من ليبيا إلى سوريا.. جيل من المراهقين تجندهم «داعش»

2014-03-09

الشرق الأوسط
كانت رحلة مشوبة بالتوتر والصمت باتجاه الحدود. جلس محمد في مقعده وعيناه متعلقتان بهاتفه، بينما تنطلق السيارة بسرعة كبيرة خلف صف طويل من الشاحنات المتوقفة. صارت هذه الرحلة مألوفة، ودائما ما تكون حُبلى بالتوقعات. وفي نهاية الرحلة، دخل السائق بالسيارة إلى موقف بدا مزدحما عن آخره بالسيارات رغم أن الساعة كانت تشير إلى التاسعة مساء يوم الأحد، حيث كان المعبر الحدودي ما زال مغلقا منذ عدة أيام. وفي المقهى الأخير الذي ارتاده في تركيا، كان الشخص الذي اتصل بمحمد جالسا في انتظاره.

غير أن هذه الرحلات كانت دائما ما تفضي إلى نفس النتائج. وبعد دقيقتين، عاد محمد إلى السيارة وهو يطلق تنهيدة تنم عن خيبة أمل، ثم قال «ليس هو شقيقي أيوب»، ثم حل عليه مرة أخرى صمت مطبق طوال الرحلة.

كان محمد قد قضى بالفعل أربعة أسابيع في مدينة كلس التركية (تقع على الحدود مباشرة مع سوريا) يجري مكالمات هاتفية، متعقبا، ذهابا وإيابا إلى الحدود، الأشخاص الذين يتصل بهم لمساعدته في مطاردة يائسة لشقيقه «أيوب»، الذي ما زال في سن المراهقة. كان محمد يحمل بين جوانبه مشاعر عارمة بالمسؤولية تجاه شقيقه، ويشعر بأنه المسؤول عن فقدانه.

قبل ثلاث سنوات، حارب محمد، ومن حينها صار بطلا في عيون شقيقه الشاب. والآن، يسير أيوب، الذي يبلغ من العمر خمسة عشر عاما فقط، على خطى محمد. يقول محمد «كان يقول لي في بعض الأحيان (أريد أن أصبح مثلك، أريد أن أفعل مثلما فعلت أنت)».

لم يفكر أبدا محمد أن شقيقه أيوب سيضع هذه الأفكار موضع التنفيذ، لكنه تلقى اتصالا هاتفيا من والدته في أواخر ديسمبر (كانون الأول) تقول فيه إن أيوب اختفى. اتصل ابنها المراهق، الذي لم يكن لديه وثائق سفر أو أي مبلغ من المال، حينما كانت طائرته على وشك الإقلاع، ليخبر عائلته أنه في طريقه إلى سوريا، وأنه ذاهب للانخراط في القتال الدائر هناك. وبعد يوم واحد، صعد محمد على متن طائرة أخرى على أمل اللحاق بشقيقه في تركيا قبل أن يعبر الحدود إلى سوريا. لكنه وصل متأخرا جدا، فقد خطط أيوب جيدا لرحلته، حيث كان قد عبر الحدود بالفعل عندما وصل محمد إلى كلس.

دخل أيوب سوريا وهناك انضم إلى أحد معسكرات التدريب التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). وبقي محمد عند الحدود التركية مشغولا في البحث عن أي أدلة تقوده إلى أين يوجد وماذا يفعل شقيقه أيوب.

كان محمد يتصور أن العثور على أيوب قريب المنال، فقد علم بأنه موجود في حلب أو الباب أو أعزاز أو أي من المدن الواقعة في شمال سوريا، التي عُرفت بسوء السمعة خلال الحرب الدائرة هناك. غير أن المشكلة تكمن في أن أيوب لم ينضم إلى المعارضة السورية، بل انضم إلى تنظيم داعش، ذلك التنظيم المتطرف الإرهابي الذي يروع أجزاء كبيرة من مناطق سوريا الشمالية التي تسيطر عليها المعارضة، في محاولة لإقامة ما يسميه بالخلافة الإسلامية في ظل فراغ السلطة الذي خلفه نظام الأسد وراءه.

