من أشعل فتيل الحروب الصّليبية؟

(Dr. Ehmed Xelîl)

في الحلقات التالية سنبحث في حروب الدولة الأيُّوبية الكُردية ضدّ الفرنج (الصّليبيين)، وهذا يقتضي وقفة عند الحروب الصّليبية (الفرنجية)، تُرى ما أسبابها؟ ومن أوّل من أشعل فتيلها؛ الشرق المسلم أم الغرب المسيحي؟ 
ضوء على الحروب الصّليبية:

كانت الحروب الصّليبية حلْقة في سلسلة الصراع بين الشرق والغرب على الموارد الاقتصادية والبشرية، وعلى الأسواق والطرق التجارية، وبعبارة أخرى: كانت صراعاً على "الجغرافيا" و"الإنسان". ومن الطبيعي أن تخاض تلك الحروب كلَّ مرة تحت راية أيديولوجيا معيّنة (ثقافة، دين)، فتحقيق النصر في الحروب الكبرى يتطلّب تجنيد أكبر عدد ممكن من المقاتلين المتحمّسين، ويتطلّب أيضاً صناعة الرغبة القصوى في التنازل عن الحياة والإقبال على الموت (الشهادة)؛ وأثبتت الأيديولوجيا الدينية أنها فعّالة جدّاً في توفير هذين العاملين.
وقد استمرّت الحروب الصّليبية 196 عاماً بين (1095 – 1291 م)، وجرت العادة على أن يبدأ الحديث عن هذه الحروب من سنة (1095 م)، وتحديداً من تاريخ الخطاب الذي ألقاه البابا أُورْبان الثاني في مؤتمر كِلِيرْمُونت بفرنسا في تلك السنة، ودعا فيه أوربّا حكّاماً وشعوباً إلى غزو شرقي المتوسط، وخوض الجهاد الديني تحت راية الصّليب، لإنقاذ القدس من المسلمين.
أجل، هذا ما توحي به كتابات معظم من تناول موضوع الحروب الصّليبية، ووجهُ الخلل في هذه الكتابات وأمثالها أنها تقدّم المشهد التاريخي منقطعاً عمّا قبله وعمّا بعده، وتجعلنا نقرأ الأحداث التاريخية وكأنها جزر منفصلة، لا رابط بينها، وهي تقودنا في النهاية إلى استخلاص نتائج غير منطقية وغير موضوعية، بل دعوني أقل: إنها تجعلنا نبحث في التاريخ خارج التاريخ.
الغزو السَّلجوقي لدولة بيزنطا:
الحقيقة أنّ أوّل من أشعل فتيل الحروب الصّليبية هم التُّرك السلاجقة، وتحديداً في معركة مَنازْگِرْد (مَلازْكِرْت، مانْزكِرْت)، بشمالي كُردستان، سنة (1071 م)، وكي ندرك الأحداث بدقّة أكثر لا بدّ من العودة زمنياً إلى القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، ومكانياً إلى سهوب آسيا الوسطى، قرب بحيرة آرال (أُورال) وشرقي بحيرة قَزْوين (الخَزَر). فحينذاك كان التُّرك السَّلاجقة  قد هاجروا من أقاصي تركمانستان لسوء الأحوال الاقتصادية أو تحت ضغط قبائل طورانية أقوى، وسكنوا في عهد الدولة السامانية (261-389 هـ) بجوار بحيرة آرال، وفي السواحل الشرقية لبحر قَزْوِين (الخَزَر)، واعتنقوا الإسلام.
وقد عمل السَّلاجقة مرتزَقة في الدولة الغَزْنَوية، ثم حاربوها وقضوا عليها، وفي سنة (429 هـ) اتخذوا أحد زعمائهم ويدعى طُغْرُلْ بَگ ملكاً، ثم تقدّموا غرباً نحو بلاد فارس وكُردستان والعراق، واستعان بهم الخليفة العبّاسي القائم بأمر الله (ت 467 هـ) للتخلّص من البُوَيْهيين الشيعة، ودخل طُغْرُلْ بَگ بغداد سنة (447 هـ)، وقضى على الحكم البُوَيْهي، وكان الخليفة قد منحه لقب "سلطان".
ودائماً كان هدف الفاتحين القادمين من الشرق هو الوصول إلى سواحل شرقي البحر الأبيض المتوسط، ودائماً كانت كُردستان هي المعبَر الذي لا بدّ أن يسيطر عليه الفاتحون، وينطلقوا منه لتحقيق ذلك الغرض، وهذا ما فعله السلاجقة، ففي سنتي (448، 449 هـ) استكملوا احتلال كُردستان الشرقية، واحتلّوا شمالي كُردستان، وقضوا على الدول الكُردية القائمة حينذاك، وهي الدولة الرَّوادية في أَذَرْبَيْجان، والدولة الشَّدادية في أَرّان (مقسَّمة بين أرمينيا وأذربيجان وجورجيا)، والدولة الدُّوسْتِكية (المَروانية) في شمالي كُردستان.
 
