أنت نسيج وحدك..
كنت معجباً به تسحرني كلماته . وتزدهيني توجيهاته .
وكان يسرني أن أنجح مثله في حسن البيان , وقوة التأثير .
ولكنني لم أحاول التشبه به أو متابعته على طريقته , وأحسبني لو حاولت لفشلت , لأن طبيعتي تغلبني .
إنني أسير وفق خصائصي النفسية , كما يسير القطار على قطبانه , عندما أخرج عنها أتوقف لفوري .
وقد عرفت جماً من أصحابي يقلدون الرجل فيما دق أوجل في شأنه كله , ويحبون في التقرب إليه أن يكونوا صوراً متشابهة من أعماله وأحواله .
ولما كان استأذنا قد اشتغل قرابة عشرين سنة مدرساً في المرحلة الأولى من التعليم فقد جرت على لسانه كلمة ((صح)) التي طالما قالها لتلامذته في فصول المدرسة , كذلك شاع في تصرفاته الربت على الكتفين , مظهر العطف والحنو اللذين يديهما نحو أطفال المرحلة الأولى , والغريب أن مقلديه من طلاب الزعامة قلدوه في هذه الكلمات والحركات , كما تابعوه في حفظ كلماته ومقالاته .
وقد تشاءمت من هذا الذوبان السمج توقعت السوء منه , على الرجل وعلى مقلديه جميعاً , لأن الصدق والأخلاص والمناصحة والانتاج والحقيقة نفسها تضيع في هذا الجو المفتعل من التمثيل الردئ والمتقن ..
لماذا لا ينموا الرجال على فطرتهم التي خلقهم الله بها ,كما تنمو أنواع النباتات في مغارسها , لا النخيل تتحول أعناباً , ولا الثمار تحاكي غيرها في طعم ولون .
إن أيسر شئ على الشخص المقلد أن يلغي شخصيته أمام من يفنى فيهم .
فإذا أبدوا رأياً أيده , وإذا طلبوا مشورة تحرى الإدلاء بأقرب الأمور إلى هواهم ....
وقد قلت يوماً لبعض هؤلاء المقلدين, ما هكذا كان يعامل أصحاب محمد محمداً صلى الله عليه وسلم , وهو المثل الأعلى للخليقة !.
فعندما استشار أصحابه في أسرى بدر انطلق كل على سجيتهه يبدى رأيه فيما عنده , وكما يعتقد .
((فأبو بكر)) الحليم يؤثر الصفح , و((عمر )) الصارم يرى العقوبة .
وقد عقب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشورة صاحبيه , بأنه شبه هذا ((بإبراهيم )) الذي قال لقومه : {{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}} [إبراهيم : 36]
وشبه ذاك بنوح الذي قال : {{وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً }}[نوح : 26]..
وظاهر أن كلا الصاحبين تحرى الحق , كما يهديه إليه تفكيره المستقل , ومزاجه الخاص في تفسير الأمور .
وهذا المسلك الحر المنزه عن الملق والميوعة , هو الإسلام : فطرة الله التي فطر الناس عليها .
وبهذا الضرب من الشمائل النظيفة ألتف حول رسول الله أناس لا يرى أحدهم مانعاً البتة من أن يطلب إليه تغيير منزله في ميدان القتال , لأن الأفضل كذا , ويرى رسول الله الصواب في مشورة صاحبه فيأخذ بها ألا ليت الزعماء والرؤساء لدينا يعرفون هذه الحقيقة .
إنهم يؤمنون من يذيب نفسه فيهم – على ضعف الكفاية وانعدامها – ويؤخرون أصحاب الطبائع الحرة – وإن وثبت بهم الرسالات والأعمال إلى الأمام .
وبلغني أن الزعيم الروسي ستالين فصل أحد كبار الموظفين لديه , لماذا ؟ لأن ستالين ما استشار هذا الموظف في أمر إلا أشار إليه بما يظنه أقرب إلى مرضاته .
وقد تخلص منه الزعيم الروسي , ولو كان في ربوع الشرق لبقي موضع الرعاية إلى الممات ....
والمحاكاة وذوبان الشخصية وتمثيل الأكابر علل لا تذم في مجال قدر ماتذم في المجال الديني ........
إنه عسير على الإنسان مهما حاول , أن يكون غيره ..!
قال تعالى : {{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }}[البقرة : 148]
((من كلمات الشيخ الداعية محمد الغزالي رحمه الله – كتاب جدد حياتك ))