابن أبي داوود
-الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين السُيوطي
النسخة اللوحيدة المتبقية من كتاب المصاحف توجد حاليا بمكتبة الزاهرية في دمشق. آستنسخ هذا المؤَلف مرتين و إحدى النسختين آستعملها Arthur Jeffery في نشر كتابه Materials for the History of the Text of the Quran و هذا هو النص المشار إليه في هذا الكتاب.
4-كتب معاصرة تطرقت لموضوع جمع القرآن
بعض الكتب المعاصرة آهتمت بموضوع جمع القرآن نذكر من بينها :
-Beeston, A.F.L. & others. Arabic Literature to the End of the Umayyad Period. Cambridge University Press, Cambridge, England. 1983.
-Burton, J. The Collection of the Qur'an. Cambridge University Press, Cambridge, England. 1977. 13
-Jeffery, A. Materials for the History of the Text of the Qur'an. AMS Press, New York, United States of America. 1975. (E.J. Brill, 1937).
-Jeffery, A. The Qur'an as Scripture. Books for Libraries, New York, USA. 1980 (1952).
-Noeldeke, T. Geschichte des Qorans. Georg Olms Verlag, Hildesheim, Germany. 1981 (1909).
-Von Denffer, A. 'Ulum al-Qur'an: An Introduction to the Sciences of the Qur'an. The Islamic Foundation, Leicester, England. 1983.
Watt, W.M. Bell's Introduction to the Qur'an. Edinburgh University Press, Edinburgh, Scotland. 1970.
كتاب Geschichte des Qorans نشر أصلا في ثلاث مجلدات غير أن المجلدين الثاني و الثالث هما اللذان لهما علاقة مباشرة بالموضوع. المجلد الثاني تحث عنوان Die Sammlung des Qorans كتب من طرف نولدكه و شفالي Noeldecke & Schwally. هذا الجزء يتطرًّق لموضوع جمع القرآن بمعنى الكلمة بينما الجزء الثالث المعنون Die Geschichte des Korantext الذي كتبه برتزل و برغشتراسر Pretzl & Bergstrasser يتمحور حول كتابة القرآن و القراءات المختلفة. الجزءان يتطرقان بشكل مطول إلى نسختي عبد الله بن مسعود و أبي بن كعب اللتان أحرقتا بأمر من الخليفة عثمان بسبب آختلافهما عن النص القرآني الذي أُريد له أن يكون نصا رسميا أي Textus receptus و هذا هو النص الذي آستطاع أن يصل إلينا عبر التاريخ الإسلامي.
5-مقالات حول موضوع جمع القرآن
لقد رجعنا إلى بعض المقالات التي نشرت في The Muslim World التي نشرتها Hartford Seminary Foundation بالولايات المتحدة الأمريكية. المراجع المذكورة هنا هي تلك التي توجد في المجلدات التي أعيد نشرها من طرف Kraus Reprint Corporation بنيويورك سنة 1966. المقالات المتعلقة بموضوع جمع القرآن و بالمصاحف الأولى هي كالتالي :
-Caetani, L. Uthman and the Recension of the Koran. Volume 5, p.380. (1915).
-Jeffery, A. Abu Ubaid on Verses Missing from the Qur'an. Volume 28, p.61. (1938).
-Jeffery, A. Progress in the Study of the Qur'an Text. Volume 25. p.4. (1935).
-Margoliouth, D.S. Textual Variations of the Koran. Volume 15, p.334. (1925).
-Mendelsohn, I. The Columbia University Copy of the Samarqand Kufic Qur'an. Volume 30, p.375. (1940).
-Mingana, A. The Transmission of the Koran. Volume 7, p.223. (1917).
بالإضافة إلى هذه الأعمال سنرجع باستمرار و على الخصوص في المقدمة إلى الدراسات التالية التي نشرت في جنوب إفريقيا :
-Abdul Kader, A.S. How the Quran was Compiled. Al-Balaagh, Vol. 11, No.2, Johannesburg, South Africa, May/June 1986.
-Desai, Maulana. The Quraan Unimpeachable. Mujlisul Ulama of South Africa, Port Elizabeth, South Africa. May 1987.
-Siddique, Dr. Kaukab. Quran is NOT Allah's Word says Christian Lay Preacher. Al-Balaagh, Vol. 11, No. 1, Johannesburg, South Africa. February/March 1986.
________________________________________
رجوع
الفصل الأول
المرحلة الأولى لجمع القرآن
1-تطور القرآن في عهد محمد
أي بحث في موضوع جمع القرآن يجب أن يبدأ بالنظر في مميزات الكتاب نفسه كما بلَّغه محمد إلى أصحابه. لم يُبَلَّغ القرآن أو يوحى كما يعتقد المسلمون مرة واحدة بل جاء على أجزاء خلال فترة من الزمن دامت 23 سنة امتدت منذ بدأ محمد يدعو للإسلام في مكة سنة 610 ميلادية إلى وفاته في المدينة المنورة سنة 632 ميلادية. ففي القرآن نفسه نجد : "قال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا"(سورة الفرقان 25 الآية 32)
زيادة على هذا لم تصلنا لا من محمد ولا من أصحابه أية معلومات عن الترتيب الزمني للفقرات حيث أنه حين بُدِءَ في جمعها على شكل سور لم يؤخد بعين الإعتبار لا الموضوع و لا التسلسل من حيث النزول. كل العلماء المسلمون يُقِرُّون بأن جل السور و على الخصوص الطويلة منها هي خليط من المقاطع التي ليست بالضرورة متصلة ببعضها البعض حسب التسلسل الزمني. مع مرور الوقت أصبح محمد يقول لكُتَّابه : "ضعوا أية كذا في موضع كذا" (السيوطي‚ الإتقان في علوم القرآن م 1 ص 135) و هكذا أصبحت تضاف إلى الأجزاء التي كانت مجموعة أنذاك مقاطع أخرى إلى أن تصبح سورة مكتملة. بعض هذه السور كانت لها أسماء في عهد محمد كما يتبين لنا من خلال الحديثين النبويين التاليين :
"من قرأ هاتين الأيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" (كتاب صلاة المسافرين‚ صحيح البخاري حديث رقم 1341)
"من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصِمَ من الدجال" (نفس المرجع‚ حديث رقم 1342)
في الوقت ذاته هناك دلائل على وجود سُوَرٍ لم يعطها محمد أية أسماء. فسورة الإخلاص (رقم 112) على سبيل المثال لم يُسَمِّها محمدٌ على الرغم من أنه تكلم عنها مُطَوَّلا و ذكر أنها تساوي ثلث القرآن (الحديثين 1344 و 1346 من كتاب صلاة المسافرين‚ صحيح مسلم)
حين صارت الآيات القرآنية تتكاثر أصبح أصحاب محمد يكتبون بعضا منها و يحفظون البعض الآخر عن ظهر قلب. فمن الظاهر أن الحفظ كان يشكل الطريقة الرئيسية للحفاظ على نص القرآن لأن كلمة "قرآن" تعني "القرآءة" و لأن أول كلمة قال محمد أنها نزلت عليه حين حصلت له رؤيا جبريل في غار حراء كانت هي كلمة "إقرأ" (سورة 96 الآية 1 فكانت القراءة الشفهية ذات قيمة عالية و كانت جد متداولة بين الناس. مع كل هذا ففي القرآن نفسه ما يدل على أنه مُدَوَّنٌ كِتابيا كما تشهد الآية التالية :
"في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي كرام بررة" (سورة عبس 13-16)
هناك أيضا حجج على أن أجزاء من ما كان موجودا من القرآن في المرحلة المكية كتب آنذاك. هناك رواية تحكي أن عمر بن الخطاب حين كان لا يزال كافرا ضرب أخته في بيتها بمكة حين سمعها تقرأ بعض القرآن فلما رأى ما أصابها من الدم قال لها : "اعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد" (سيرة بن هشام مجلد 2 صفحة 190) () و حين قرأ قسطا من سورة طه (السورة 20) التي كانت أخته و زوجها يقرآنها قرر الدخول في الإسلام. مع هذا يتضح لنا أن الحفظ كان هو المنهج السائد إلى حين وفاة محمد و كانت تعطى له أهمية أكبر. ففي الحديث النبوي ما يدل على أن جبريل كان يحقق و يراجع القرآن مع محمد كل سنة خلال شهر رمضان و في السنة الأخيرة راجعه معه مرتين. عن فاطمة ابنة محمد :
