وفي كردستان شفاء للعراق - د.سعدالدين إبراهيم

لا يوجد ردود
User offline. Last seen 16 سنة 36 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 11/05/2007

وفي كردستان شفاء للعراق

د.سعدالدين إبراهيم

الأكراد هم أحد الشعوب الأصيلة في الشرق الأوسط، ويعود تاريخهم المسجل إلي 2000 قبل الميلاد، وينتمون لغوياً وعرقياً إلي عائلة الشعوب الهندو أوروبية، وتشمل الأفغان والفرس والأتراك والألمان. وقد دخلوا الإسلام بدءاً من القرن الثامن الميلادي، ولكن لم يتم تعريبهم، حيث لم يختلطوا اختلاطاً مكثفاً بالعرب المسلمين الفاتحين ولأنهم كانوا وما زالوا يعيشون في مناطق جبلية وعرة، فقد احتفظوا بلغتهم وثقافتهم وأسلوب حياتهم القبلية، ونزعتهم للحرية والاستقلالية عن أي سلطة مركزية. ولذلك حينما قامت بريطانيا وفرنسا بتقسيم الوطن الكوردي بين تركيا والعراق وإيران وسوريا، بعد الحرب العالمية الأولي، فإن السلطة المركزية في عواصم هذه البلدان حاولت إخضاعهم لسلطتها المباشرة. وقاوم الأكراد ذلك، ولا يزالون يقاومون، رغم مرور 86 عاماً علي نهاية الحرب العالمية الأولي.

وقد كان العراق هو الأكثر معاناة وشقاء بسبب المسألة الكردية. من ذلك أن صراعاً مسلحاً ممتداً بين الحكومة المركزية في بغداد قد استغرق أكثر من نصف تاريخ الدولة العراقية الحديثة (1921-2007)، سواء في العهد الملكي (1921-1958)، أو العهد الجمهوري الشعبوي الذي بدأ بعبد الكريم قاسم (1958-1963) وانتهاء بصدام حسين (1978-2003). ولكن أكثر هذه العهود قسوة ودموية كان عهد الطاغية صدام حسين، حيث فتك قتلاً بحوالي نصف مليون من مواطني كردستان، وشرّد مليوناً آخرين من ديارهم، وأحل محلهم آخرين من جنوب ووسط العراق، في هجرة قسرية غير مسبوقة في الشرق الأوسط منذ إنشاء إسرائيل وتشريد أبناء الشعب الفلسطيني. هذا فضلاً عن تدمير أكثر من ثلاثة آلاف قرية كردية ومحو آثارها من الوجود. ولم يتردد في استخدام أبشع أسلحة الدمار الشامل، الكيماوية والبيولوجية، لترويع وقتل المواطنين الأكراد، فيما سماه صدام نفسه بعملية "الأنفال"، ومذبحة حلبجة، والتي لم يستثن فيها زرعاً أو ضرعاً، نباتاً أو حيواناً، نساء أو شيوخاً أو أطفالاً.

