الحان الجبال(.نظرة تاريخية الى الادب الكوردي)-من النت

2 ردود [اخر رد]
User offline. Last seen 12 سنة 41 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 31/10/2007

لا يخلو تراث أي شعب في العالم من ومضات في ميادين الثقافة والأدب والعلوم والفنون، فإنها لن تضيع أبدا، بل ستبقى ما بقي الشعب لأنها تمثل روحه ونبض حياته الأكورد شعب يملك التراث الثقافي، الذي يعتبرالدليل الثابت على صمود هذا الشعب الذي كافح وناضل واستمر رغم كل محاولات محوه من الوجود.فقد ظل الكردي يختزن في ثقافته المتواترة الكثير من الآثار المروية أو المدونة بما تشمله من قصص وأساطير شعبية أو شعر راق، تدل بمجموعها على فكر خصب، وخيال واسع، كما أنها في معظمها بعيدة عن الركاكة والغثاثة والتكلف، ويقول الرحالة الفرنسي فازد: (إن الكردي يمتاز بإحساسه الثاقب بالأدب والشعر).يحفل الأدب الكردي بكثير من الملاحم الشعرية، والقصص والحكايات الشعبية، التي انتقلت بالتواتر، وتناقلها الرواة جيلا بعد جيل حتى وصلت إلى عصرنا الحالي، فوجدت من يهتم ويعتني بها وبدراستها وتدوينها ثم نشرها.كما يحتوي هذا الأدب على كل ما يشمل التقاليد والبطولات والحروب، وهي أكثر من أن تعد وتحصى، لأنها تشكل أدب التراث الذي يحتاج إليه أكثر من غيره إلى همم المفكرين من أجل جمعه وإظهاره للناس، لأنها تعبر عن حاجات العصر الذي رويت فيه، ويعطي انطباعا عن أحوال المجتمع الذي تروي وتحكي عنه متمثلا بأبطال وأحداث الحكاية. تلك الأحداث التي لا تخلو أبدا من لمسات إنسانية وعاطفية مع رومانسية واضحة تبرز في هيكلية بناء الحكاية وحوارها ولعلها لا تخلو أبدا من تقديس روح الشجاعة والبطولة والإيثار.وعلى الرغم من إن الحكاية قد احتلت مكان الصدارة في الأدب الكردي إلا أن هذا لا يعني خلو الأدب الكردي من القصة، فقد ظهرت القصة أيضا بصورة رائعة جدا من خلال مجموعة من الروايات.ولا تعتبر انطلاقة (على ترموكي) الغزلية و(على حريري) اللذين عاشا في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين انطلاقة حقيقية للأدب الكردي, وإنما تحسب البداية الحقيقية لازدهار الشعر الكردي في القرنين الرابع عشر والخامس عشر على يد الملالي الصوفيين (ملا أحمد جزيري) الذي عاش ما بين الأعوام 1407- 1481, (ملا أحمد خاني) الذي عاش في الفترة ما بين 1670- 1706, حيث كانت التجربة الصوفية تتجسد في العلاقة ما بين الشاعر والكون من حوله, ممثلة خلفية ثقافية وروحية فتحت الآفاق أمام شعراء الأكراد نحو تأمل الذات والعالم من حولهم, مما عمل على تجريب الإيقاعات السريعة والابتعاد عن صرامة الإيقاع الشعري وبرزت المثنويات والرباعيات والغزل ذو الأبيات السريعة القليلة العدد والذي استخدمه الشعراء العارفون لترجمة أحاسيسهم والتزم الشاعر بذكر لقبه الشعري في آخر كل بيت منها, مر الشعر الكردي بالعديد من مراحل التطور نتيجة لتطور الحياة الاجتماعية والسياسية والتباعد والتجاذب الجغرافي والتأثر بكلاسيكية الشعر العربي في البدايات, نجح (حاجي قادرى موي) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في تحرير الشعر من واقعيته الكلاسيكية تحررا وطنيا قوميا حيث بدأت الواقعية الاشتراكية في الانتشار وشاع التغني بالأفكار الاجتماعية الحديثة والقيم القومية وتلاشت الرومانسية الى حد كبير, وفي العام 1920 صدح صوت(عبد الله كوران) ومن بعده تابع الشعر الكردي تطوره على يد العديد من المثقفين الأكراد ممن تأثروا بنهضة الشعر العربي خلال القرن العشرين وما وصل إليهم من أشعار بدر شاكر السياب ونزار قباني ومحمود درويش. تطور الشعر الكردي خلال القرن العشرين على يد (جيكر خوين) رائد التحديث الشعري الكردي وكذلك(قدري جان وعثمان صبري) وغيرهم , كما شهد الشعر الكردي تطورا رائعا على يد الشاعر (شيركو بيكه سي), وتسللت قصيدة النثر والشعر الحر إلى الشعر الكردي من خلال ثورة أدونيس الشعرية والتي حرص على الاستفادة منها أغلب الشعراء الأكراد, على رأسهم سليم بركات. وتوجد حاليا العديد والعديد من الأصوات الشعرية الكردية والتي سأحاول الإشارة إلي البعض منها من خلال هذا العرض السريع لتطور الأدب الكردي ورحلة مع أشهر الأسماء التي لمعت في سماء الشعر الكردي على مر القرون, مثل الشاعر أحمد جزيري (1481) والملا أحمد خاني (1706) وسأتوقف قليلا عند الشاعرة ماه شرف شان كردستاني (1805) - (1847(.