"أسر النبي صلعم أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة و أنه عارضني العام مرتين و لا أراه إلا حضر أجلي " (صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن 4612)
لقد كان بعض الصحابة المقربون من محمد يكرسون كل جهدهم لتعلم القرآن حفظا عن ظهر قلب. من بين هؤلاء نجد من الأنصار أبي بن كعب و معاذ بن جبل و زيد بن ثابت و أبو زيد و أبو الدرداء (صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن 4620) بالإضافة إلى مجمع بن جارية الذي قيل أنه لم يحفظ إلا بضعة سور في حين كان عبد الله بن مسعود و هو من المهاجرين و من أوائل الصحابة يحفظ أزيد من تسعين سورة من بين السور المائة و أربعة عشر التي يحتويها القرآن و تعلم البقية من مجمع (بن سعد كتاب الطبقات الكبير مجلد 2) (1)
لا تتوفر لدينا أية معلومات كافية عن مقدار ما تمت كتابته من نص القرآن في عهد محمد. فبالتأكيد ليس هنالك أي دليل على أن مجموع القرآن كتب آنذاك في مصحف واحد سواء تحت الإشراف المباشر لمحمد أو غيره. من خلال المعلومات التي نتوفر عليها حول جمع القرآن بعد وفاة محمد (سنستعرضها قريبا) نستنتج أن القرآن لم يتم أبدا وضعه في مصحف واحد في عهد محمد. توفي هذا الأخير فجأة سنة 632 ميلادية بعد مرض لم يدم طويلا و بوفاته اكتمل القرآن و انقضى نزوله و لم يعد من الممكن إضافة آيات أخرى إليه نظرا لانتهاء نبوة محمد. حين كان لا يزال على قيد الحياة كانت هناك دائما إمكانية نزول أجزاء جديدة من القرآن و لهذا لم يكن من الائق جمع النص في كتاب واحد و هو أيضا ما يفسر كون القرآن بقي مفرقا بين ما في ذاكرة بعض الناس و ما في مختلف المواد التي كان مكتوبا عليها وقت وفاة محمد.
سنرى فيما بعد أنه بشهادة القرآن نفسه كان من الوارد نسخ بعض الآيات خلال فترة النزول (بالإضافة إلى ما تم نسخه من قبل) و هذا ما يحول دون جمع النص في كتاب واحد ما دامت إمكانية نسخه قائمة.
إضافة إلى كل هذا يظهر لنا أنه لم تكن هناك سوى نزاعات قليلة حول نص القرآن فيما بين الصحابة حين كان محمد لا يزال على قيد الحياة خلافا لما سيقع بعد موته. كل هذه العوامل تفسر غياب نص قرآني رسمي و موحد وقت وفاته. إمكانية نسخ أجزاء من القرآن و احتمال نزول آيات جديدة -لا يوجد في القرآن ما يدل على تمامه أو على آستحالة نزول آيات جديدة- حالا دون محاولة جمعه خلافا لما قام به أصحاب محمد بعد موته. يتبين كذلك أن الآيات القرآنية صارت تنزل على محمد بشكل مكثف قبيل وفاته و لذلك آستمنع جمعها.
"حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِي اللَّهم عَنْهم أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَابَعَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيَ قَبْلَ وَفَاتِهِ حَتَّى تَوَفَّاهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ الْوَحْيُ ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ"(صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن 4599)
عند نهاية المرحلة الأولى التي مر منها القرآن نجد أن محتواه كان موزعا بشكل واسع في ذاكرات الناس بينما كانت بعض أجزاءه مكتوبة على مختلف المواد التي كانت تستعمل آنذاك في الكتابة لكن لم يكن هنالك أي نص موحد أمر به للأمة الإسلامية. لقد ذكر السيوطي أن القرآن قد كتب كله في عهد محمد و بقي محتفظا عليه بعناية بالغة لكن لم يجمع في موضع واحد قبل موته (السيوطي الإتقان في علوم القرآن م 1 ص 126) و قيل أنه كان متوفرا بأكمله مبدئيا (في ذاكرة الصحابة و أيضا على شكل مكتوب). أما التسلسل النهائي للسور فقد قيل أن محمد قد أمر به شخصيا.
________________________________________
(1) تكلم البخاري في صحيحه -كتاب فضائل القرآن- عن بضع و سبعين سورة "حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا شقيق بن سلمة قال خطبنا عبدالله بن مسعود فقال والله لقد أخذت من في رسول الله صلى اللهم عليه وسلم بضعا وسبعين سورة والله لقد علم أصحاب النبي صلى اللهم عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم قال شقيق فجلست في الحلق أسمع ما يقولون فما سمعت رادا يقول غير ذلك"
رجوع
2-أول جمع للقرآن في عهد أبي بكر
إذا كان محمد قد ترك بالفعل نصا كاملا و مجموعا كما يزعم العلماء المسلمون (عبد القادر عبد الصمد مثلا‚ انظر الفصل 6) فلماذا كانت هناك حاجة إلى جمعه بعد وفاته؟ لقد كان فعلا من المنطقي أن لا تبدأ عملية الجمع إلا بعد أن تنتهي الرسالة بموت الرسول. الرواية الشائعة حول جمع القرآن في أول الأمر تنسب هذا العمل إلى زيد بن ثابت الذي كان من بين الصحابة الذين كانت لهم دراية عميقة بالقرآن.
سنرى فيما بعد أن هناك أدلة كثيرة على أن صحابة آخرون قاموا هم كذلك بجمع القرآن في المصاحف بشكل مستقل عن زيد و ذلك بعد وفاة محمد بفترة وجيزة لكن المشروع الأكثر أهمية هو ذلك الذي قام به زيد لأنه تم بأمر رسمي من أبي بكر أول خليفة في الإسلام. كتب الحديث النبوي أعطت أهمية بالغة لهذا الجمع الذي قام به زيد بن ثابت و النص الذي نتج عنه هو الذي أصبح ذا طابع رسمي في خلافة عثمان.
بعد وفاة محمد مباشرة ارتدت بعض القبائل العربية عن الإسلام بعدما كانت قد اعتنقته منذ مدة قصيرة. على إثر هذا اضطر أبو بكر إلى إرسال جيش مكون من أوائل المسلمين لإخضاعها. فقامت معركة اليمامة التي سقط فيها عدد من صحابة محمد الأقربون الذين أخذوا القرآن مباشرة من عنده. الحديث التالي يصف لنا ما حدث بُعيد هذه الأحداث:
"حدثنا موسى بن إسماعيل عن إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب عن عبيد بن السباق أن زيد بن ثابت رضي اللهم عنهم قال أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضي اللهم عنهم إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى اللهم عليه وسلم قال عمر هذا والله خير فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر قال زيد قال أبو بكر إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى اللهم عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى اللهم عليه وسلم قال هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي اللهم عنهمما فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم ) حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي اللهم عنهم"
(صحيح البخاري-كتاب فضائل القرآن-4603 باب جمع القرآن-) {نفس الحديث نجده مكررا في كتاب الأحكام رقم 6654 و في كتاب تفسير القرآن رقم 4311}
انتهى الأمر بزيد بن ثابت إلى قبول الفكرة مبدئيا بعد إقناع أبي بكر و عمر إياه بضرورة الأمر و قبل أن يجمع القرآن في كتاب واحد. يتضح جليا من خلال هذه الرواية أن جمع القرآن كان أمرا لم يقم به "رسول الله".