ورغم هذا الشقاء الذي تعرض له أكراد العراق، فإن مقاومتهم لطغيان صدام حسين، ونضالهم من أجل حقوقهم لم يفترا لحظة واحدة إلي أن سقط الطغيان من جبروته، وأصبح أثراً بعد عين. وكفكف الأكراد دموعهم، وضمدوا جروحهم، وسارعوا بإعادة بناء إقليمهم، مادياً ونفسياً واجتماعياً وسياسياً.وبينما ترنح بقية العراق بعد سقوط نظام البعث والأخطاء الفادحة التي ارتكبتها سلطات الاحتلال الأمريكي في وسط وجنوب العراق، وانفجار العنف، وانتشار الإرهاب فيهما، فقد ظل شمال العراق، أي إقليم كردستان آمناً، وازدهر اقتصاده ومجتمعه المدني، وتكرّست عملية التحول الديمقراطي من خلال نشاط الحزبين الكبيرين: الديمقراطي الكوردستاني، والاتحاد الوطني، إلي جانب أقليات لغوية وقومية، منهم التركمان والآشوريون والكلدان واليزيديون. وفي مرحلة سابقة من مسيرة كوردستان، حينما اشتد التنافس بين الحزبين الكبيرين، وتحول إلي اشتباك مسلح، خرجت مظاهرات ضخمة، دعت إليها منظمات المجتمع المدني، واعتصمت الجماهير في الساحة المواجهة للبرلمان، ورددت هتافات الاحتجاج ضد الحزبين مطالبة بوقف الاشتباكات وحقن الدماء علي الفور. وأذعن زعيما الحزبين، واستجابا لمطالب الجماهير الكوردية، وخرج السيد جلال الطلباني والسيد مسعود البرزاني إلي شرفة البرلمان وتعهدا بوقف القتال، وأقسما للجماهير الحاشدة بألا يحتكما إلي السلاح مرة أخري، لا مع بعضهما، ولا مع أي فريق كوردي آخر. وحيتهم الجماهير وانصرفت إلي حياتها، وهي تشعر بالقوة والارتياح والانتصار. واليوم يشغل جلال الطلباني منصب رئاسة الجمهورية العراقية، ويشغل مسعود البرزاني منصب رئاسة حكومة إقليم كوردستان.

ربما كانت سنوات المعاناة، وانخراط معظم أبناء كوردستان في الحياة الحزبية ومنظمات المجتمع المدني، هو الذي أعطي الناس إحساساً عميقاً بأن الحرية ينبغي أن تكون للجميع علي قدم المساواة، لكل من يعيش علي أراضيهم، أكراداً وعرباً وتركماناً، مسلمين ومسيحيين ويهوداً وصابئة. وقد حرص الدستور المحلي لإقليم كوردستان، علي أن يكون النظام الانتخابي بالتمثيل النسبي، الذي يسمح لأصغر الأحزاب علي أن يكون لها نواب في برلمان كوردستان، حتي لو حصل الحزب علي واحد في المائة من الأصوات. لذلك لم نعثر في كوردستان علي من يشكو من انعدام العدالة أو النزاهة في النظام الانتخابي. كما لم نصادف أي شكوي من ممثلي الأقليات الذين يعيشون في كوردستان. بل علي النقيض تماماً مما يحدث في بقية العراق، حيث يتم نسف كنائس ومعابد غير المسلمين، لمسنا في كوردستان، لا فقط الحماية والرعاية، ولكن أيضاً الاحتفاء بكل الأقليات غير الكوردية وغير المسلمة.

وبهذه المعاني والمشاهد خلصنا بعد أسبوع من المعايشة، والتجوال، والحوار، أن إقليم كوردستان الذي كان يعيش فيه ربع سكان العراق وزاد العدد إلي الثلث خلال السنوات الأربع الأخيرة نتيجة لجوء حوالي مليوني عراقي، هو النموذج الأمثل في العراق. إن إقليم كوردستان هو قصة النجاح الوحيدة في العراق إلي تاريخه. ونرجو أن تتلوها قصص نجاح أخري.

ولكن إلي أن يحدث ذلك، أو لكي يحدث ذلك، فإن علي إقليم كوردستان أن يبادر إلي القيام بدور المنقذ للعراق من الضلال والدمار. وقد يبدأ ذلك بالمحافظات العراقية الملاصقة جنوباً وشرقاً وغرباً. فالمحاربون القدماء والمحدثون من البيشمرجة، قد اندمجوا في الجيش العراقي الوليد، أو في الأجهزة الأمنية الجديدة للعراق. ولكنها ما زالت تتمركز في إقليم كوردستان وهي الأكثر تمرساً وخبرة وانضباطاً. وعليهم مساعدة السلطات المحلية علي حفظ النظام ومناهضة الإرهاب، في المحافظات المجاورة، مثلما فعلوا في المحافظات التي يتكون منها إقليم كوردستان. والأكراد ليسوا الآن طرفاً في الصراع المحتدم بين الشيعة العرب والسُنة العرب، وقد استقبلوا كل من لجأ إليهم من الطرفين طلباً للأمن والأمان.