الشاعرة الأميرة
ولدت (ماه شان) في منطقة (سنندج) عاصمة إمارة (أردلان) في كردستان الإيرانية, وتعتبر أبرز الأصوات النسائية الشعرية في أوائل القرن التاسع عشر بشكل عام وعلى المستوى الكردي بشكل خاص, إلا أنها لا تعتبر الصوت النسائي الكردي الوحيد الذي برع في كتابة الشعر الكردي الكلاسيكي, لكن وضعها الاجتماعي هو ما أهلها لذلك, حيث تتحدر من أسرة عريقة كانت دائمة العلاقة بالبلاط الملكي, صاحبة نفوذ وسلطان يطلق عليهم الأردلانيون نسبة إلى جدهم الأكبر (بابا أردلان), وهذه السلالة ظلت تحكم لمدة 600 عام, سواء في كردستان إيران الحالية, أو مناطق أخرى, استعملت اسما أدبيا هو ( مستورة ) اشتهرت به على الساحة الأدبية. تزوجت من الأمير (خسرو خان الأردلاني) والذي كان يكتب الشعر بالفارسية, وعلى الرغم من أنها كانت تكبره بنحو عشرين عاما فإنها كانت أقرب نساء البلاط الملكي إلى قلبه, وقد قلدها منصب وزيرة (الأندرون) أي المسئولة عن التشريفات وشئون البلاط الملكي والعائلة الحاكمة, كتبت العديد من الغزليات في حب هذا الزوج فنراها تقول في قصيدتها (فضة الشمس) والتي ترجمت عن الفارسية:

يا من ثغره يسيل شهدا, وقامته تلوّح بصورة من فضة الشمس!
لا تحمّلنا بالله المزيد من الآلام,
ففي مملكة فؤادي المتيّم, تستبدُّ أناملك بنا,
تنسمتْ ريح الصبا من طرّتك, طاردتْ رائحة مسك (خطا),
(مستورة) ممتنة وراضية الآن,
فأنت جالس في أريكتها,
ولا تجرؤ ريح الصبا من الهبوب علينااستندت لغة (مستورة) الشعرية على خلفيتها الثقافية الإسلامية والعربية, وبرعت في كتابة التاريخ ولعلها تعد المرأة الوحيدة التي اهتمت بكتابة التاريخ في ذلك الوقت. كتبت الرباعيات والمثنويات والغزل والمراثي, كتبت مستورة أغلب قصائدها على الوزن الشعبي السلس, والقريب من بحر الهزج, كما أنها كتبت بعض القصائد على وزن الرجز. وهذا يدل على أن الشاعرة كانت على إلمام ببحور الشعر العربي, كان لمرافقتها لزوجها في رحلاته عظيم الأثر في اكتساب لغتها الشعرية طابعا خاصا من التحليق والتنوع واطلاعها على الحكايات الشعبية والأساطير واصطبغ شعرها بألوان الطبيعة الحية واهتمامها بالتشبيه والوصف فنراها تقول في قصيدتها (الدورق) المترجمة عن الفارسية:لو كشفتَ لنا جمال صورتك يوما,
لهوى الجميع, فقراء كانوا, أم أغنياء, على تربة دربك.
عجز (ماني) عن رسمك,
فإنه رسام البشر, لا الملائكة,
وأنت أسمى مما أقول,
قامتك سرو, ومحيّاك نبع الحُسن,
كيف لي ألاَّ أدعوك شمس العشق, ولا أصفك بالبدر والورد,
وقمر بهائك يبزّ صورة شيرين وليلى.
تغزو بأهداب عينيك ممالك القلوب.
يئن العالم من اضطرابي,
تنهب فتنتكَ قوتي, تغرقني في شرابك الدموي,
فلو جاءتنا ريحُ الصبا بأنسام من أنفاسك لأخذتْ أنيني,
ولشمختْ قامتي كالسرو في بستان السرور.

كتبت مستورة ديوانها الشعري (ديوان ماه شرف خان كردستاني) من عشرين ألف بيت باللغة الفارسية والكردية باللهجات السورانية والكورانية, إلا أن معظم الأبيات قد تعرضت للفقد وبقي منها نحو ثلاثة آلاف بيت فقط, تم جمع ديوانها وطبعه بالفارسية في العام 1926 على يد المثقف الكردي (حاج شيخ يحيي معرفة), وكذلك ألفت كتاب (تاريخ أردلان) والذي يحكي سيرة حياتها وتاريخ الأردلانيين, وإلى جانب ذلك ألفت كتاب (عقائد وشريعات) والذي يعرض عقيدة الإسلام وتعاليمه باللغة الفارسية. كان لوفاة زوجها (خسرو خان الأردلاني) وهو في الثلاثين من عمره عميق الأثر في إضفاء الحزن والشجن على كتاباتها, وكتبت فيه العديد والعديد من المراثي التي تحكي مدى حزنها بأسلوب غزلي حزين أنثوي رقيق وذلك في قصيدتها (غيابك) التي ترجمت عن الفارسية:أتى الربيع يا خسرو, أتى الربيع! أنا ضريرة من كثرة غيابك, يا خسرو,
ها أتى الربيع, وقد توجتِ المروج بالورود والريحان,
ما أشد ألم هذا الوداع!
أما تسمع قبقبة الحجل في القمم,
وقد اتشحت المروج والرياض بأجمل أزياء,
تزقزق الجداول نشوانة في خريرها,
تغني العنادل أغاني الشجن,
وافترشت السهوب أزهارا,
البلابل ثملة بخمر عشق الورد,
لكن غيابك غيّب الربيع يا خسرو!