إن تردد زيد إزاء المهمة التي أسندت إليه كان سببه من جهة كون محمد نفسه لم يهتم بجمع القرآن و من جهة أخرى ضخامة المشروع. هذا ما يظهر أن المهمة لم تكن بالسهلة بتاتا. فإذا كان زيد يحفظ القرآن جيدا و يعرفه بأكمله عن ظهر قلب و لا يجهل أي جزء منه و إذا كان عدد من الصحابة يتوفرون كذلك على مقدرة هائلة في مجال الحفظ والإستظهار فإن عملية جمع القرآن لن تكون إلا سهلة {خلافا لما جاء في حديث البخاري المذكور أعلاه}. فلم يكن على زيد إلا أن يكتب ما كان يحفظ من القرآن في ذاكرته و يطلب من الصحابة أن يضبطوا ما كتب. يزعم ديزاي و بعض الكتاب الأخرون أن كل الحفاظ من أصحاب محمد كانوا يعرفون القرآن بأكمله عن ظهلر قلب‚ كلمة كلمة و حرفا حرفا و ذهب ديزاي بعيدا في مزاعمه حيث قال أن هذه القدرة الهائلة على حفظ القرآن هي موهبة إلاهية : "إن قوة الذاكرة ملكة وهبها الله للعرب لدرجة أنهم كانوا يحفظون الألاف من أبيات الشعر ببالغ السهولة. الإستعمال الكامل لهذه الموهبة هو ما مكن من حفظ القرآن و صيانته من الضياع"(1)(Desai, The Quraan Unimpeachable, p.25)
يذهب بعد هذا إلى وصف استظهار القرآن بأنه "قوة حفظ ذات طبيعة إلهية". النتيجة المنطقية لهذا الزعم هي أن جمع القرآن كان من أسهل الأمور. فإذا كان زيد و القراء الأخرون يعرفون القرآن بكامله حتى أخر كلمة منه بدون أي غلط أو نقصان و برعاية ربانية <هذا مزعم العلماء المسلمين> فمن غير المعقول أن نجده <أي زيد> يقوم بجمع القرآن بالشكل الذي فعله. فعوض أن يعتمد فقط على ذاكرته مباشرة نجده يبحث عن النصوص في مختلف المصادر : "فتتبعت القرآن أجمعه من العسب و اللخاف و صدور الرجال حتى وجدت أخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم ) حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي اللهم عنهم" ( صحيح البخاري-كتاب فضائل القرآن-4603 )
لقد رأينا سابقا أن القرآن كان وقت وفاة محمد مفرقا بين ما كان في ذاكرة الصحابة و ما كان مكتوبا على مختلف المواد التي كانت تستعمل أنذاك في الكتابة. إلى هذه المصادر لجأ الصحابي الشاب حين كان يُعِد لجمع القرآن في مصحف واحد. المصدران الرئيسيان من بين المصادر التي ذكرت هما "الرقاع" و "صدور الرجال" (السيوطي - الإتقان في علوم القرآن). لم يعتمد زيد على ذاكرة الناس فقط بل اعتمد كذلك على ما كان مكتوبا أيً كانت طريقة كتابته (اللخاف أي الحجارة الرقاق الخ.. ) و التجأ إلى كثير من الصحابة و إلى جميع المواد التي كانت أجزاء من القرآن مكتوبة عليها. لم يكن هذا تصرف شخص يعتقد أن الله وهبه ذاكرة خارقة للعادة يمكنه الإعتماد عليها كليا في مهمته بل تصرف كاتب نبيه كان يريد جمع القرآن من جميع المصادر الممكنة. كان هذا تصرف رجل يعي كل الوعي أن النص القرآني كان متناثرا في أماكن عدة لدرجة أنه وجب جمع كل ما أمكن جمعه من أجل الحصول قدر المستطاع على نص كامل نسبيا.
أقدم الروايات في الإسلام تبين لنا بوضوح أن زيدا قام ببحث على نطاق واسع بينما نجد أن علماء متأخرين زعموا أنه اعتمد على ما دُون كتابيا على مختلف المواد -عظام الحيوانات‚الرقاع‚جلود الحيوانات الخ..- التي كانت محفوظة في بيت محمد. زعموا أن زيدا لم يفعل شيئا أكثر من جمعه لهذه النصوص من أجل الإحتفاظ بها في موضع واحد.
يقول الحارث المحاسبي في كتاب "فهم السنن" إن محمدا كان يأمر بكتابة القرآن و لذلك حين أمر أبو بكر بجمع القرآن في مصحف واحد وُجِدت المواد التي كان مكتوبا عليها "في دار رسول الله التي نزل فيها" (السيوطي‚ الإتقان) فجُمِعت و حُدِّدت لكي لا يضيع منها شيء. لكن يتضح من خلال ما دُوِّن في إطار الحديث النبوي أن زيدا قام ببحث واسع النطاق عن هذه المواد التي كتبت عليها أجزاء من القرآن. ديزاي يجاحد قائلا إن البحث الذي قام به زيد كان مقتصرا على المواد التي كُتب عليها القرآن "بين يدي رسول الله" لأن زيدا كان هو الصحابي الوحيد الذي أتيحت له الفرصة لكي يكون جنب محمد حين جاءه جبريل و رتل معه القرآن آخر مرة (Desai, The Quraan Unimpeachable, p.18) يضيف ديزاي أنه رغم وجود نصوص قرآنية أخرى في تلك الفترة فهي كانت لم تكن تتوفر على مصداقية كاملة لأنها لم تكتب تحت الإشراف المباشر لمحمد لكن كتبت من طرف أصحابه الذين اعتمدوا في ذلك على ما استطاعوا حفظه في ذاكراتهم. يمتنع ديزاي عن إعطاء أية دلائل أو نصوص من أي نوع كانت و لا يُرينا المصادر التي اعتمد عليها في البرهنة على مزاعمه و التي من المفروض أن تكون من أقدم ما دُوِّن من التراث الإسلامي. في الواقع كون القرآن عُرض مرتين في آخر المطاف كان سرا لم يبح به محمد سوى لابنته فاطمة الزهراء ( صحيح البخاري-كتاب فضائل القرآن) {قال مسروق عن عائشة عن فاطمة عليها السلام أسر إلي النبي صلى اللهم عليه وسلم أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وإنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي}
فكيف أمكن أن يكون هذا سرا إذا كان زيد بن ثابت حاضرا في هذه المناسبة؟
في نفس السياق نعرف من خلال أقدم ما دُوِّن حول جمع القرآن في خلافة أبي بكر أنه لم يكن هناك أي تمييز بين ما كتب من القرآن تحت إمرة محمد أو غيره من المصادر و لا شيء يوحي بأن زيدا اعتمد على الأول دون الثاني. كما سنرى لاحقا هذه تفاسير حديثة العهد نسبيا الغرض منها التأكيد على أن القرآن جمع في ظروف مثالية لكنها لا ترتكز على أية نصوص قديمة و أصيلة للبرهنة على مزاعمها.