وقد تحدثت مع الشيخ خالد العطية، نائب رئيس البرلمان العراقي، وأحد القيادات الشيعية البارزة، عما إذا كان الأكراد يستطيعون القيام بهذا الدور، فرد بالإيجاب، وقال ليتهم يقبلون هم القيام بهذا المعروف، فهم محل ثقة معظم الشيعة، حيث كانوا مثل الشيعة ضحايا لنظام صدام البعثي. وسألت أحد القيادات البرلمانية السُنية وهي السيدة صفية السهلي نفس السؤال فردت أيضاً بالإيجاب، حيث إن العرب العراقيين يشتركون مع الأكراد في الانتماء لنفس المذهب السني، ولا يشعرون بالتهديد الطائفي من الأكراد، كما يشعرون نحو الأغلبية الشيعية. وأخيراً سألت السيد عدنان المفتي، رئيس برلمان كوردستان نفس السؤال، فأجاب بتحفظ وفقط إذا طلب أصحاب الشأن أنفسهم ذلك، وفقط إذا كان هناك تأييد عربي، ودعم دولي.

وفي آخر ليلة لي في مدينة أربيل، حضر للقاء بي حوالي ثلاثين من قيادات المجتمع المدني في كوردستان، وطرحت عليهم نفس السؤال. وكان هناك انقسام حاد في الإجابات. وكان الذين لا يرحبون بدور المنقذ من الضلال، أولئك الذين ما زالوا يحلمون بانفصال كوردستان تماماً عن العراق، وبناء دولتهم المستقلة، بعيداً عن مشكلات العرب، سواء كانوا شيعة أو سُنة. ولكن بعد ساعتين من النقاش والحوار، اقتنع حتي أكثر الأكراد تشدداً، أن الحكم الذاتي لإقليمهم لا يمكن ضمانه مستقبلاً، إلا في عراق مستقر، آمن تعددي، وديمقراطي. فالجيران (تركيا وإيران وسوريا) لن يسمحوا، ولن يعترفوا بأي دولة كردية، علي الأقل في الآجل المنظور. وعند هذه النقطة في الحوار بدأ الجميع يفكرون في الكيفية التي يمكن بها لإقليم كوردستان أن يقوم بدور إنقاذ العراق من الضلال والدمار.

لقد كان للأكراد مآثر عديدة في التاريخ العربي الإسلامي، نذكر جميعاً منها ما قامت به الدولة الأيوبية، بقيادة صلاح الدين في مقاومة الحملات الصليبية، وتحرير القدس، في القرن الثاني عشر الميلادي. ولكن الذي لا يعرفه كثيرون هو أن قطبين من عمالقة الأدب العربي في القرن العشرين هما من أصول كردية وهما أمير الشعراء أحمد شوقي، والكاتب الكبير عباس محمود العقاد. ولقد سمعت علي مر الأربعين سنة الأخيرة الزعماء الأكراد جميعاً، من الملا مصطفي البرزاني إلي جلال الطلباني، إلي مسعود وإدريس برزاني، إلي برهم صالح وعدنان المفتي، والدكتور أحمد عبد الرحمن، وبختيار أمين، يشيدون بالأخوّة العربية الكردية. ومع ذلك لم يشق الأكراد في نفس هذه العقود الأربعة قدر شقائهم علي يد الحكّام العرب في العراق. والسؤال الآن هو هل يكون شفاء العراق علي يد كوردستان مستقبلاً؟ إن تاريخ الأكراد العريق، وإنجازاتهم المعاصرة توحي بهذا الرجاء. ولكن الله وحده أعلم.
saadeddinibrahim@gmail.com
عن " الراية القطرية"