القلب الدامي
يعتبر جيكر خوين (القلب الدامي) أشهر شعراء الأكراد المعاصرين الذين لمعت أسماؤهم في الفترة ما بين خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي, وحتى الآن يعتبر مدرسة خاصة قلدها الكثيرون من شعراء الأكراد ولايزالون حتى الآن يسيرون على نهجه, كتب الشعر الكلاسيكي وشعر التفعيلة وكذلك قصيدة النثر, برع جيكر في تجسيد الحياة الكردية والآلام والمحن التي مر بها شعبه الكردي, كان ملتزما بقضايا أمته ومصيرها مع إصراره على الكتابة باللغة الكردية بلهجته الكرمانجية على الرغم من الصعوبات التي تعرض لها, وكان يعلق على ذلك بقوله: (إذا كتبت بلغة الآخرين فإن لغتي ستضمحل وتموت أما إذا كتبت بلغتي فإن الآخرين سيحاولون قراءة وكتابة لغتي).يعتبر الشجن الشعري لدي جيكر انعكاسا طبيعيا لحياة الترحال والتشريد والمجازر التركية التي وقعت في حق الأكراد والأرمن حيث انتقل من كردستان التركية إلى عامودا ومنها إلى إيران فالعراق ثم القامشلي السورية واليتم المبكر الذي عاشه وامتهانه العديد من الحرف ومنها رعي الأغنام, خلق كل ذلك من جيكر شخصا صلبا مهموما بأمته ويعتبر من أوائل من شاركوا في الحزب الشيوعي السوري أسس جيكر خوين جمعية (خويبون) الأدبية في العام 1928 التي اهتمت بنشر الوعي القومي والثقافة والأدب الكردي في الجزيرة السورية, ضمت العديد من المثقفين والأدباء الأكراد على رأسهم كاميران بدرخان الشاعر السياسي وحسن حاجو, كما شارك في تأسيس (نادي عمودا الثقافي) في العام 1932 ومن خلاله أظهر اهتمامه بتعليم اللغة الكردية للشباب وبرز منهم عدد كبير من المثقفين لعل أشهرهم (نايف حسو الذي اشتهر باسم تيريز). كان ترحال جيكر المستمر بحثا عن العلم والمعرفة سعيا للتزود بكل ما يرفع من إمكاناته التي ستؤهله لخدمة كردستان وأبنائها, وضع كتاب (قواعد اللغة الكردي ) وكذلك ألف قاموسا في الكردية من جزأين. قام جيكر خوين بنظم المخطوطة التاريخية (شرفنامة المنظومة) والتي كانت مكتوبة بخط (الملا عبد الهادي ديركاجياي مازي) عام 1942 وهي تتألف من (742) مقطعا شعريًا, وتعتبر وثيقة تاريخية تحكي أحوال زعماء الأكراد ومكانتهم, ألفها (شرفخان البدليسي) عام 1005 هجرية باللغة الفارسية حول أنساب العشائر والأمراء الأكراد. خلف جيكر خوين ثمانية دواوين تحكي قصص الكفاح الكردية والتقلبات السياسية التي عاشها الأكراد خلال فترة حياة جيكر خوين والفخر بانتمائه الكردي وخطبه السياسية والتي كانت تحمل العديد من الدلالات السياسية والإنسانية يفسر ذلك سر الكلمات الخشنة التي احتشد بها شعره على حساب استعمال الألفاظ الرقيقة:


من أنا
كردي أنا
في الأرض والسماء

وفي قصيدة أخرى يقول:
أين حدائقي وبساتيني
أين رياضي وجناني
لقد احتلها الأعداء
آخ..
أين كردستاني... أين)?!

وكان يشير إلى محاربة الأغوات ومرتدي عباءة الدين من غير الآهلين لذلك وفيهم قال جيكر خوين:
اضربوا أيها الأخوة
اقتلوا
الآغوات... والشيوخ
إنهم أول الأعداء