هناك حكايات مفادها أنه كلما نزل شيء من القرآن كان محمد يطلب من كتابه و من بينهم زيد أن يكتبوه ( صحيح البخاري-كتاب فضائل القرآن 4606 على سبيل المثال)
{حدثنا عبيدالله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال لما نزلت ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين ) ( والمجاهدون في سبيل الله ) قال النبي صلى اللهم عليه وسلم ادع لي زيدا وليجئ باللوح والدواة والكتف أو الكتف والدواة ثم قال اكتب ( لا يستوي القاعدون ) وخلف ظهر النبي صلى اللهم عليه وسلم عمرو بن أم مكتوم الأعمى قال يا رسول الله فما تأمرني فإني رجل ضرير البصر فنزلت مكانها (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) ( والمجاهدون في سبيل الله ) ( غير أولي الضرر )}
لكن لا شيء يؤكد أن القرآن كان مجموعا بأكمله في بيته. هناك أيضا روايات عديدة في كتاب المصاحف لابن أبي داود تشير إلى أن أبا بكر كان أول من قام بتدوين القرآن نذكر من بينها : "حدثنا عبد الله قال حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين بن حفص قال حدثنا خلاد قال حدثنا سفيان عن السدى عن عبد خير عن علي قال : رحمة الله على ابي بكر كان أعظم الناس أجرا في جمع المصاحف‚ و هو أول من جمع بين اللوحين. " (كتاب المصاحف‚ ص 5). هنا أيضا نجد أدلة قوية على أن أشخاصا آخرين سبقوا أبا بكر لجمع القرآن في مصحف واحد :
"عن بن بريدة قال : أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حديفة" (السيوطي - الإتقان في علوم القرآن). سالم هذا كان من بين أربعة رجال أمر محمد أصحابه أن يأخذوا القرآن عنهم (صحيح البخاري-كتاب فضائل القرآن 4615 و كتاب المناقب 3524) و{ حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عمرو عن إبراهيم عن مسروق ذكر عبدالله بن عمرو عبدالله بن مسعود فقال لا أزال أحبه سمعت النبي صلى اللهم عليه وسلم يقول خذوا القرآن من أربعة من عبدالله بن مسعود وسالم ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب} كان من القرأء الذين قتلوا في معركة اليمامة. بما أن أبا بكر لم يأمر بجمع القرآن إلا بعد هذه المعركة فمن البديهي إذا أن سالما سبق زيد بن ثابت لجمع القرآن.
________________________________________
(1) {The faculty of memory which was divinely bestowed to the Arabs, was so profound that they were able to memorize thousands of verses of poetry with relative ease. Thorough use was thus made of the faculty of memory in the preservation of the Qur'aan.}
رجوع
3-نظرة عامة حول المرحلة الأولى لجمع القرآن.
نلاحظ الآن أن آتجاها معينا أصبح يبرز بوضوح. الروايات الرسمية تحاول أن تظهر لنا أن المشروع الذي قام به أبو بكر بخصوص جمع القرآن كان هو الأهم و الوحيد الذي تم بعد وفاة محمد. حاول العلماء بعد ذلك أن يدعموا هذه الفكرة مدعين أن زيدا كان الشخص الوحيد المؤهل للقيام بالمهمة و أن القرآن كان بشكل أو بآخر موجودا ببيت محمد و أن الأشخاص الذين قاموا بعملية الجمع اعتمدوا على ما تمت كتابته تحت الإشراف الفعلي لمحمد نفسه و لا شيء غير هذا. يذهب العلماء المسلمون أبعد من هذا حيث يزعمون أن المصحف كما تم جمعه كان صورة طبق الأصل لما جاء به محمد لم يضف إليه لا حرف و لا كلمة و لا نقطة و لم يفتقد منه أي شيء من هذا القبيل.
من جهة أخرى وجب القول بأن التحليل الموضوعي لمسألة جمع القرآن في المرحلة البدائية و الذي يجب أن يعتمد على المعطيات المدونة سيمكننا من إبراز أن النص الذي جمعه زيد و الذي أصبح فيما بعد النمودج الذي اعتمد عليه المصحف العثماني ما هو إلا المنتوج النهائي لمحاولة صادقة لجمع القرآن انطلاقا من مصادر متنوعة كان الرجوع إليها أمرا ضروريا.
يجب علينا الآن أن نقوم بتقييم للمصادر التي اعتُمِد عليها بإعادة النظر فيها. اعتمد زيد بن ثابت على صدور الرجال و على ما كُتِب من القرآن كيفما كانت المواد التي استعملت في ذلك. مهما كانت المجهودات التي قام بها الصحابة الأوائل لحفظ القرآن بشكل كامل فإن ذاكرة الإنسان تبقى دائما عرضة للنقصان و الخطأ. إذا أخذنا بعين الإعتبار طول القرآن (أي ما وجب حفظه) فليس من الغريب أن نجد اختلافات في طرق قراءة القرآن و لذلك سيظهر لنا جليا أن هذا الإرتسام مبني على أسس صحيحة.
فكرة أن زيد اعتمد على ما كان متناثرا في ذاكرات الصحابة وجب أن تؤدي إلى بعض النتائج المنطقية التي لا مفر منها. هناك احتمال ضياع أجزاء من النص لأن هذا الأخير لم يكن مجموعا في كتاب واحد بل كان متناثرا بشكل واسع. هذا ما سيتضح حين سنقدم الدلائل المؤخوذة من الثرات الإسلامي القديم.
المثال النمودجي الذي وجب تقديمه بخصوص هذه المسألة يتجلى في الحديث التالي الذي يؤكد بوضوح أن أجزاء من القرآن فُقِدت نهائيا إثر مقتل بعض الحفاظ من الصحابة في معركة اليمامة :
"حدثنا أبو الربيع قال أخبرنا بن وهب قال أخبرني يونس عن بن شهاب قال : بلغنا إنه انزل قرآن كثير فقُتِل علماؤه يوم اليمامة الذين كانوا قد وعوه فلم يُعْلَم بعدهم و لم يُكْتَب ‚ فلما جمع أبو بكر و عمر و عثمان القرآن و لم يوجد مع أحد بعدهم." (كتاب المصاحف 23)
لا يمكن تجاهل كون هذا الحديث يستعمل أسلوب النفي بوضوح : "لم يعلم"‚ "لم يكتب"‚ "لم يوجد" تاكيد ثلاثي على أن هذه الأجزاء من القرآن التي كان يحفظها قراء اليمامة فقدت بدون رجعة. في المقابل يظهر أنه من الصعب تصور أية زيادة أو تغيير في القرآن بعد وفاة محمد لأن أجزاء النص كانت موجودة بطريقة متناثرة عند الصحابة لكن إمكانية ضياع بعض الأجزاء من النص تبقى واردة كما ذكرنا سالفا. إذا كان جزء مهما من القرآن احتُفِظ به عن طريق الحفظ فهذه ضمانة أكيدة أن لا أحد من الصحابة كان بإمكانه إضافة شيء إلى القرآن دون أن يلقى معارضة الأخرين. (1)
في الأخير حين نستعرض المصادر الأصلية يجب أن لا نستغرب من كون مصاحف أخرى كانت حيز الجمع زيادة على المصحف الذي تكلف زيد بجمعه. كان هنالك عدد من الصحابة الذين كانت لهم دراية واسعة بالقرآن و كان من الحتمي أن يحاولوا تأليف ما كان لا يزال متبثا في ذاكراتهم على شكل مصحف مستعينين كذلك بما كان مكتوبا. كنتيجة حتمبة سنرى أن ما توقعناه من نتائج بخصوص جمع كتاب كالقرآن أمر تدعمه النصوص التاريخية خلافا للفرضية القائلة بأن الحفاظ على الكتاب تم بفضل العناية الربانية دون أدنى نقصان أو تغيير.
امكانية فقدان بعض أجزاء النص واردة في عدة أحاديث نبوية تبين بعضها أن محمدا كان هو نفسه عرضة لنسيان بعض أجزاء القرآن :
"حدثنا موسى يعني ابن إسمعيل حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي اللهم عنها أن رجلا قام من الليل فقرأ فرفع صوته بالقرآن فلما أصبح قال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم يرحم الله فلانا كائن من آية أذكرنيها الليلة كنت قد أسقطتها" (كتاب الحروف و القراءات سنن بن أبي داود رقم 3456)
وضع مترجم المرجع السابق إلى الأنجليزية ملاحظة هامشية بين فيها أن محمدا لم ينس بعضالآيات تلقائيا بل الله هو الذي أنساه إياها مقيما بذلك عبرة للمسلمين. مهما كانت الغاية و الأسباب فالمهم هو أن محمدا تعرض لنسيان بعض القرآن الذي أقر أنه أوحي إليه. القول بأن النسيان كان من الله يعتمد على الآية التالية :
" مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (سورة البقرة 2 الآية 106)
كلمة آية تعني النص القرآني ذاته و كلمة ننسها أصلها من فعل نسي الذي يعني أينما وجد في القرآن (وردت 45 مرة على مختلف الأشكال) فقدان الشيء من ذاكرة الإنسان.
