ابنة الزبال

11 ردود [اخر رد]
مشترك منذ تاريخ: 12/09/2006

ابنة الزبال
كان من الممكن أن يكون صباحي عادياً كأي صباح آخر أضطر فيه للسفر إلى مدينة دمشق بسبب ظروف عملي . إلا أنَّ هذا الصباح كان يحمل لي ، في ثنايا أشعة الشمس الخارجة من رحم الشرق لتوها
، إشراقة إنسانية نادرة سيبقى نورها يضيء في داخلي إلى آخر يوم من عمري .
وصلتُ إلى محطة القدموس قرب حديقة الباسل ، ونظرت بعيني المثقلتين بالنعاس إلى الساعة، ما زال الوقت مبكراً لن ينطلق البولمان قبل ربع ساعة من الآن مما يسمح لي بارتشاف فنجان من القهوة مع سيجارة أخيرة قبل أن أضطر إلى ترك التدخين لمدة ساعة كاملة موعد وصول الرحلة إلى استراحة حمص . كانت هذه الأفكار تتوارد إلى خاطري تلقائياً بينما كانت يدي تبحث عن القداحة في جيب معطفي ... ولست أدري إلى الآن أي نار اشتعلت أولاً ؟ أهي نار القداحة التي أشعلت سيجارتي أم نار ذلك الشرر الذي تطاير إلى هشيم روحي من عيني تلك الفتاة ؟
كانت تقف بهدوء وانعزال وراء إحدى الأشجار التي تصطف أمام مركز المحطة ، كأنها كانت تتحاشى ازدحام الأقدام والوجوه على الرصيف أو لعلها كانت تنتظر شخصاً ما ! لم تكن فائقة الجمال لكنَّ سرا ما جعل أنوثتها الساكنة تفيض وتخلق الحركة في كل ما حولها . بين الرشفة والأخرى كنت ألقي نظرة عجلى أطمئن بها على فيض الأنوثة ذاك ! أكثر ما شدني إليها أنها لم تكن تعير انتباهاً لتظاهرة العيون حولها .. بقيت على وقفتها الهادئة ونظراتها الثابتة في الأرض . كيف يمكن لهذا الهدوء والثبات أن يثير فينا كل هذه الفوضى والحركة ؟
فوضى وحركة !! هذا ما خطر ببالي حينها لأنني لم أكن أتوقع هبوب زوبعة في ذلك الصباح الهادئ ولم أكن أتوقع زلزالاً يثور من قلب السكون !!
هادئة وساكنة ومنعزلة وراء تلك الشجرة غير مكترثة بي وبشغفي في تحليل شخصيتها أو استكناه سر أنوثتها ولا مكثرثة بكل العيون التي أحاطت بها . أحقاً لم تلاحظ أنها محط اهتمام الجميع ؟ ألم يثر فيها هذا الاهتمام أي إحساس بالغرور ؟ أم أنها معتادة على ذلك وقادرة على التعامل معه بكل هذا الثبات والسكون ؟
فجأةً .. ولسببٍ ما تحركت من وراء شجرتها ! ووراءها تحركت العيون مغتنمةً هذه الفرصة النادرة كي تفوز بنظرة إلى كامل قامة الفتاة بعد أن تعبت العيون ويأست من اختبائها وراء ذلك الجذع اللعين !
لا أعرف إن كنت الوحيد الذي أستغرب هاتين الخطوتين اليتيمتين اللتين أقدمت عليهما هذه الفتاة ! هي الآن أصبحت تقف على حافة الشارع تحت عتبة الرصيف وفوق رموش عشرات العيون المأخوذة بجمالها وأنوثتها وشعرها الطويل المرخي على ظهرها كامتداد لأشعة الشمس.
وكما تحركت الفتاة فجأة .. فجأة كذلك انحنت بظهرها انحناءة كاملة !! ما الذي يجري ؟ ماذا حدث ؟ لم تستطع العيون المفتونة أن تتقبل ما رأت ولا أن تستوعب المشهد المأساوي بإنسانيته بعد أن اتضحت الصورة الكاملة !! أهذا ما يحدث فعلاً أمام عيني في هذا الصباح أم أنا أتوهم أم أن الفتاة وقعت في خطأ ما ؟؟ لماذا سكن الجميع بعد أن تحركت الفتاة ؟ وما معنى هذه النظرة التي استقرت في عيونهم إن كان لها معنى ؟ كأن العيون ترفض أن تصدق أو لعلها لا تستطيع أن تتقبل هذه التركيبة الغريبة ؟