استقي جيكر خوين لغته من خلال ثقافاته المتنوعة, حيث درس الفلكلور الكردي وقلد القدامى من شعراء الأكراد أمثال الملا أحمد خاني وأحمد الجزيري, ولتفادي ضياع قصائده كان يتعمد تذييل آخر بيت من كل قصيدة بكتابة اسمه وقلده في ذلك العديد من شعراء الأكراد, وعلى الرغم من أن بدايات جيكر خوين كانت دينية حيث اهتم بتعلم العلوم الدينية على يد الملالي, فإنه انخرط في العمل السياسي واهتم بعد ذلك بدراسة العلوم الدنيوية وتاريخ الثورات حول العالم, وعمد إلى التجديد في القصيدة الكردية. أصدر مع رفاقه في أول تشكيل سياسي كردي في سورية (الحزب الشيوعي السوري) مجلة (كلستان) - أرض الزهور- عام 1968 والتي اهتمت بالأدب والشعر والترجمة, إلا أن هذا التنظيم السياسي انحل وانشق رفاقه المشاركون في المجلة واعتبرت الكتابة بالكردية جريمة إلا أنه ظل يناضل ويكتب بلغته حتى وافته المنية في العام 1948 في مدينة القامشلي السورية..ولد شيركو بيكه سي في مدينة السليمانية العراقية عام 1940 صدرت له ثماني عشرة مجموعة شعرية كانت أولاها في العام 1968, كتب مسرحيتين شعريتين, كما اهتم بالترجمة فترجم رواية (العجوز والبحر) لهيمنجواي نقلا عن اللغة العربية إلى الكردية, وأسس حركة (روانكة) الشعرية في العام 1970 التي ضمت عددًا كبيرًِا من الشعراء والروائيين الأكراد. يعتبر رائد الشعر الكردي الحداثي وأشهر من برع في قصيدة النثر الكردية, تنوع إنتاجه ما بين النصوص القصيرة جدا والطويلة والقصة الشعرية والمسرحية الشعرية, وكذلك الرواية الشعرية, اتسم أسلوبه بالليونة مع اهتمامه بالتراث الكردي الشعري والأسطوري, تأثرت كتاباته بالسياسة والتاريخ والحكايات والملاحم الغنائية حيث تمكن من ابتكار نسق شعري خاص جمع ما بين الحكاية والتاريخ والحوار الدرامي والذاكرة الشعبية والغنائية, لغته الشعرية غارقة في التساؤلات والانطلاق والتحليق في دهاليز الروح كما يطغى الحزن وبعض من القسوة على كلماته ولغته الشعرية حيث يعتبر شعره تجسيدا لما تعرض له الأكراد في العراق من تنكيل وقتل جماعي.

كتب شيركو بيكه سي واصفا الشاعر بلغته الشعرية المميزة قائلا:
الشاعر يشبه حصانا أسود وحيدًا
عرفه خصلة نار
وصهيل مبلل بالانكسار
يجري في دوران دائم

شيركو بيكه سي استطاع أن يخلق جوا شعريا كرديًا خاصًا قادمًا من حلمه بوحدة الأرض والوطن ففي قصيدة-حلبجة تذهب إلى بغداد يقول:
ستذهب حلبجة إلى بغداد قريبا
عن طريق غزلان سهول (شيروانه)
حاملة معها سلة من الغيوم البيضاء
وخمسة آلاف فراشة
تنهض دجلة بوجل...
تنهض بكامل هيبتها... وتحتضنها
ثم تضع طاقية الجواهري على رأسها
بعدها...
تقترب يمامتان من النجف
يغمر حنجرتيهما الهديل
ليحطا على كتفيها

في ربيع العام 1988 حدثت الواقعة الأكثر إيلاما في تاريخ أكراد العراق (واقعة الأنفال), والتي عبر عنها شيركو بيكه سي في قصيدته الطويلة (مقبرة القناديل) والتي أطلق عليها أيضا (الأنفال) بلغة قاسية تخدش سطور شيركو الرقيقة وروح القارئ الرومانسي, تحكي (مقبرة القناديل) عن المقابر الجماعية وجنازات الدفن والعودة من الموت والخروج من السجن والاعتقال وأعمار الموتى التي تطير كالفراشات في سماء الحزن والشجن وحكايات الناجين من الموت, استعمل شيركو بيكه سي اللغات المحكية على لسان النساء المسنات اللائى شاهدن المجازر ومات أقاربهن كما كان سائدا في الأدب الشفهي الكردي القديم مع دمجها ببعض لحظات الفرح التي سبقت تلك المجازر:ليلة, في البصرة
قرب تمثال (السياب)
في احتفال التاج والنجمات ورقص البيريهات وسكر الأسلحة
أثثوا صالة من مرج من صبايا الجبال
الصالة مضيئة
والصبايا معتمات
تدخل النجمات لاصطفاء الصبايا الحزينات
على طالة ناعسة
سكينة وسلة من الأجاص
ويظل شيركو بيكسي السامي فوق حزنه المتسامي بلغته
..

