التفكير فريضة إسلامية...

لا يوجد ردود
User offline. Last seen 6 سنة 4 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 28/02/2011

 عباس محمود العقاد

من مزايا القران الكثيرة مزية واضحة يقل فيها الخلاف بين المسلمين وغير المسلمين لأنها تثبت من تلاوة الآيات ثبوتا تؤيده أرقام الحساب ودلالات اللفظ اليسير قبل الرجوع في تأييدها إلى المناقشات والمذاهب التي قد تختلف فيها الآراء ....

وتلك المزية هي التنويه بالعقل والتعويل عليه في أمر العقيدة و أمر التبعة والتكليف ..

ففي كتب الأديان الكبرى إشارات صريحة أو مضمونة إلى العقل أو إلى التمييز ولكنها تأتي عرضا غير مقصودة وقد يلمح فيها القارئ بعض الأحايين شيئا من الزراية بالعقل أو التحذير منه، لأنه مزلة العقائد وباب من أبواب الدعوى والإنكار ..

ولكن القران الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه ولا يأتي تكرار الإشارة إلى العقل بمعنى واحد من معانيه التي يشرحها النفسانيون من أصحاب العلوم الحديثة، بل هي تشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها، وتتعمد التفرقة بين هذه الوظائف والخصائص في مواطن الخطاب ومناسباته، فلا ينحصر العقل في العقل الوازع ولا في العقل المدرك ولا في العقل الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح، بل يعم الخطاب في الآيات القرآنية كل ما يتسع له الذهن الإنساني من خاصة أو وظيفة، وهي كثيرة لا موجب لتفصيلها في هذا المقام المجمل، إذ هي جميعا مما يمكن أن يحيط به العقل الوازع والعقل المدرك والعقل المفكر الذي يتولى الموازنة والحكم على المعاني والأشياء ...

فالعقل في مدلول لفظه العام ملكة يناط بها الوازع الأخلاقي أو المنع عن المحظور والمنكر، ومن هنا كان اشتقاقه من مادة (عقل) التي يؤخذ منها العقال، وتكاد شهرة العقل بهذه التسمية أن تتوارد في اللغات الإنسانية الكبرى التي يتكلم بها مئات الملايين من البشر. فان كلمة (مايند mind ) وما خرج من مادتها في اللغات الجرمانية تفيد معنى الاحتراس والمبالاة وينادي بها على الغافل الذي يحتاج إلى التنبيه، ونحسب أن اللغات في فروعها الأخرى لا تخلو من كلمة في معنى العقل لها دلالة على الوازع أو على التنبيه والاحتراس ..

ومن خصائص العقل ملكة الإدراك التي يناط بها الفهم والتصور، وهي كونها لازمة لإدراك الوازع الأخلاقي وإدراك أسبابه وعواقبه تستقل أحيانا بادراك الأمور فيما ليس له علاقة بالأوامر والنواهي أو الحسنات والسيئات ..

ومن خصائص العقل انه يتأمل فيما يدركه ويقبله وعلى وجوهه ويستخرج منه بواطنه وأسراره ويبني عليها نتائجه وأحكامه، وهذه الخصائص في جملتها تجمعها ملكة (الحكم) وتتصل بها ملكة الحكمة، وتتصل كذلك بالعقل الوازع إذا انتهت حكمة الحكيم به إلى العلم بما يحسن وما يقبح وما ينبغي له أن يطلبه وما ينبغي له أن يأباه ..

ومن أعلى خصائص العقل الإنساني (الرشد) وهو مقابل لتمام التكوين في العقل الرشيد ، ووظيفة الرشد فوق وظيفة العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الحكيم ، لأنها استيفاء لجميع هذه الوظائف وعليها مزيد من النضج والتمام والتمييز بميزة الرشاد حيث لا نقص ولا اختلال ، وقد يؤتى الحكيم من نقص في الإدراك وقد يؤتى العقل الوازع من نقص في الحكمة ، ولكن العقل الرشيد ينجو به الرشاد من هذا وذاك ..

وفريضة التفكير في القران الكريم تشمل العقل الإنساني بكل ما احتواه من هذه الوظائف بجميع خصائصها ومدلولاتها. فهو يخاطب العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الحكيم والعقل الرشيد، ولا يذكر العقل عرضا مقتضبا بل يذكره مقصودا مفصلا على نحو لا نظير له في كتاب من كتب الأديان ..