واستكمل السلطان السَّلجوقي أَلْب أَرْسَلان مشروع السيطرة على كُردستان شمالاً وغرباً، ومن كُردستان أطلّ السلاجقة على آسيا الصغرى غرباً وبلاد الشام غرباً وجنوباً، وعلى سواحل شرقي البحر الأبيض المتوسط، ووجدت الإمبراطورية البيزنطية على حدودها الشرقية غازياً طموحاً شَرِساً شديد المِراس، لا ينافسها في السيطرة على البوابات الغربية لكلٍّ من "طريق الحرير" و"طريق البخور" التجاريين العالميين وحسب، وإنما يهدِّدها في وجودها أيضاً، فكان من الطبيعي أن تقلق وتبادر إلى وقف تقدّم السلاجقة.
وفي سنة (463 هـ/1071 م) قاد الإمبراطور أَرْمانوس (رومانوس) جيشاً، وتوجّه شرقاً لصدّ الزحف السَّلجوقي، فالتقاه السلطان السَّلجوقي أَلْب أَرْسَلان -ومعه خمسة آلاف من التركمان وعشرة آلاف من الكُرد- قرب مَنازگِرد الواقعة شمالي بحيرة وان، وحقّق نصراً حاسماً على الروم، ووقع الإمبراطور في الأسر، وأصبحت الطريق سالكة إلى آسيا الصغرى، واستغلّ السلاجقة ضعف بيزنطا، فراحوا يتوسّعون غرباً، ومع سنة (1081 م) كانوا السادةَ الحقيقيين في آسيا الصغرى حتى بحر مَرْمَرة.
ردّ الفعل الأوربي المسيحي:
في ذلك الوقت كانت الكنيسة الشرقية (كنيسة بيزنطا الأرثوذكسية) قد فقدت حيويتها، وكانت الكنيسة الغربية (كنيسة روما الكاثوليكية) قد أنجزت حركة إصلاحية شاملة، وأصبحت البابوية قوّة محرّكة للأحداث في أوربا، وتطلّعت إلى بسط زعامتها على العالم المسيحي بأجمعه. وعلى أثر كارثة مَنازگِرد استنجد الإمبراطور البيزنطي ميخائيل السابع ببابا روما، طالباً فرقاً عسكرية لمقاومة السلاجقة، وسرعان ما لبّت البابوية الطلب، إذ كان العالم المسيحي الغربي يَعُدّ القُسطنطينية خطَّ دفاعها الأول من جهة الشرق، وهبّ البابا جريجوري السابع إلى تشجيع الأوربيين على نجدة بيزنطا، ولقيت هذه الدعوة بعدئذٍ تصعيداً شديداً على يدي البابا أُورْبان الثاني، وخاضت أوربّا المسيحية وشعوب شرقي المتوسط المسلم الحروب الدينية المشهورة باسم "الحروب الصليبية".
وخلاصة القول أنّ الحروب الصليبية هي حروب دارت بين أتباع دينَين شرقيَّين (الإسلام والمسيحية)، بل لنقل: إنها حروب دارت بين ثقافتين شرقيتين، كان أتباع الثقافة الأولى شرقيين من العرب والتُّرك والكُرد، وكان أتباع الثقافة الثانية أوربيين من الفرنسيين والإنكليز والألمان والطليان وغيرهم، وكان الغرض على الدوام هو السيطرة على المكان والإنسان.
وقد ظهر الكُرد الأيّوبيون في زمن الصراع بين أتباع الإسلام والمسيحية، وبما أنهم كانوا مسلمين، وأقاموا باسم الإسلام دولة كبرى في مصر وشرقي المتوسط إلى جبال زاغروس غرباً، وإلى أرمينيا شمالاً، وإلى اليمن جنوباً، فقد فرض عليهم الموقع الجيوپوليتيكي لدولتهم أن يحاربوا الفرنج تحت راية الإسلام، ويصبحوا حماة لمصالح دولتهم الكبرى بأيديولوجيا إسلامية، وأن يصبح استرداد القدس من أيدي الفرنج إنجازاً دينياً بقدر كونه إنجازاً حربياً وسياسياً. وفي إطار هذه السياقات نتناول لاحقاً الحروبَ بين الدولة الأيوبية وأوربا المسيحية.
12 – 10 – 2014
توضيح: هذه الدراسة جزء من كتابنا (تاريخ الكُرد في العهود الإسلامية) مع التعديل والإضافة.