حالة أدبية خاصة
لم تشهد ساحة أدبية حالة خاصة مثل سليم بركات ذلك المسكون بالشجن المفعم بالشعر والمطارد بالرواية, حين يأتي الحديث عن سليم بركات يجد المرء نفسه في حالة حيرة شديدة من أمر هذه الروح التي خطفت الألباب بسحر شعرها وبغزارة رواياتها, لا يمكن إغفال سليم بركات كشاعر كما لا يمكن إغفاله كروائي متميز سرقته الرواية من أجواء الشعر الكردي الحديث الذي يعد من رواده في سورية بلغته الخاصة المميزة الحية, حيث دائما ما يتم الإشارة إلى أن الأصوات الشعرية الحديثة جميعها لم تخرج من عباءة (جيكر خوين) أو(سليم بركات). تميزت كتاباته شعرا ونثرا باستحداث الصور وبروز المسوخ اللامرئية والماورائيات مبتعدا عن الواقعية الجامدة, ويتميز أسلوبه بنوع من الغرابة وتدور الأحداث في أجواء غير اعتيادية كما يحرص على اختيار شخصيات بعيدة عن الواقع, اهتم سليم بركات بالكفاح القومي العربي والكردي, كتب عن القضية الفلسطينية ونضال الفصائل الفلسطينية في جنوب لبنان الذي انخرط فيه سليم بنفسه شعرا ونضالا مسلحا , كتب روايته (كنيسة المحارب) حول نضاله في الجنوب اللبناني. اهتم سليم بالتأريخ الذاتي وأدب السيرة حيث كتب سيرة الصبا في رواية (هاته عاليًا هات النفير على آخره) التي صدرت في العام 1982 وكذلك كتب في سيرة الطفولة في روايته (الجندب الحديدي) عام 1980, ببنما يعتبر سليم أن أولى رواياته هي (فقهاء الظلام) والتي صدرت في العام 1985. يبلغ إنتاج سليم بركات عشرة أعمال نثرية وعشرة دواوين شعرية أولها كان المجموعة الشعرية (كل داخل سيهتف لأجلي وكل خارج أيضاَ) التي أصدرها في العام 1973 وآخرها المجموعة الشعرية (المثاقيل) التي صدرت عام 2000. اهتم سليم بركات بالشعر القصصي ذي النكهة الحداثية, يرصع لغته بالسحر وكلماته باللاممكن, فحين نقرأ سليم نشعر بأجواء خاصة تبتعد بنا عن أرض الواقع لتحلق في سماء الشعر والأمنيات والخيال فنراه يقول في قصيدة (استطراد في سياق... مُخْتَزَل):

إنها البراهينُ الحمّى,
وأنتَ تظلِّلها بالحبرِ من تهتُّكِ اليقين,
وتُوْقِعُ بالكلماتِ لتغفوَ البراهينُ على شِجارها.
لا دِيَكَةَ هنا,
لكنها أَعرافُ النارِ المتمايلةُ كأعرافِ الدِّيكة,
والوجودُ المارقُ يروِّعُ السياقَ المكنونَ للظُّهُوْراتْ.
لا بلاءَ هنا إلاَّ من وَرْدٍ...,
لا مِزْراقَ طائشا إلاَّ مِزْراق الكونْ;
والبرقُ زِرايةُ الليلِ بالمكان, ثمَّ, والمياهُ هُزْوٌ,
فمالَكَ تتلقَّفُ المشيئاتِ بشعاع... منكوب...,
وتُغْدِقُ على الألمِ إيمانَ المساء?

