الفن المعاصر – الحديث محاولة لوصف اللاموصوف

لا يوجد ردود
User offline. Last seen 14 سنة 36 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 27/01/2007

لقد خلقت تيارات الفن الحديث مقومات جديدة لعلم الجمال، ومفاهيم بعيدة كل البعد عن تلك التي سادت في العصور الوسطى وعصر النهضة، مقومات أكثر تحرراً، خلقتها الآليات المنتهجة للتعبير عن الخبرات الفنية التي هي من ناحية أخرى ترجمة رمزية لتجارب الفنان الوجدانية. لقد عمل الفن الحديث، ابتداءً من المدرسة الانطباعية 1872- التي كانت التمهيد لظهور مدارس الفن الحديث- إلى السريالية مروراً بالتعبيرية والتجريدية التكعيبية والمدارس والحركات الأخرى التي زخر بها الفن الحديث، قفزة نوعية في نقل الاهتمام من مستوى الشكل إلى مستوى المضمون، وبهذا باتت التجربة الداخلية للفنان العنصر الأهم في تكوين العمل الفني فهي لابد أن تظهر جلياً في نتاجه، هذه التجربة ليست مقيدة بمحاكاة الواقع بشكل مفصل بل هي وصف وإظهار للمهم، حتى إن كان هذا المهم غريباً ومتناقضاً ولا واقعياً.

إن المهمة التي أخذها على عاتقه الفن الحديث هي التخلي عن الواقعية التصويرية وإهمال السطح الخارجي في محاولة التعميق في الذات الإنسانية بحثاً عن الغامض فيها، عن المجهول المطلق الذي يؤرقها، ذاك الجزء الذي لا يستطيع الواقع والعلم الوصول إليه والإفصاح عنه، ذلك الجزء الذي لا يوصف ولا يُعرف ولا يُفهم، وهنا كانت أكبر إشكاليات الفن الحديث في محاولته لوصف هذا اللاموصوف وخلق آليات للتعبير عنه.
لذلك لجأ الفن الحديث لخلق لغته ومفرداته الخاصة، لغة تعبر عن الأشياء دون أن تفهمها، لغة تحاول الغوص في اللاشعور وتصويره، بالاعتماد على التعبير بالألوان عن أفكار اللاشعور والإيمان بالقدرة الهائلة للأحلام، تخلصت هذه اللغة من مبادئ الرسم التقليدية واعتمدت على الغموض والتعقيد، فهي منبع فني لاكتشافات تشكيلية رمزية لا نهائية، تحمل مضامين فكرية انفعالية تحتاج إلى ترجمة كي يدرك مغزاها.
وبذلك فقد تستحوذ لوحة تشكيلية على إعجابنا دون الضرورة لفهمها لأنها ببساطة رسمت بلغة تعبر عن الأشياء دون أن تفهمها، فقد تتشكل لدينا ذات الدلالات العميقة التي حاول الفنان التعبير عنها بصدق ومباشرة، أو قد تلمس دلالات ورموزاً أخرى في خبراتنا المتراكمة، أو قد تبقى عصية على الفهم وهذا هو الجزء الأجمل في الفن الحديث، عدم الاعتماد على مدى وضوح لغة الرسالة أو رموزها بل على مدى تقارب صاحب الرسالة الفنية ومتلقيها في:
1 – وجود خط مشترك بين الطرفين متمثلاً في الخبرات المتراكمة لفهم معاني الرموز.
2 – وجود خبرة مشتركة تمثل الإطار الدلالي.
كان أهم دوافع الانتقال من التصويرية والنسخ البارد إلى التدخل في إعادة تشكيل حدود الأشياء وتركيبها وتوزيعها وتحريرها من نمطيتها شكلاً ولوناً هو انتهاء تبعية الفنان للأوساط البرجوازية والدينية التي كانت ترعى الفن في العصور الوسطى بتلاشي هذه الفئات في عصر النهضة والميل الكبير نحو التعبير عن الذات، بالإضافة إلى الحركة الثقافية الفكرية والنظريات العلمية التي عاصرت ظهور هذه المدارس والتي أولت الخصائص الإنسانية الفردية للبشر أهمية خاصة، فلم يعد الفن يعبر عن الكنيسة أو الدولة أو إحدى فئات المجتمع حيث أخذت الكاميرا والتصوير الفوتوغرافي هذا الدور بل اكتسبت وظيفتها المستقلة في التعبير عن حاجات الفنانين وعكس طموحاتهم ورصد ذواتهم القلقة.
في حقبة الفن الحديث أنت لست بصدد فن يضعك في مقام المتلقي السلبي بل أنت أمام رموز ودلالات تضعك في مقام المشارك في حلها وترجمتها إلى المعاني، فمساحات شاسعة من الغموض تركت كمرتع للخيال الخصب، فالفن تخطى كونه تمثيل الشكل باللون والخط إلى تنظيم الأفكار والانفعالات وفقاً لإمكانيات الخط واللون، من التعبير عن شكل إلى التعبير عن مضمون.

هوشـيار محـمد
عن جريدة الوطن السورية
h.sher@yahoo.com