ابراهيم شتلو : أمنية الصوفي ؟

2015-04-07

كان فندق تيبستي مكان إقامتى المفضل أثناء زياراتي لمدينة بنغازي فعلاوةَ على الجمال المعماري للفندق فهو مبني على إرتفاع  مما يسهل لرواده التعرف بسهولة على المنطقة المحيطة به وأيضاَ على سيارات التكسي – سيارة الأجرة – التي كانت تقف في الموقف المخصص لها في  أسفل مدخل الفندق.
ورغم قلة عدد تلك السيارات فقد كنت أحاول تحاشي ركوب سيارة تكسي مرسيدس من طراز قديم  يعود إلى الثمانينات ليس فقط  للونها الأسود الذي كان يعطي الإنطباع وكأنها طليت بفرشاة حفيدتي ذات السنوات الأربعة بل لأن سائقها الذي كان غالباَ ما يجلس بجانب السيارة وكأنه متهالك لايقوى على الحركة لنحافته يدعوني للشك في قدرته على قيادة السيارة بأمانة وجدارة.
وفي أحد أيام صيف عام 2008 كان علي أن أغادر الفندق مبكراُ إلى مطار بنينه في رحلة إلى طرابلس وكنت قد طلبت من مضيفي عدم تكليف نفسه عناء الحضور لإصطحابي إلى المطار وآثرت الإنتقال بسيارة أجرة. وعندما خرجت من باب الفندق لأنادي سائق التاكسي فوجئت بسيارة وحيدة في موقف  سيارات التكسي يتكئ سائقها على جانبها وكانت هي السيارة المرسيدس السوداء التي كنت أتعمد عدم ركوبها ، فلم يبقى أمامي خيار آخر فسلمت أمري لله وأشرت للسائق ملوحاَ بيدي  بالحضور. وضعت محفظتي في صندوق السيارة ، وصعدت جالساَ إلى جانبه طالباَ منه التوجه إلى مطار بنينة. كانت شوارع المدينة شبه خالية من حركة المرور إذ كان يوم جمعة ، وكنت أتفحص السائق الأسمر النحيف وهو يقود السيارة متكئاَ على بابها بكل إسترخاء و هدوء تاركاَ العنان لعجلاتها دون أية إشارةٍ منه توحي إلى الإهتمام بوجودي معه، الأمر الذي أثار فضولي فبادرته بالسؤال : كيف صحتك يا أخ؟ فرد الحمد لله أنا بصحةٍ جيدة ، فقلت له أنصحك أن تذهب إلى الطبيب وتجري فحصوصات طبية إنك نحيف جداَ ولون وجهك يميل إلى الشحوب. فسألني هل أنت دكتور ؟ فأجبته بالنفي فاستطرد قائلاُ : أنا بصحةٍ جيدة ، أنا جسمي هكذا وأنا إنسان  متصوف ولا أهتم بالأكل. إستغربت أن يكون شخص ليبي في الجماهيرية الليبية الشعبية الإشتراكية العظمى صوفياَ ويعلن بكل صراحةٍ أنه يتبع الطريقة الصوفية بمثل هذه  الصراحة الأمر الذي أثار شكوكي ودفعني للتدقيق في صحة معلومة جديدة أسمعها منه وأنا الخبير في شؤون ليبيا. 
فسألته : أليست الطريقة الصوفية محظورة في بلدكم ؟
أجاب السائق على الفور: أبداَ. يوجد ليبييون كثيرون مثلي ونحن نجتمع كل سنة ويأتي إخواننا الصوفيون من جميع أنحاء الجماهيرية ومن مصر أيضاً تأتي مجموعة كبيرة من أتباع الطريقة الصوفية  ليشاركونا الأدعية والأذكار والأخ القائد أعطانا صالة خاصة بنا و للقائنا السنوي هنا في بنغازي والأخ القائد يحبنا.
ولدهشتي الكبيرة من كلام السائق المتصوف أطلقت للساني حرية الإستمرار في حديثي معه نظراَ لما رأيت فيه من الصراحة ولأشبع فضولي بمعرفة حقيقة هذا السائق المتصوف في ليبيا الجماهيرية العظمى فسألته:
في كثير من الأحيان كنت أخرج من الفندق لأطلب سيارة تكسي ولكن في معظم الأحيان لم أكن أجد سيارتك، فهل  يكفي موردك من عملك على السيارة لتغطية نفقاتك وعائلتك ؟ أجابني بهدوء: لا ، أنا أعمل سائق تكسي فقط خارج أوقات دوامي وفي أوقات الفراغ.
سألته: إذن مهنتك ليست سائق تكسي فما عو عملك الأصلي؟
أجاب بكل هدوء: أنا أشتغل موظف.
فسألته: ماهي وظيفتك ؟ فأجاب بدون تردد وبهدوءٍ تام : أنا أعمل في المخابرات.
وعندها قلت له: أنت تحب القائد القذافي بلا شك؟
أجاب وقد بدا عليه بعض الإنفعال : نعم أنا أحبه جداً، وأدعو له دائماً بالخير ، وكما أتمنى له أن يموت موتةً طبيعيةً ، أن ينام ولايستيقظ من نومه.
سألته باستغرابٍ كبير ماذا تقصد بهذا الكلام.؟ 
 
 
 
 
 
فأجاب بنبرةٍ حزينةٍ والكلمات تخرج من فمه وكأنها تأتي من قعر بئرٍ عميق.:
أنظر يا أخي ، إنني أحبه كثيراً وأدعو له دائماً أن ينام في إحدى الليالي في فراشه وأن لايستيقظ وأن تعلن وفاته الطبيعية لليبيين ، ولكن يأخي إذا لم يمت موتة طبيعية فهذا يعني أنه سوف يقتل أو تقوم جهة ما باغتياله وعندها ستحصل مذابح وحروب وستتحول ليبيا بعد ذلك إلى ميدان للصراعات والقتال ويسيل الدم الليبي في كل مكان وستحل كارثة كبيرة علينا.
وتوقف السائق المتصوف بسيارته المرسيدس السوداء أمام بوابة مطار بنينة الذي كان لايزال شبه خال من المسافرين إلا من عامل أفريقي يدفع بمكنسةٍ مصنوعةٍ من القش بعض ما تركه رواد المطار من أوساخٍ نتيجة عدم مراعاتهم للتعليمات التي تدعو المواطن الليبي للتقيد بالنظافة والمكتوبة على اللافتات المعلقة على جدران صالة الإنتظار إلى جانب فقرات من مقولات الكتاب الأخضر.
لم يستجب الخالق جل وعلا لدعاء رجل المخابرات الليبي المتصوف، إذ لم يمت القذافي موتة طبيعية على فراشه كما كان يتمنى سائق التكسي السوداء له وأصبحت ليبيا ميداناً لٌلإقتتال الدامي وساحة للصراع الدولي على النفوذ فيها  ولاتزال الكارثة تفتك بالشعب الليبي بلا رحمة ولاهوادة وتدمر الحرب الأهلية جميع مقومات الدولة الليبية، وتمعق من خندق المواجهة الدموية بين الأخ وأخيه ، فهل لكل هذه الأحداث من عبرة للشعوب النامية وقادتها القابعين على سدة حكمها؟
 
إبراهيم شتلو / ألمانيا 30 آذار/ مارس 2015