فمن خطابه إلى العقل عامة – ومنه ما ينطوي على العقل الوازع – قوله تعالى في سورة البقرة :

(أن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون )

ومنه في سورة المؤمنون:

( وهو الذي يحيى ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون )

ومنه في سورة الروم:

( ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون. وله من في السماوات والأرض كل له قانتون . وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم . ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون )

ومنه في سورة العنكبوت:

( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون )

ومنه ما يخاطب العقل وينطوي على العقل الوازع كقوله تعالى في سورة الملك:

( وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير )

ومنه في سورة الأنعام:

( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله ألا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ) ومنه بعد بيان حق المطلقات في سورة البقرة:

( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون )

زمنه في سورة يوسف:

( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم والدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون )

ومنه في سورة الحشر، بيانا لأسباب الشقاق والتدابير بين الأمم:

( تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون )

وهذا عدى الآيات الكثيرة التي تبتدئ بالزجر وتنتهي إلى التذكير بالعقل، لأنه خير مرجع للهداية في ضمير الإنسان، كقوله تعالى في سورة البقرة:

( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون )

وكقوله تعالى في سورة آل عمران:

( يأهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون )

وكقوله تعالى في سورة المائدة:

( وذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون )

وكقوله تعالى في سورة الأنعام:

( وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون )

وكقوله تعالى في سورة هود:

( يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون )

وكقوله تعالى في سورة الأنبياء:

( أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون )

وفي غير هذه السور الكريمة تنبيه إلى العقل في مثل هذا السياق يدل عليه ما تقدم من الآيات ..

إن هذا الخطاب المتكرر للعقل الوازع يضارعه في القران الكريم خطاب متكرر مثله إلى العقل المدرك أو العقل الذي يقوم به الفهم والوعي وهما اعم واعمق من مجرد الإدراك. وكل خطاب إلى ذوي الألباب في القران الكريم فهو خطاب إلى اللب – هذا العقل المدرك الفاهم لأنه معدن الإدراك والفهم في ذهن الإنسان يدل عليه اسمه باللغة العربية ..

( والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ) (سورة آل عمران)

( قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ) (سورة المائدة)

( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ) (سورة الزمر)

( لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ) (سورة يوسف)

( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر آلا أولي الألباب ) (سورة البقرة)

( وتزودوا فان خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب ) (سورة البقرة)

( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ) (سورة البقرة)

ومن هذه الآيات نتبين إن اللب الذي يخاطب القران الكريم وظيفته عقلية تحيط بالعقل الوازع والعقل المدرك والعقل الذي يتلقى الحكمة ويتعظ بالذكري والذكرى، وخطابه خطاب لأناس من العقلاء لهم نصيب من الفهم والوعي أوفر من نصيب العقل الذي يكف صاحبه عن السوء ولا يرتقي إلى منزلة الرسوخ في العلم والتمييز بين الطيب والخبيث والتمييز بين الحسن والأحسن في القول ..

إما العقل الذي يفكر ويستخلص من تفكيره زبدة الرأي والروية فالقران الكريم يعبر عنه بكلمات متعددة تشترك في المعنى أحيانا وينفرد بعضها بمعناه على حسب السياق في أحيان أخرى. فهو الفكر والنظر والبصر والتدبر والاعتبار والذكر والعلم وسائر هذه الملكات الذهنية التي تتفق أحيانا في المدلول – كما قدمنا – ولكنها لا تستفاد من كلمة واحدة تغني عن سائر الكلمات الأخرى ..

( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم آلا لعلكم تتفكرون ) (سورة البقرة)

( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ) (سورة آل عمران)

( قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون ) (سورة الأنعام)

( ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ) (سورة النحل)

( أولم يتفكرون في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما آل بالحق ) (سورة الروم)

( أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ) (سورة الأنعام)

( أولم ينظرون في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شي ) (سورة الأعراف)

( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) (سورة يونس)

( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج ) (سورة ق)

( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) (سورة الغاشية)

( من اله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ) (سورة القصص)

( أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ) (سورة السجدة)

(والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) (سورة آل عمران)

( أ فلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ) (سورة المؤمنون)

( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) (سورة ص)

( أفلا يتدبرون القران أم على قلوب أقفالها ) (سورة محمد)

( فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يأولي الأبصار )

(سورة الحشر)

( ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ) (سورة البقرة)

( وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا آلا لقوم يذكرون ) (سورة الأنعام)

( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب ) (سورة الرعد)

( وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ) (سورة النحل)

( أو يذكر فتنفعه الذكرى ) (سورة عبس)

( فأسالوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) (سورة النحل)

( ولقد أتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون ) (سورة القصص)

( ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) (سورة البقرة)

(قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال انه الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم ) (سورة البقرة)

( وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ) (سورة الأنعام)

( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) (سورة الزمر)

( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير ) (سورة المجادلة)

(هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون ) (سورة يونس)

( قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا ) (سورة الكهف)

( خلق الإنسان علمه البيان ) (سورة الرحمن)

( الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) (سورة العلق)

( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ) (سورة آل عمران)