سليم بركات شاعر المحال وروائي النضال والبارود يتجلى دوما في دواوينه ورواياته بهموم الإنسان العربي والكردي على نغمة شجنية واحدة, وحاول الكثيرون من الشعراء الأكراد المعاصرين تقليد سليم بركات والسير على نهجه في كتابة القصيدة إلا أنه لم يتمكن أي منهم من رسم خط شعري خاص به سواء ممن كتبوا الشعر المقفى أمثال جميل داري وعبد الرحمن ألوجي, أو الغالبية التي تكتب شعر التفعيلة والقصيدة النثرية, إلا أن هناك مجموعة من الأسماء قد برزت على الساحة الشعرية الكردية الحديثة ويعتبر أشهرها الشاعر (محمد عفيف الحسيني) الذي يكتب القصيدة الحديثة نقرأ له في قصيدة (شجرة الميلاد):ثم تنتهي الحكاية,
كما سينتهي هذا العام,
وتنطفيء أشجار الميلاد,
ويعود الساهرون إلى منازلهم الصفراء;
وتغيب الحكاية, والسيدة الصغيرة,
لاريح تذكرها بالرجل,
وهو يقدم لها حنينا ويأسا, ومساء الخير.
ثم ينطفيء كل شيء,
كأنْ لم يحدث شيءٌ
سوى مرآة مشروخة, تحمل صورتين جميلتين,
ووردة ذابلة,
وشجرة الميلاد المطفأة.

كذلك الشاعر إبراهيم حسو الذي يعمد دوما إلى السير على نهج سليم بركات كما يمتاز أسلوبه بالبساطة والمباشرة يقول عن نفسه في قصيدة (أقرأ الشعر, وأنا غارق في الصحو مثلا):أنا لا أكبر أبدًا
عمري هو الذي يشيخ ويصبح معقوفًا
كذلك آنية الزهر التي في
يد ظلام آخر.
أكتب الشعر وأنا مغمض اليدين لا قوة ليّ, ولاحول
أنا مصنوع من الآجر الصعب
من الألمنيوم الذي يجلبونه عادة من جنوب إفريقيا ومن كواكب أخرى.
أنتِ مثلا: صعبة وساطعة
كذلك الشمس التي على يمين رأسي
أنتِ مثلا: عجوز, وبحاجة إلى حنان وكرسي متنقل
تنتقلين من قصيدة إلى أخرى.
ليس بوسعكِ الطيران في هذا الجو الكهربائي, ليس بوسعي إمساكك إن وقعتِ على صدري,
فأنا لا أحمل صدرين, أو صدورا.!

والشاعر (عبد المقصد الحسيني) صاحب المجموعتين الشعريتين النثريتين نقرأ له (أحاسيس خاصة أمنيات ربما تتحقق وربما لا) ففي قصيدة (السرحوب يمضغ ظل البستقاني)هل تلتم الريح في كفي
قبل أن أرمم يقظتي?
أنا كسول في مديح العتمة.
رسل الله جروا في مساء هادئ أمي من السرير
وأبي ينظر بحسد,
لم يكن لديه مسدس
ليطلق النار..
تأبط حزنا كبيرا
ظلت عينا أمي مضمومة
لا تريد أن تغادر على عجل
لتعانق أطفالها

كما سطعت العديد من الأصوات النسائية الرائعة أمثال (آخين ولات) ذات الرنة اللغوية الراقية ذات الأنوثة الطاغية فنقرأها تكتب تحت عنوان(وما تركناه من شغب... وعشب..., وبعض مواء):رقصنا طويلا, تلك الظهيرة,
تنشّقتِ الأزقةُ,
ضحكاتنا واللّهوَ البهلواني,
فتواثبت القطةٌ سوداء,
خلف الباب,
وتثاءبت باكرا,
في رغبتي بالمواء
على صدرك.

User offline. Last seen 12 سنة 47 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 25/04/2007

اختيار موفق بافي الان....
جدير بالذكر بأن هذا المقال ورد في مجلة العربي ...
كل الشكر لك

User offline. Last seen 12 سنة 41 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 31/10/2007

bemal
شكراً لك ولتوقيعك الفيروزي على الملاحظة