فتاتنا .. فاتنتنا .. أنثانا المختارة لهذا الصباح .. ملكة عيوننا وقلوبنا .. تترك كل هذا الترف الذي كانت عيوننا تحيطها به وكل هذا الاهتمام والشغف وتنسحب من مهرجاننا وتظاهرتنا التي أقمناها على شرف أنوثتها الطاغية وتتقدم بخطوتين إلى عربة قمامة .. عربة قمامة يقودها رجل طاعن في السن عليه ثياب رثة متسخة ثم تنحني فتاتنا أمامه انحناءتها الكاملة تلك التي سلبت عقول الكثيرين منا وتمسك بيد الرجل وتقبلها باحترام لا تصنع فيه ولا خجل ثم تطبع قبلتين أخريين على خده بينما أناملها البيضاء الناعمة تشد بحرارة على يده التي كانت منذ قليل تجر عربة القمامة وابتسامة عريضة ترتسم على محياها وفي عينيها نظرة تفيض حناناً وهي تتأمل في قسمات وجهه وكأنها تتزود منها لأيامها القادمة !!
ـ أدعُ لي بالتيسير يا أبي
ـ اللهم يسر .
ويضع الرجل يده في جيبه ويخرج منها ورقة من فئة مئتي ليرة سورية ويحاول أن يدسها بيد ابنته التي تشد على قبضة أصابعها في تمنع متردد عن قبول هذا المبلغ لكنها تستسلم أخيراً أمام إصرار والدها العجوز وتسارع إلى إخفاء هبة والدها في جيبها والحمرة القانية تتسرب إلى وجنتيها خوفاً من أن يكون أحد لاحظ ذلك .
تابع الرجل جرَّ عربته باتجاه مبنى البلدية بينما ابنته تشيعه بنظراتها الحنونة الدافئة ، حتى إذا غاب عن نظرها عادت الفتاة إلى مخبأها وراء جذع تلك الشجرة ووقفت وقفتها الهادئة .
أهكذا تكون الزوبعة إذا هبت في صدر الانسان ؟ أهكذا يكون الزلزال إذا ضرب في أرض الوجدان؟
وانطفأت جميع العيون التي كانت منذ قليل تشتعل بنار الشغف ... وانفضت التظاهرة لتحتشد في داخل كل واحد منا تظاهرة من نوع آخر ! تظاهرة من الأسئلة التي لا تنتهي !! والدها؟؟ ابنته ؟؟ زبال؟؟ تنحني ؟؟ تقبل يديه ؟؟ على الملأ؟؟ هو ؟؟ هي ؟؟
أحسست أن صدري لم يعد يتسع لمزيد من الدخان بعد أن حرك هذا المشهد كل رواسب القهر والضيق في حناياه ، فرميت ما تبقى من سيجارتي وطأطأت رأسي إلى الأرض ، من هذه الفتاة ؟ أريد في هذه اللحظة أن أقول لها : .... ماذا سأقول لها ؟ أنت رائعة حتى ولو كان والدك زبال !! ألم أر بأم عيني مدى احترامها لهذا الزبال ؟ ألم أر كيف أنها أهانت كل نظراتنا وابتساماتنا وإيماءاتنا وترفنا الصباحي بأنوثتها الطاغية وأجبرت كل واحد منا أن ينحني في داخله مع انحناءتها أمام أبيها ؟؟ ماذا سأقول ؟؟ ولماذا أظن أنها تحتاج أن أقول لها شيئاً ؟؟ ها هي وراء جذع شجرتها تقف وقفتها الهادئة المنعزلة وكأن شيئاً لم يحدث وكأنها لم تخط خطوتين ولا انحنت انحناءتها ولا أثارت زوبعة في صدري ولا أحدثت زلزالاً في ضميري !! ماذا سأقول لها ؟؟ إن كان ثمة ما يقال فيجب أن أقوله لنفسي وليس لها !!
لقد تأخرت يجب أن أصعد إلى البولمان !!