لنعطي الآن خلاصة لما قيل في هذا الجزء.
حاول زيد بن تابث الذي كان من الصحابة ذوي المعرفة العميقة بالقرآن أن يدون قدر مستطاعه مصحفا أقرب ما يكون إلى الموثوقية. روح الأمانة التي اتصف بها خلال قيامه بمشروعه ليست موضع شك. لذلك يمكننا أن نقول بأن المصحف الذي قدمه في الأخير إلى أبي بكر لم يكن إلا تعبيرا صادقا عن ما جمعه من صدور القرأء و من ما كتب على مختلف المواد لأن هذا هو ما تعكسه النصوص المؤخوذة من التراث الإسلامي الأصيل. نفس النصوص تنفي الفرضية الحديثة القائلة بأن المصحف الحالي هو نسخة طبق الأصل للقرآن الأول لم يحذف منها شيء و لم يمسسها أي تغيير. ليس هناك ما يدل على أن النص تعرض للتحريف و كل محاولة لتأكيد ذلك (كما فعل بعض الباحثين الغربيين) يمكن ضحضها بسهولة. بالمقابل هناك أدلة عديدة على أن القرآن كان غير مكتمل وقت تدوينه في مصحف واحد (كما رأينا سابقا) و أن كثيرا من فقراته و آياته انتقلت على أشكال مختلفة. سنتمكن من خلال هذا الكتاب أن نستعرض الوقائع التي تبرهن على مقولاتنا و كذا نتائجها الحتمية.
________________________________________
(1) {هذا لا يدل على استحالة زيادة بعض الفقرات في النص الأصلي, الإسراء مثلا}
رجوع
الفصل الثاني
جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان
1-هل كان لمصحف ابي بكر طابع رسمي؟
ماذا كانت منزلة المصحف الذي جمع من طرف زيد بأمر من أبي بكر؟ هل كان مصحفا خاصا بالخليفة أم كان الغرض جعله مصحفا رسميا للأمة الإسلامية التي كانت آنذاك سائرة في النمو؟ للإجابة عن هذه الأسئلة يجب أن نحقق في ما وقع لهذا المصحف بعد جمعه. جاء في صحيح البخاري ما يلي : "فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي اللهم عنهم" (كتاب فضائل القرآن رقم 4603)
هؤلاء الثلاثة الذين تناقلوا المصحف في بداية الأمر كانوا كلهم شخصيات ذات مكانة عالية إذ أن أبا بكر و عمر كانا أول من خلف محمد على التتالي في حين كانت حفصة بدورها شخصية بارزة و هذا ما جعل بن أبي داود يصفها بأنها كانت في نفس الوقت "بنت عمر" و "زوج النبي". لقد أُخِدَ هذا المصحف بقدر كاف من الجدية من طرف الخليفتين أبي بكر و عمر لذلك لاقى اعتناء خاصا في عهديهما. أما معرفة ما إذا كان هذا المصحف قد اكتسب طابعا رسميا في هذه الفترة فهذه مسألة أخرى.
عملية جمع القرآن الذي تمت في عهد أبي بكر كانت لها منزلة خاصة لأن جامعه زيد بن تابث كانت له مكانة خاصة بين الصحابة الذين اهتموا بالقرآن. حاول زيد بقدر مستطاعه أن يجمع مصحفا أقرب ما يكون إلى الكمال لأنه من غير السهل على العموم إثبات حدوث تحريفه. يستنتج من هذا أن المصحف كانت له قيمة عالية لذلك استفاد من رعاية أبي بكر و عمر خلال فترتي خلافتهما. لكن بالرغم من كل هذا فليس هناك أدنى شك أن هذا المصحف لم يعطى له أي طابع رسمي في عهديهما. يزعم ديزاي أنه لم تكن في ذلك الوقت أية حاجة ماسة ل" إعطاء هذا المصحف طابعا رسميا" لأن القرآن كان حسب زعمه لا يزال محفوظا في ذاكرات الحفاظ من أصحاب محمد الذين كانوا على قيد الحياة آنذاك (ديزاي‚ ص 31). لقد رأينا سابقا أن ما زُعِمَ بخصوص الحفظ الكامل و المثالي لنص القرآن في ذاكرات الصحابة مبني على فرضيات مجانية إذ لا يمكننا قبول فكرة أن مصحف أبي بكر لم يكن في حاجة لكي يفرض على جمهور المسلمين بعد جمعه لكون بعض الأشخاص كانوا لا يزالون يحفظونه في ذاكراتهم. بالعكس من ذلك فإن أبا بكر و عمر لم يأمرا بجمع القرآن في نص موحد إلا بعد أن شعرا بالحاجة الماسة إلى ذلك نظرا بالدرجة الأولى إلى عدم جدوى التعويل على ذاكرات الناس وحدها. من المؤكد أن أبا بكر و عمر كانا يدريان جيدا أن أشخاصا كابن مسعود و أبي بن كعب و معاذ بن جبل كانوا هم كذلك على دراية واسعة بالقرآن وبالتلي كان بإمكانهم هم كذلك جمع مصاحف قرآنية ذات مصداقية كافية. رغم طابع الأهمية الذي أعطي له لم يكن مصحف زيد بن تابث يعتبر أكثر نفوذا بالمقارنة مع باقي المصاحف التي جُمِعت آنذاك و لهذا السبب بالذات لم يكن من الممكن فرضه كمصحف رسمي و موحد على مجموع الأمة الإسلامية. لقد تم في واقع الأمر إخفاء هذا المصحف مباشرة بعد جمعه. فبعد وفاة عمر انتقل هذا المصحف إلى ابنته حفصة التي كانت تعيش في عزلة شبه تامة منذ وفاة محمد و هذا ما يبين بوضوح أنه لم تكن هنالك أية رغبة في نشره بين الجمهور. يزعم ديزاي أن المصحف احتفظ به كل هذه السنين لكي يتم استعماله في المستقبل حين سيكون كل القراء من صحابة
civilization, اولا" من حضرتك حتى تتقول هكذا افترائات على القرآن العظيم
ومن خولك في هذا هذا اذ لم تكن بوق من الابواق النكرة التي تنشز في العالم باصواتها القبيحة
ولتعلم من انت ثم نأتي الى مخاطبتك ولكن الحق ليس عليك الحق على الإدارة التي
سمحت لأمثالك من التهجم على الله أولا" وعلى كتابه الحق ثانيا" الذي وعد الامة على حفظه
هذه بعض المعلومات الدقيقة عن حقيقة جمع القرآن العظيم
*
آخر ما نزل من القرآن الكريم
وفيه اختلاف كذلك ، روى الشيخان عن البراء بن عازب قال : آخر آية نزلت : { يستفتونك قل الله يُفتيكم في الكلالة ... } الآية . وآخر سورة نزلت براءة .
وعن ابن عباس قال : آخر آية نزلت آية الربا ، والمراد بها قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ... } ( البقرة : 278- 280 )
وعن ابن عباس قال : آخر شيء نزل من القرآن { واتقوا يومًا ترجعون فيه ... } ( البقرة :( 281 ) .
ولا منافاة بين هذه الروايات في آية الربا و { اتقوا يومًا .... } و آية الدين ، لأن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف ، ولأنها في قصة واحدة ، فأخبر كلٌّ عن بعض ما نزل بأنه آخر ، وذلك صحيح .
وعن أبيّ بن كعب قال : آخر آية نزلت { لقد جاءكم رسول من أنفسكم .. } ( التوبة : 128-129 ) إلى آخر السورة .
وعن عائشة : آخر سورة نزلت المائدة { فما وجدتم فيها من حلال فساتحلوه ..}( أخرجه الحاكم والترمذي ) .