بهذه الآيات وما جرى مجراها تقررت ولا جرم فريضة التفكير في الإسلام، وتبين منها إن العقل الذي يخاطبه الإسلام هو العقل الذي يعصم الضمير ويدرك الحقائق ويميز الأمور ويوازن بين الأضداد ويتبصر ويتدبر ويحسن الإدكار والرواية، وانه هو العقل الذي يقابله الجمود والعنت والضلال وليس بالعقل الذي قصاراه من الإدراك انه يقابل الجنون. فان الجنون يسقط التكليف في جميع الأديان والشرائع وفي كل عرف وسنة، ولكن الجمود والعنت والضلال غير مسقطة للتكليف في الإسلام، وليس لأحد إن يعتذر بها كما يعتذر للمجنون بجنونه، فإنها لا تدفع الملامة ولا تمنع المؤاخذة بالتقصير ..

ويندب الإسلام من يدين به إلى مرتبة في التفكير أعلى من هذه المرتبة التي تدفع عنه الملامة أو تمنع عنه المؤاخذة. فيستحب له إن يبلغه بحكمته ورشده، ويبدو فضل الحكمة والرشد على مجرد التعقل والفهم من آيات متعددة في القران الكريم ويدل عليها قوله تعالى:

( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا )

ويدل عليها أن الأنبياء يطلبون الرشد ويبتغون علما به من عباد الله الصالحين، كما جاء في قصة موسى واستاذه عليهما السلام ..

والذي ينبغي إن نثوب إليه مرة بعد مرة إن التنويه بالعقل على اختلاف خصائصه لم يأت في القران عرضا ولا تردد فيه كثيرا من قبل التكرار المعاد. بل كان هذا التنويه بالعقل نتيجة منتظرة يستلزمها لباب الدين وجوهره ويترقبها من هذا الدين كل من عرف كنهه وعرف كنه الإنسان في تقديره ..

فالدين الإسلامي دين لا يعرف الكهانة ولا يتوسط فيه السدنة والأحبار بين المخلوق والخالق، ولا يفرض على الإنسان قربانا يسعى به إلى المحراب بشفاعة من ولي متسلط أو صاحب قداسة مطاعة، فلا ترجمان فيه بين الله وعباده يملك التحريم والتحليل ويقضي بالحرمان أو بالنجاة فليس في هذا الدين إذن من أمر يتجه إلى الإنسان من طريق الكهان ولن يتجه الخطاب إذا إلا إلى عقل الإنسان حرا طليقا من سلطان الهيكل والمحاريب أو سلطان كهانها المحكمين فيها بأمر الإله المعبود فيما يدين به أصحاب العبادات الأخرى ..

( فأينما تولوا فثم وجه الله )

لا هيكل في الإسلام، ولا كهانة حيث لا هيكل .. فكل ارض مسج، وكل من في المسجد واقف بين يدي الله ..

ودين بلا هيكل ولا كهانة لن يتجه فيه الخطاب – بداهة – إلى غير الإنسان العاقل حرا طليقا من كل سلطان يحول بينه وبين الفهم القويم والتفكير السليم ..

كذلك يكون الخطاب في الدين الذي يلزم كل إنسان طائره في عنقه ويحاسبه بعمله فلا يؤخذ أحدا بعمل غيره:

( ولاتزر وازرة وزر أخرى ) و ( كل امريء بما كسب رهين )

( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى )

فإذا كان في الأديان دين يجتبي القبيلة بنسبها أو يجتبي المرء قبل مولده لأنه مولود فيها، أو كان في الأديان دين يحاسبه على خطيئة ليست من عمله، فليس في الإسلام إنسان ينجو بالميلاد أو يهلك بالميلاد، ولكنه الدين الذي يوكل فيه النجاة والهلاك بسعي الإنسان وعمله، ويتولى فيه الإنسان هدايته بفهمه وعقله، ولا يبطل فيه عمل العقل إن الله بكل شئ محيط، فان خلق العقل للإنسان لا يسلبه القدرة على التفكير ولا يسلبه تبعة الضلال والتقصير ..

وعلى هذا النحو يتناسق جوهر الإسلام ووصاياه. وتأتى فيه الوصايا المتكررة بالتعقل والتميز منتظرة مقدرة لا موضع فيها للمصادفة ولا هي مما يطرد القول فيه متفرقا غير متصل على نسق مرسوم. فإنها لوصايا (منطقية) في دين يفرض المنطق السليم على كل مستمع للخطاب قابل للتعليم، وهكذا يكون الدين الذي تصل العبادة فيه بين الإنسان وربه وبغير واسطة ولا محاباة، ويحاسب فيه الإنسان بعمله كما يهديه إليه عقله، ويطلب فيه من العقل إن يبلغ وسعه من الحكمة والرشاد ...