ذكريات الزمن القادم...

User offline. Last seen 11 سنة 2 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 19/02/2008

وين الغلط أخ سربست

الشغل مو عيب
بدي أسأل سؤال ياترى لو كانت هذه الفتاة لم تجذب اعينكم بانوثتها أكنتم
نظرتم اليها لا والله

الشيء الذي رأيته ليس أمرا غريبا بل أمر عادي
كلنا أبناء طبقة على قد الحال كما يقولون والشغل مو عيب
برأيي أن الزبال ومهنته شريفة لا غبار عليها بالرغم من الغبار الذي فيها
مهنته أفضل بمئة مرة من ذاك الوحش البشري القصاب مدعي الطب
الذي يكتب على عيادته أنواع الحكم والبريستيج
بينما هو مادي يملأ الأرض بالرذيلة بدلا من الفضيلة
شكرا اخ سربست على الموضع الجميل

مشترك منذ تاريخ: 12/09/2006

شيرغو,

اولاً العمل ليسا بي الامر المعيب...

قصدي من هذه القصة فتاة بذلك...

الجمل لم تستحي من عمل ابوا...

بلا بي العكس تماماً افتخرت بي ابوا...

وقبلات يده امام اعين الجميع الذين كانو...

ينظرون ليها وكنا أمير . ومثل هذه الفتاة اصبحو...

عملة نادرا في هذا الزمان .

شكراً لك اسعدني مرورك

ذكريات الزمن القادم...

مشترك منذ تاريخ: 11/02/2007

رائعة هذه الفتاة (ما اجمل التواضع لايوجد شيء في الدنيا احلى منه )
فعلا عملة نادرة

عنجد موضوع راااائع يا اخ سربست اثر فيني كتير لدرجة شوي تانية كان بدي احفظ المقال اللي انت كتبتو والله (انت كمان عملة نادرة )

:wink: سباااااااااااااااااااااس :P

مشترك منذ تاريخ: 11/02/2007

رح اعرض هل موضوع على طلاب صفي في عنا درس بالعربي بيتحدث عن حال الناس والفقر والتواضع ومن هل اشيا :P

User offline. Last seen 12 سنة 49 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 25/04/2007

ترددت كثيراً قبل أن أصل الى أن أدع هذه المشاركة في هذا القسم...
قصة مؤلمة...وفي نفس الوقت تدعو للتفاؤل...
فشخصية الفتاة متزنة لدرجة أنها لم تكترث لكل نظرات الإعجاب المحيطة بها , بل راحت تقوم بواجبها أمام والدها المسن...
أعجبني تصرف هذه الفتاة.. وأعجبني أسلوبك أخي سربست في شد القارئ الى القصة..وكذلك وجود عقدة ومن ثم حل جعل لهذه القصة التي يبدو أنها حصلت معك بالفعل,جعل لها نكهة مشوقة في انتظار الحل......
......
.....
شكراً لك سربست على هذه القصة الجميلة, تقبل احترامي

مشترك منذ تاريخ: 12/09/2006

كجى قامشلو,

هوا التوضع الذي يميز الانسان

كل الشكر على المرور الجميل

BEMAL,

اسعدني وجودك اخي العزيز

ذكريات الزمن القادم...

مشترك منذ تاريخ: 11/02/2007

زوووووووور سباس ...... قصة رائعة اخي سربست

سلمت يداك ...........

مشترك منذ تاريخ: 12/09/2006

كجى قامشلو,

القصة هيا لي الاستاذ ( ادريس حسين)

ذكريات الزمن القادم...

User offline. Last seen 14 سنة 31 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 28/03/2006

تمطرنا دائما باروع ما لديك ............
اشكرك فائق الشكر.............. :)

صورة  dilo can's
User offline. Last seen 4 سنة 3 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 16/09/2006

شكرا سربست ..

قصة مؤثرة حقا ..

،،،،،

 

 

..................................****............................................

         كن ما شئت  ....  و لكن كن صادقاً .

مشترك منذ تاريخ: 12/09/2006

روجا...

اسعدني مرورك الجميل...

دلوجان...

كل الشكر لي مرورك اخي العزيز...

ذكريات الزمن القادم...