كان محمد يعرف أنه لا يستطيع دخول مناطق النزاع بسهولة للبحث عن شقيقه. يقول محمد «حتى لو عرفت أين هو، فلا يمكنني انتشاله من هناك لأنني لو سألت عنه، فهناك احتمال 80 في المائة أن يقتلوني، لأنهم سيعتقدون أنني أريد إخراجه من الإسلام».

بعد وقت قصير من وصوله إلى كلس، تناهى إلى مسامع محمد قصة تحذيرية عن رجل من السودان جاء للبحث عن ابنه، الذي تبدو قصته مماثلة تماما لقصة أيوب، حيث انضم ابن ذلك الرجل السوداني إلى إحدى مجموعات تنظيم داعش في بلدة أعزاز السورية التي تبعد بضعة أميال فقط عن الحدودي. وذهب والده للبحث عنه، لكن الرجل لم يعد. يقول محمد «لقد أطلقوا عليه النار، ومات الرجل. لقد قتلوه لأنه كان يبحث عن ابنه».

تنتشر الشائعات والقيل والقال في مدينة كلس كانتشار النار في الهشيم: وربما تكون قصة الرجل السوداني مجرد واحدة من تلك الأساطير التي تُروى في زمن الحروب. تبدو تلك المدينة، التي تمثل نقطة النهاية لكل من يأتي للبحث عن مفقود، وكأنها جزء من الغرب الأميركي. تعج الفنادق الرخيصة بالصحافيين والمتطرفين والانتهازيين، الذين يكسبون قوتهم من الحروب، مثل المهربين وتجار الأسلحة والذين يعملون في مجال المساعدات الإنسانية. جميعهم يتبادلون الأحاديث والقصص في الحانات والمقاهي، وهم من يختلقون تلك القصص شبه الحقيقية عن مقتل هذا الشخص أو ذاك. ثم تصل تلك القصة بعد فترة إلى آذان الأشخاص من أمثال محمد، الذين جاءوا إلى تلك المدينة مكرهين ثم تُركوا ليشقوا طريقهم خلال ذلك الجنون. يقول محمد «عندما يقول شخص ما إنه سينقذك من الغرق، تشعر ساعتها أنك ستخرج من المياه».

لكن محمد يجد نفسه يواصل الغرق من دون أن يجد طوق نجاة، فكلما أخبره أحدهم أنه سيساعده في العثور على شقيقه أيوب، رجع محمد بخفي حنين. ويسعى الكثير من أولئك إلى الحصول على المال مقابل تقديم خدمات لمحمد.
في غرفة فندقية مبهرجة يغلب عليها اللونان الأحمر والذهبي بشكل زاعق، جلس محمد يدخن السجائر الليبية الواحدة تلو الأخرى من دون توقف بينما يسحب بعض الصور من على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك. يحاول تنظيم داعش فرض آيديولوجية تعود للقرون الوسطى، لكن على طريقة القرن الحادي والعشرين من خلال استغلال مواقع التواصل الاجتماعي: تويتر وفيسبوك وإنستغرام. وجد محمد على مواقع التواصل الاجتماعي واسع الانتشار صورة لأيوب، صبي بملامح طفل يحمل بيديه بندقية كلاشنكوف. ويظهر أيوب في الصورة مرتديا جلبابا كاكيا وسترة مموهة.

ولم يستطع محمد تحديد اللحظة التي تبدل فيها عقل شقيقه أيوب، لكنه كان على يقين أن ذلك التحول حدث بالفعل. ومنذ دخوله سوريا، أرسل المراهق إلى شقيقه رسائل عدوانية، يخبره فيه أنه لن يعود، وأنه سوف يقتله إذا رآه. خلال الأسابيع القليلة، التي قضاها أيوب في سوريا، استطاع تنظيم داعش تحويل عقله سهل التشكيل من خلال إخضاعه لأفكار متطرفة.