وقال القاضي أبوبكر ، في كتابه الانتصار : هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكُلٌّ قاله بضرب من الاجتهاد وغَلبَة الظن ، ويُحتمل أن كلا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه ، أو قبل مرضه بقليل ، وغيره سمع منه بعد ذلك وإن لم يسمعه هو .
ومن المشكل على ما تقدم قوله : { اليوم أكملتُ لكم دينكم .... } ( النساء : 176 ) الآية ، فإنها نزلت بعرفة عام حجة الوداع ، وظاهرها إكمال جميع الفرائض والأحكام قبلها ، وقد صرّح بذلك جماعة منهم : السُّدى فقال : لم ينزل بعدها حلال ولا حرام مع أنه ورد في آية الربا و الدّين و الكلالة أنها نزلت بعد ذلك ، وقد استشكل ذلك ابن جرير وقال : الأوْلى أن يُتأوّل على أنه أكمل لهم دينهم بإقرارهم بالبلد الحرام ، وإجلاء المشركين عنه حتى حجة المسلمون لا يخالطهم المشركون .
وفيه اختلاف كذلك ، روى الشيخان عن البراء بن عازب قال : آخر آية نزلت : { يستفتونك قل الله يُفتيكم في الكلالة ... } الآية . وآخر سورة نزلت براءة .
وعن ابن عباس قال : آخر آية نزلت آية الربا ، والمراد بها قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ... } ( البقرة : 278- 280 )
وعن ابن عباس قال : آخر شيء نزل من القرآن { واتقوا يومًا ترجعون فيه ... } ( البقرة :( 281 ) .
ولا منافاة بين هذه الروايات في آية الربا و { اتقوا يومًا .... } و آية الدين ، لأن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف ، ولأنها في قصة واحدة ، فأخبر كلٌّ عن بعض ما نزل بأنه آخر ، وذلك صحيح .
وعن أبيّ بن كعب قال : آخر آية نزلت { لقد جاءكم رسول من أنفسكم .. } ( التوبة : 128-129 ) إلى آخر السورة .
وعن عائشة : آخر سورة نزلت المائدة { فما وجدتم فيها من حلال فساتحلوه .. } ( أخرجه الحاكم والترمذي ) .
وقال القاضي أبوبكر ، في كتابه الانتصار : هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكُلٌّ قاله بضرب من الاجتهاد وغَلبَة الظن ، ويُحتمل أن كلا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه ، أو قبل مرضه بقليل ، وغيره سمع منه بعد ذلك وإن لم يسمعه هو .
ومن المشكل على ما تقدم قوله : { اليوم أكملتُ لكم دينكم .... } ( النساء : 176 ) الآية ، فإنها نزلت بعرفة عام حجة الوداع ، وظاهرها إكمال جميع الفرائض والأحكام قبلها ، وقد صرّح بذلك جماعة منهم : السُّدى فقال : لم ينزل بعدها حلال ولا حرام مع أنه ورد في آية الربا و الدّين و الكلالة أنها نزلت بعد ذلك ، وقد استشكل ذلك ابن جرير وقال : الأوْلى أن يُتأوّل على أنه أكمل لهم دينهم بإقرارهم بالبلد الحرام ، وإجلاء المشركين عنه حتى حجة المسلمون لا يخالطهم المشركون .
*
جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق
جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه سببه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ارتدت بعض قبائل العرب فأرسل أبو بكر رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش لقتال المرتدين ، وكان قوام هذه ا لجيوش هم الصحابة رضوان الله عليهم وفيهم حُفاظ القرآن ، وكانت حروب الردة شديدة قتل فيها عدد من القراء الذي يحفظون القرآن الكريم ، فخشي بعض الصحابة أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حفظته ، فأراد أن يجمع القرآن في مصحف واحد بمحضر من الصحابة . وقصة ذلك رواها البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال : @ أرسل إليّ أبو بكر - مقتل أهل اليمامة - فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضي الله عنه : إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقرآء القرآن ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقرآء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرى ، قلت لعمر : كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عمر : هذا والله خير ، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر ، قال زيد : قال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتتبع القرآن . فاجمعه ، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن ، قلت : كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : هو والله خير ، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أ حد غيره ، { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم } حتى خاتمة براءة ، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه . تاريخ هذا الجمع : هو كما جاء في الحديث بعد معركة اليمامة ، وفي السنة الثانية عشر من الهجرة . أسباب اختيار زيد بن ثابت رضي الله عنه لهذا الجمع : 1. أنه كان من حُفاظ القرآن الكريم . 2. أنه شهد العرضة الأخيرة للقرآن الكريم ، وقد روى البغوي عن أبي عبد ا لرحمن السلمي أنه قال : قرأ زيد بن ثابت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفاه الله فيه مرتين إلى أن قال عن زيد بن ثابت أنه ( شهد العرضة الأخيرة ، وكان يُقرىء الناس بها حتى مات ، ولذلك اعتمده ابو بكر وعمر في جمعه ، وولاه عثمان كتْبة المصاحف رضي الله عنهم أجمعين ) . 3. أنه من كُتّاب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم . 4. خصوبة عقله ، وشدة ورعه ، وكما خلقه ، واستقامة دينه ، وعظم أمانته وشهد لذلك قول أبي بكر رضي الله عنه له : ( إنك رجل شاب ، عاقل ، لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ) وقوله نفسه رضي الله عنه ( فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن ) . منهج زيد في الجمع : من المعلوم أن زيد بن ثابت رضي الله عنه كان يحفظ القرآن كله في صدره وكان القرآن مكتوباً عنده ومع هذا فلم يعتمد على ما حفظه ولا على ما كتب بيده وذلك أن عمله ليس جمع القرآن فحسب ، وإنما التوثيق والتثبت فيما يكتب ولهذا يقول الزركشي رحمه الله تعالى عن زيد : (وتتبعه للرجال كان للإستظهار لا لاستحداث العلم ) . وقال ابن حجر رحمه الله تعالى : ( وفائدة التتبع المبالغة في الاستظهار والوقوف عند ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ) . وقد رسم أبو بكر - رضي الله عنه - لزيد المنهج لهذا الجمع فقال له ولعمر بن الخطاب رضي الله عنه ( اقعدوا على باب المسجد ، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه ). (اسناده منقطع 1 ص169) . وقد امتثلا ذلك فقد قام عمر في الناس فقال : ( من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن فليأتنا به ) (اسناده منقطع - السابق 182) . وقد بيّن زيدُ نفسه المنهج الذي سلكه بقوله رضي الله عنه : (فتتبعت القرآن أجمعه من : الصحف والعسب واللخاف وصدور الرجال ) (وراه البخاري) . وعلى هذا فإنّ منهج زيد في جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه يقوم على أُسس أربعة : الأول : ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم . الثاني : ما كان محفوظاً في صدور الرجال . الثالث : أن لا يقبل شيئاً من المكتوب حتى يشهد شاهدان على أنه كُتب بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال السخاوي ( معناه :من جاءكم بشاهدين على شيء من كتاب الله الذي كتب بين يدي رسول الله صلى ا لله عليه وسلم ) . وقال ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى : ( وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لا من مجرد الحفظ ) . الرابع : أن لا يقبل من صدور الرجال إلا ما تلقوه من فم الرسول صلى الله عليه وسلم فإن عمر رضي الله عنه ينادي : (من كان تلقى من رسول ا لله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن فليأتنا به ) . ولم يقل من حفظ شيئاً من القرآن فليأتنا به . مميزات جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه : 1. جمع القرآن الكريم في هذا العهد على أدق وجوه البحث والتحري والإتقان على الوجه الذي أشرنا إليه في منهج الجمع . 2. أهمل في هذا الجمع ما نُسخت تلاوته من الآيات . 3. أن هذا ا لجمع كان بالأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن الكريم كما كان في الرقاع التي كتبت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم . 4. أن هذا الجمع كان مرتب الآيات باتفاق واختلف العلماء في السور هل كانت مرتبة في هذا الجمع أم أن ترتيبها كان في عهد عثمان رضي الله عنه ؟ . 5. اتفق العلماء على أنه كُتب نسخة واحدة من القرآن في هذا الجمع حفظها أبو بكر باعتباره إمام المسلمين . 6. ظفر هذا الجمع بإجماع الأمة عليه وتواتر ما فيه . مكانة هذا الجمع : ظفر هذا الجمع باتفاق الصحابة رضي الله عنهم على صحته ودقته وأجمعوا على سلامته من الزيادة أو النقصان وتلقوه بالقبول والعناية التي يستحقها حتى قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ( أعظم الناس أجراً في المصاحف أبو بكر فإنه أول من جمع ما بين اللوحين ) . (اسناده حسن). تسميتة المصحف : لم يكن (المصحف) يُطلق على القرآن قبل جمع أبي بكر الصديق رضي الله عنه وإنما عُرف هذا الاسم بعد أن أتم زيد جمع القرآن . فقد روى السيوطي عن ابن أشته في كتابه (المصاحف) أنه قال : ( لما جمعوا القرآن فكتبوه في الورق قال أبو بكر : التمسوا له إسماً . فقال بعضهم السّفر ، وقال بعضهم : المصحف فإنّ الحبشة يسمونه المصحف . وكان أبو بكر أول من جمع كتاب الله وأسماه المصحف ) . خبر هذا المصحف : بعد أن أتّم زيد جمع القرآن في المصحف سلمه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه فحفظه عنده حتى وفاته ، ثم انتقل إلى أمير المؤمنين من بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وبعد وفاته انتقل المصحف إلى حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها ، لأن عمر رضي الله عنه جعل أمر الخلافة من بعده شورى ، فبقي عند حفصة إلى أن طلبه منها عثمان رضي الله عنه لنسخه بعد ذلك ثم أعاده إليها - لما سيأتي - ولما توفيت حفصة رضي الله عنها أرسل مروان بن الحكم إلى أخيها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ساعة رجعوا من جنازة حفصة بعزيمة ليُرسلن بها فأرسل بها ابنُ عمر إلى مروان فمزقها مخافة أن يكون في شيء من ذلك خلاف ما نسخ عثمان رضي الله عنه
*
جمع القرآن ( نَسْخُهُ ) في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه
سببه
عندما اتسعت الفتوحات الإسلامية انتشر الصحابة رضي الله عنهم في البلاد المفتوحة يعلمون أهلها القرآن وأمور الدين وكان كل صحابي يُعلَّمُ بالحرف الذي تلقاه من الأحرف السبعة فكان أهل الشام يقرأون بقراءة أبي بن كعب رضي الله عنه ، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق ، وإذا أهل العراق يقرأون بقراءة عبد الله بن مسعود فيأتون بما لم يسمع أهلُ الشام فيُكفر بعضهم بعضاً .
وعندما اتجه جيش المسلمين لفتح (أرمينيه) و(اذربيجان) وكان الجنود من أهل العراق وأهل الشام فكان الشقاق والنـزاع يقع بينهم ورأى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه اختلافهم في القراءة وبعض ذلك مشوب باللحن مع إلف كل منهم لقراءته واعتياده عليها واعتقاده أنها الصواب وما عداها تحريف وضلال حتى كفر بعضهم بعضاً فأفزع هذا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فقال والله لأركبن إلى أمير المؤمنين (يعني عثمان بن عفان رضي الله عنه ) وكان عثمان قد رأى نحو هذا في المدينة فقد كان المُعلم يُعلم بقراءة والمعلم الآخر يعلم بقراءة فجعل الصبيان يلتقون فينكر بعضهم قراءة الآخر فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه فقام خطيباً وقال : ( أنتم عندي تختلفون فيه فتلحنون فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافاً وأشد لحناً ، اجتمعوا يا أصحاب محمد ، واكتبوا للناس إماما) .
فلمّا جاء حذيفة إلى عثمان رضي الله عنهما وأخبره بما تحقق عند عثمان ما توقعه ، وقد روى البخاري في صحيحه قصة ذلك الجمع في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ( إن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يُغازي أهل الشام في فتح (أرمينيه) و(أذربيجان) مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة ، فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ) .
تاريخ هذا الجمع :
كان ذلك في أواخر سنة 24 وأوائل سنة 25 كما قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى .
فكرة الجمع :
لما سمع عثمان رضي الله عنه ما سمع وأخبره حذيفة رضي الله عنه بما رأى استشار الصحابة فيما يفعل ، فقد روى إبن أبي داود بإسناد صحيح - كما يقول ابن حجر - من طريق سويد بن غفلة قال، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ( يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان ولا تقولوا له إلا خيراً في المصاحف .. فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منّا جميعا ، قال ما تقولون في هذه القراءة ؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك ، وهذا يكاد أن يكون كفراً ، قلنا : فما ترى ؟ قال : نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا يكون اختلاف . قلنا : فنعم ما رأيت .. قال علي : والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل ) .
اللجنة المختارة :
اختار عثمان رضي الله عنه أربعة لنسخ المصاحف هم :
زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث ابن هشام ، وهؤلاء الثلاثة من قريش .
فقد سأل عثمان رضي الله عنه الصحابة : من أكتب الناس ؟ قالوا : كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت قال : فأي الناس أعرب ؟ وفي رواية أفصح . قالوا : سعيد بن العاص ، قال عثمان : فليُمل سعيد ، وليكتب زيد .
المنهج في هذا الجمع :
بعد أن اتفق عثمان مع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين على جمع القرآن على حرف سلك منهجاً فريداً وطريقاً سليماً أجمعت الأمة على سلامته ودقته .
1. فبدأ عثمان رضي الله عنه بأن خطب في الناس فقال : ( أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن وتقولون (قراءة أبي) (قراءة عبد الله ) يقول الرجل ( والله ما تقيم قراءتك ) !! فأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به ، وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن حتى جمع من ذلك كثرة ، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلاً فناشدهم ، لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملاه عليك ؟ فيقول نعم ) .
2. وأرسل عثمان رضي الله عنه إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنهما أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نعيدها إليك ، فأرسلت بها إليه ، ومن المعلوم أن هذه الصحف هي التي جمعت في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه على أدق وجوه البحث والتحري .
3. ثم دفع ذلك إلى زيد بن ثابت والقرشيين الثلاثة وأمرهم بنسخ مصاحف منها وقال عثمان القرشيين : ( إ ذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل بلسانهم )
4. إذا تواتر في آية أكثر من قراءة تكتب الآية خالية من أيّة علامة تقصُر النطق بها على قراءة واحدة فتكتب برسم واحد يحتمل القراءتين أو القراءات فيها جميعاً مثل :
أ. { فتبينوا} التي قرأت أيضاً فتثبتوا .
ب. { ننشزها} قُرأت أيضاً ننشرها .
أما إذا لم يكن رسمها بحيث تحتمل القراءات فيها فتكتب في بعض المصاحف برسم يدل على قراءة ، وفي مصاحف أخرى برسم يدل على القراءة الأخرى مثل :
أ . { ووصى بها إبراهيم} هكذا تكتب في بعض المصاحف وفي بعضها وأوصى .
ب . { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} بواو قبل السين في بعض المصاحف وفي بعضها بحذف الواو .
وبعد الفراغ من نسخ المصاحف بعث عثمان بنسخ منها إلى الأمصار الإسلامية حيث نشط المسلمون في نسخ مصاحف منها للأفراد وكان زيد بن ثابت في المدينة يتفرغ في رمضان من كل سنة لعرض المصاحف فيعرضون مصاحفهم عليه وبين يديه مصحف أهل المدينة .
*
مزايا جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه :
تميز هذا الجمع بمزايا عديدة منها :
1. الاقتصار على حرف واحد من الأحرف السبعة ، قال ابن القيم رحمه الله : ( جمع عثمان رضي الله عنه الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي أطلق لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القراءة بها لما كان ذلك مصلحة ) .
