المثقف.. والسلطـــة ..!

2007-04-09

دهام حسن    - 1 -ثمة  تعاريف عديدة و متعددة للمثقف ، تعاريف تتداخل ، تضيق ، وتتسع ، حسب رؤية المعرف  وأسانيده ، وتوليفه لرؤى مفكرين كبار، يشهد لهم  بالسبق في هذا  الميدان .. لكنني  لن أخوض في رحاب هذه التعاريف ، لأنني ما أقصده  بالمثقف في هذه  المناولة ، هو ذلك  المثقف العامل في حقول  الفكر والسياسة ، متخطيا ميدان تخصصه ومن هذا  المنطلق ، أبادر إلى القول عنإمكانية تصنيف المثقفين على الساحة الوطنية لأية دولة كانت ، بفئتين.... الفئة الأولى تشـمل المثقف الناقد والمحلل ، الذي  ينخرط في قضايا المجتمع ، فيتناولها بالنقد والتحليل والمعالجة، وفق رؤية موضوعية ، ومستندة على دراسات ومعطيات  تمكن المثقف - بالتالي – من تشخيص مواطن الخلل ، واستنباط  معالجات وحلول ؛ مثل هذا المثقف يصنف في المعارضة ، حتى لو لم يكن منتميا لأي  تنظيم سياسي...   أما  الفئة الثانية فتضم المثقف السلطوي الانتهازي الذرائعي ، الذي يحتال الأعذار ليبرر للحكومة هذا التصرف أو ذاك الانتهاك. وربما تبوأ منصبا  يدر له ما يكفي ليغدو بالتالي  بوقا ، أعني ناطقا رسميا باسم الحكومة ،لاسيما إذا  أجاد فبركة الكلام  والتضليل.. وإذا ما تناولنا الفئة  الأولى ، رغم التلاوين التي لا بد أن تظهر داخل كل فئة ، فلا بد من الإقرار من أن الشارع  يتأثر بالفكر، ويواكب المثقف ، ذلك المثقف الذي يتحسس هموم الناس ، المثقف المرتبط بقضايا شعبه ،الذي يناوش السلطة بقلمه ، ولا يهادنها  أبدا، حتى لا يفقد دوره  كمثقف، ولا يفقد مصداقيته ؛ والمثقف بغير هذا السلاح ، وبغير هذه الرؤية ، لا يعدو كونه  موظفا  عاديا في أي سلك حكومي لا يختلف عن سواه . لماذا هذا التطلب من المثقف ؟ لأن ثمة مئات المسائل وقضايا لا يمكن حصرها ، ولا يمكن لها أن تنتهي ، مطروحة دائما للجدل ، وتبادل الآراء للبت فيها ، والمثقف بوصفه خير من يجسد الوعي ، قادر على توضيح الجوانب الملتبسة فيها، وبيان انعكاسات هذا الطرح في مسألة ما ، ومغبة هذه المعالجة أو تلك على مصالح سائر فئات الشعب، أجل المثقف وحده القادر ، أن يوضح للناس كل الجوانب ، ليتلمسوا بالتالي طريقهم الصحيح، كما أنه يفضح مسار الجشع لدى الكثيرين ، ذوي المصالح ، وأصحاب الامتيازات ، والمتنفذين من ذوي الحظوة  لدن سلطان  جائر ،  الذين عرفوا من أين تؤكل الكتف ، فلم يكن أمامهم إلا أن يسلكوا الطريق الآخــر..  أما المثقفون الذين صنفناهم ضمن الفئة الثانية ، أو ما عرف واحدهم بالمثقف السلطوي ، هؤلاء رغم عدم تجانسهم  في المواقع الاجتماعية ، والتراتبية ، يتشابك نسيج رؤاهم ويتناغم في  شكل   ومسلك التقرب من السلطة , والتباري  في التزلف ، لذلك  فهم يخفون الحقائق ، ويضللـون؛ وضمن هذه الفئة  قد ينهض من يحاول أن يشغل الناس بقضايا بعيدة ، ليصرفهم عن قضاياهم  الحياتية اليومية ، فالفقر ، والبطالة، والهجرة ، والقمع ، والاستبداد..الخ لا يتطرقون إليها، وفيهم من  يشهد له على الساحة الفكرية بالصيت ، لسابق نتاجه ، لكنه يحيد عن مساره ، ليندار إلى الأ قلام  المناوشة للسلطة ، يتسقط زلات أصحابها ، موهما الآخرين ، بأن غايته هي البحث عن الحقيقة ، وقد يهيم في فضاء النظريات يظهر نخبويته ، ويضيع متابعيه ، فيقتطع أمثلة صحيحـة من التاريخ ، يدعم بها رأيه ، ناسيا أنه بكل جهده هذا ، ومهما حسنت النيات، قد يظهر نصف الحقيقة، ويغبر على النصف الآخر؛ وإلا فلماذا لا يثني أو يشيد بالمواقف الصحيحة لهؤلاء على الأقل ولو مرة واحدة ؟. لقد علمنا ماركس أن من نتعاطف معهم طبقيا فيما لو أخطؤوا في نضالهم أن نسدي إليهم الشعار الصحيح لا أن نقول لواحدهم : "كفّ عن النضال فكل نضالك باطل" .. فموقف ماركس من كومونة باريس خير دليل على هذه الفكرة ، أو النقطة ، فهو لم يشجع على الثورة ، لأنه بإطلاعه الواسع ، و ببصيرته العلمية ، كان يدرك أن النجاح لن يحالف الكومونيين ، وحذرهم من مغبة القيام بالثورة في ظروف غير مؤاتية ، وغير ناضجة ،  لكنه لم يأل جهدا بمساعدة الكومونيين ، عندما أصبحت الثورة واقعا ، من دون أن يعنفهم بالكلام ، لأنهم لم يأخذوا برأيه..                                                    - 2 -                                                           دون شك .. أن المثقف  بتعبير علي حرب ، " يمثل النخبة والطليعة ، ويجسد وعي الناس ، أو ضمير المجتمع " المثقف هو ذلك الإنسان المرتبط  بقضايا شعبه ، وهو صاحب الرؤية  النقدية للمجتمع .. والدكتاتور شرما يزعجه هو قلم المثقفين ، لهذا لا تروقه إلا الثقافة الامتثالية .. نقل عن نابليون بونابرت أنه أغلق أربعا وستين صحيفة من أصل ثلاث وسبعين ، منذ بدايات القرن التاسع عشر وقال : لو أ نني سمحت  بصحافة حرة لما بقيت أكثر من ثلاثة  أشهر ، ومن المسلم به أن الديكتاتور لا يتقبل النصح حتى من حلفائه المقربين لأنه كما أسلفنا لا يرضى إلا بالثقافة الامتثالية والقبول  بما يلهمك هو من النصح والتوجيه. لأنه محتكر للحقيقة، ورافض لصور من التعددية ؛ وربما دفعه ضيق  صدره إلى ممارسة إرهاب فكري حتى ضد المقربين المخلصين في تقديم النصح والمشورة ..لقد حمل جان بول سارترعلى المجتمعات التي تعمل على صهر الأديب ، وأعده من أسوأ أنواع المجتمعات؛ لهذا ، تبقى قضية المثقفين الأثيرة ، المقدسة عندهم هي حرية التعبير ، ورفع الحظر عن أقلامهم ...    من البديهي في هذه الحالة ، أن يكون المثقف الملتزم بقضايا مجتمعه ، مكانه خارج أبنية السلطة إن لم يكن في أقبيتها...  لكن في المقابل ، كثيرا ما يستبد بالمثقف الهلع ، وذل الحاجة ، كما جرى مع "سيد القمني" فيصمت ، أو ينقلب على قناعا ته ، أو يستريح استراحة المحارب ، ثم يعود فارسا محاربا ، كما السيد القمني بعودته الميمونة ، لأننا وبصراحة لا يمكن القول أن المطلوب من المثقف أن يكون  "عنترة زمانه"نعم .. الظروف قد ترغم المثقف للدفاع عن سياسة الحاكم ؛ ومنهم من ينكفئ على نفسه ليعيش حالة " اللامبالاة  وثقافة التبرير ولوم التاريخ والأجيال السابقة " ومن المثقفين الذين تقفل أبواب الإبداع أمامهم، يلوذون إما إلى التراث أو إلى الدين أو إلى السلطة  فيرون فيها  الشرعية ، ويحتا لون لها الأعذار والتبريرات ، ويدخلون في علاقات متينة مع أهل النفوذ والسلطان ..  لهذا فالمطلوب اليوم بالنسبة للمشتغلين بالهم  الثقافي في مجتمعاتنا كما يقول الكاتب تركي الحمد : "هو نقد الثقافة المهيمنة ، والعقل  المسيطر قبل أي نقد آخر، إن الحاجة ملحة إلى قيام حركة نقد معرفية للثقافة والعقل الذي ينتجها قبل أي شيء آخر".   في كل الأنظمة الشمولية ، تفجؤك ملاحظة تهميش المثقفين الملتزمين بقضايا شعوبهم .. لماذا هذا التهميش؟ لأن الثقافة ، تعني الوعي ، تعني الاستنارة ، ولأن المثقف ينبذ التقاليد الجامدة ، ويدعو للتغيير ، ولأن  الثقافة أيضا ترشدنا لسبل الحرية ، وتعلمنا التفاعل والحركة مع الحدث ، كما تساعدنا على تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود... لهذا حق لـ "هانز جوست" أحد كتاب المسرح الألمان ، الذي أعلن ولاءه لهتلر من القول على لسان إحدى شخصيات مسرحيته في عام – 1933 - :  ( حين أسمع كلمة "الثقافة" أ تحسس مسدسي )..هكذا كان موقف النازية من الثقافة والمثقفين... ! ألا ينبغي منا جميعا أن نبحث عن موقف آخر، عن مسلك آخـر مغاير تجاه مثقفينا ..؟!      

MAS


ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.