وفي رسائله لشقيقه، قال أيوب لمحمد، وهو شاب متدين، إنه لا يعتبره مسلما بحق. لقد استطاع أمراء داعش طبع بصماتهم سريعا وحشر نسختهم الفاسدة عن الإيمان في عقل أيوب.
ولكن محمد كان واثقا من أنه يعرف كيف جرى تجنيد شقيقه أيوب. وبالعودة إلى مدينة الخمس الليبية، كان هناك رجل أفضى بما عنده من أسرار حالما ألقي القبض عليه. كان ذلك الرجل أحد أعضاء تنظيم داعش، الذين تولوا مهمة تجنيد الشباب العطشى للقتال من خلال تسهيل حصولهم على جوازات السفر وتذاكر الطائرة، ومن ثم إرسالهم إلى سوريا حيث يبدأ هناك تلقينهم الأفكار الجديدة. عندما أُلقي القبض على ذلك الرجل، كان بصحبته ثمانية صبية جميعهم في نفس عمر أيوب، وكانوا يهمون بالسفر إلى سوريا. يقول محمد عن تلك الحادثة «لقد استطعنا على الأقل وقف ذلك الرجل عن إرسال أولئك الصبية». لكن الأوان كان قد فات بالنسبة لشقيقه.

لقد أصبحت ليبيا أرضا خصبة لتجنيد المتطرفين. فالحكومة المركزية الضعيفة لا تستطيع السيطرة على شرق البلاد. أما بنغازي ودرنة، فتسيطر عليهما جماعة إسلامية متشددة تدعى أنصار الشريعة، تهرب الأسلحة وتدرب المقاتلين الجهاديين من دون أن تتعرض لأي نوع من أنواع العقاب. ولكن حتى في مدن مثل الخمس، التي تبعد مسافة ساعة فقط بالسيارة من العاصمة طرابلس، فقد خلفت الثورة الليبية وراءها وفرة من الأسلحة وجيلا من الشباب المتعطشين لخوض الحروب.

كان أيوب يبلغ من العمر اثني عشر عاما فقط عندما كان يشاهد شقيقيه الأكبر سنا يقاتلان خلال ثورة بلاده التي كانت تسير على طريقة أفلام هوليوود. كان أيوب بالغا بما فيه الكفاية ليفهم ما الذي يجري في ليبيا، لكنه كان صغيرا جدا على المشاركة في الأحداث، وكان أقصى ما يمكن أن يفعله هو أن يشاهد بكثير من الحسد صبية يكبرونه بأعوام قليلة يرتدون الزي الكاكي ويتحولون من لا شيء إلى أبطال في غضون أشهر قليلة. لم يحضر أيوب ثورة يمكنه القتال فيها، ولكن تبقى هناك دائما سوريا - إحدى حالات الربيع العربي التي تحولت إلى كابوس من السخط، ثم تحولت بعد ذلك إلى مكان لا تحكمه أي قواعد أو قوانين، حيث يستطيع أي شاب من أي مكان يشعر بالملل أن يذهب إلى هناك حتى يحول ألعاب الفيديو القتالية، التي كان يلهو بها في يوم من الأيام، إلى حقيقة واقعة.

بعد بضعة أيام، عاد محمد إلى ليبيا، بعد أن فشلت محاولاته في البحث عن شقيقه أيوب. عاد محمد على أمل أن يكون شقيقه قد جرى اعتقاله من قبل إحدى كتائب الثوار الأكثر اعتدالا. ولكن في تلك الليلة في المقهى، الذي يقع على الحدود، تبددت آماله بسرعة وبقسوة. فقد بعث له أحد الذين اتصلوا به لمساعدته في البحث عن أيوب، صورة شاب ليبي كان محتجزا في سجن إحدى الكتائب، لكنه لم يكن أيوب. ما الذي يمكن أن يفعله في كلس إذن، إلا أن يجلس للاستماع إلى الشائعات، ويأمل في أن يجد ما هو أفضل؟
وبعد عودته إلى ليبيا، بدأ محمد في التفكير في كل ما فعله منذ ثلاث سنوات. إنه يلوم نفسه لأنه لعب دورا في صنع سلسلة يبدو أنها لن تكون لها نهاية الآن. يقول محمد «إنه خطؤنا، بدأنا هذه الثورة ولم نكملها. لقد حولت أطفالنا إلى بنادق، حتى إنهم عندما يسمعون أن هناك قتالا في مكان ما، يبتسمون ويرغبون في الاشتراك فيه. الآن، لا يستطيع العالم أن يفعل أي شيء».