2. إهمال ما نسخت تلاوته :
فقد كان قصد عثمان رضي الله عنه جمع الناس على مصحف لا تقديم فيه ولا تأخير ولا تأويل أُثْبِتَ مع تنـزيل ، ولا منسوخ تلاوته كُتب مع مُثبتٍ رسمه ، ومفروض قراءته وحفظه ، خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعده .
3. الاقتصار على ما ثبت في العرضة الأخيرة وإهمال ما عداه :
فقد روى ابن أبي داود في المصاحف عن محمد بن سيرين عن كثير بن أفلح قال : لمّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثنى عشر رجلاً من قريش والأنصار فيهم أبي بن كعب ، وزيد بن ثابت قال فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر فجئ بها ، قال وكان عثمان يتعاهدهم فكانوا إذا تدارأو في شيء أخروه ، قال محمد : فقلت لكثير وكان منهم فيمن يكتب : هل تدرون لم كانوا يؤخرونه ؟ قال : لا ، قال محمد : فظننت ظناً إنما كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهداً بالعرضة الأخيرة فيكتبونها على قوله .
4. الاقتصار على القراءات الثابتة المعروفة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وإلغاء ما لم يثبت .
5. كان مرتب الآيات والسور على الموجه المعروف الآن ، قال الحاكم في ا لمستدرك : ( إن جمع القرآن لم يكن مرة واحدة ، فقد جُمع بعضه بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم جمع بعضه بحضرة أبي بكر ال صديق ، والجمع الثالث هو في ترتيب السور وكان في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين ) .
*
الفروق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما :
كان معنى (الجمع) ظاهراً في جمع القرآن في عهد أبي بكر فقد كان القرآن مفرقاً فأمر بجمعه كما قال المحاسبي : ( كان ذلك بمنـزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها القرآن منتشر ، فجمعها جامع ، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء ) .
إذا فمعنى الجمع فيه ظاهر لا يحتاج إلى تفريق بينه وبين الجمع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكن الإشكال واللبس هو في الجمعين الثاني والثالث ، إذ كيف يأمر عثمان بجمع القرآن وهو مجموع في عهد أبي بكر رضي الله عنهما ؟ ولذا فإن العلماء يولون التفريق بين جمع القرآن في عهد أبي بكر وجمعه في عهد عثمان عنايتهم لإزالة هذا اللبس ، ويذكرون فروقاً :
قال القاضي أبو بكر في الانتصار : ( لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع القرآن بين لوحين وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإلغاء ما ليس كذلك ) وقال ابن التين وغيره : (الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته لأنه لم يكن مجموعاً في أي موضع واحد فجمعه في صحائف مرتباً لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم وجمع عثمان كان لما كثُر الاختلاف في وجوه القراءة حتى قرءوه بلغاتهم على اتساع اللغات فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئه بعض فخشي من تفاقم الأمر في ذلك فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتباً لسوره ، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجاً بأنه نـزل بلغتهم .
ومن هذين النصين نستطيع أن نستخلص أهم الفروق وهي :
1. أنّ الباعث لجمع القرآن في عهد أبي بكر خشية أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حفظته وذلك حين استحر القتل بالقراء في حروب الردة ، أما جمعه في عهد عثمان فلكثرة الاختلاف في وجوه القراءة .
2. أنّ جمع أبي بكر على الأحرف السبعة ، أما جمعه في عهد عثمان فقد كان على حرف واحد .
3. أن جمع أبي بكر كان مرتب الآيات ، أما جمع عثمان فقد كان مرتب الآيات والسور .
إنفاذ المصاحف :
بعد أن أتمّت اللجنة نسخ المصاحف أنفذ عثمان إلى آفاق الإسلام ينسخ منها وأرسل مع كل مصحف من يوافق قراءته فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني وبعث عبد الله بن السائب مع المكي والمغيرة بن شهاب مع الشامي وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي وعامر بن عبد القيس مع البصري وتلقى التابعون في كل قطر قراءة إمامهم وتفرغ قوم منهم لضبط القراءات حتى صاروا أئمة يُرحل إليهم .
*
المكيُّ والمدنيُّ
لم ينـزل القرآن الكريم جملة واحدة ، وإنما نزل منجمًا - على دفعات - آيات وسُورًا في ثلاث وعشرين سنة ، منها ما نزل قبل الهجرة ، في مكة المكرمة ومنها ما نزل بعد الهجرة في المدينة المنورة ، وبعض السُّور أو الآيات نزلت في غزواته صلى الله عليه وسلم لا في مكة ولا في المدينة كسورة الفتح نزلت بين مكة والمدينة في شأن الحديبية ، ومن القرآن ما نزل في الليل ، ومنه ما نزل في النهار .
والفرق بين المكي والمدني تبع للفرق بين الفترتين ، فالأولى كانت فترة دعوة تحتاج إلى تثبيت العقيدة وتبيان أركان الإيمان ، والثانية كانت فترة بناء المجتمع والدولة المسلمة ، وهي فترة تحتاج إلى تشريع وتنظيم . ومن الملاحظ قصر الآيات المكية وتلاحقها ربما لحاجة المسلم إلى حفظها خفية وهو يعيش حالة الضعف والخوف من أذى المشركين ، بينما الآيات المدنية أطول ، وقد أصبحت السلطة في المدينة بيد المسلمين يأمنون على أنفسهم ويملكون حرية الحركة .
وقد ذهب العلماء في تعريفهم للمكي والمدني على ثلاثة مذاهب :
الأول : وهو أرجح الأقوال ، أن المكيّ ما نزل قبل الهجرة ،والمدني ما نزل بعدها ، سواء نزل بمكة ، أم بالمدينة ، أم بسفر من الأسفار . فعن أبن عباس قال : كانت إذا نزلت فاتحة سور ة بمكة كتبت بمكة ، ثم يزيد الله فيها ما يشاء ولذلك لا يلزم من نزول آية أو آيات من سورة طويلة نزل معظمها بالمدينة أن تكون مكيّة . ففي بعض السور التي نزلت بمكة آيات نزلت بالمدينة فأُلحقت بها . وكل من المكيّ والمدنيّ فيه آيات مستثناه .
الثاني : أن المكيّ ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة ، والمدنيّ ما نزل بالمدينة ، وما نزل بالسفر والغزوات لا يُطلق عليه مكي ولا مدنيّ ، كقوله : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى .... } ( الحجرات : 13 ) ، نزلت بمكة يوم الفتح ، وقوله : { اليوم أكملت لكم دينكم ... } ( المائدة ك 3 ) .
الثالث : أن المكي ما وقع خطاباً لأهل مكة ، والمدني ما وقع خطابًا لأهل المدينة ؛ كسورة الممتحنة فإنها نزلت بالمدينة مخاطبة لأهل مكة ، وقوله : { والذين هاجروا ... } ( النحل : 41 ) ، نزل بالمدينة مخاطبًا به أهل مكة . وأول براءة نزل بالمدينة لمشركي أهل مكة . ومما نزل في مكة مخاطبًا أهل المدينة قوله : { إن الله يأمركم أن تؤدُّوا الأمانات إلى أهلها ... } ( النساء : 85 ) .
ولمعرفة المكي والمدني طريقتان : سماعي وقياسي . فالسماعي ما وصف إلينا نزوله بإحداهما .
والقياسي : كل سورة فيها { يا أيها الناس } فقط ، أو { كلاَّ } ، أو كان أولها حروف مقطعة سوى البقرة و آل عمران و الرعد ، أو فيه قصة آدم وإبليس سوى البقرة ؛ فهي مكيّة .
وكل سورة فيها : قصص الأنبياء والامم السابقة : مكية . وكل سورة فيها فريضة أو حدّ فهي مدنيّة ، وكل سورة فيها ذكر للمنافقين ، سوى العنكبوت مدنيّة .
فقط اردت نشر مقال مطول املكه واريد ان يقرأه اي شخص سواء كان مع ام ضد