رابعة محمد ماجد جلبي : الحياة من منظور بسيط قراءة في رواية زوربا لكازانتزاكيس

الحياة من منظور بسيط قراءة في رواية زوربا لكازانتزاكيس صحيفة بينوسا نو العدد (18) نوفمبر 2013 رابعة محمد ماجد جلبي زوربا.. رواية للأديب اليوناني (نيكوس كازانتزاكيس).. تبدأ الرواية بلقاء في ميناء (بيريه)،

يجمع مصادفة بين رجل مثقف اسمه (باسيل) مستغرق في الكتب، وبين آخر أمّي، مدرسته الوحيدة هي الحياة وتجاربه فيها، يدعى (زوربا)، حيث يطلب اﻷخير مرافقته إلى (كريت) فيوافق اﻷول (باسيل)، ليصبحا صديقين ويعيشان مغامرة ورحلة ممتعة يتحدثان فيها عن اﻹنسان والنساء والله والقدر.. فرواية (زوربا/1946) والتي تقع في (316) صفحة من القطع المتوسط، صادرة عن دار اﻵداب بترجمة لـ (جورج طرابيشي)، هي أقرب إلى كتاب فلسفي منها إلى رواية، ولذلك لا غرابة أن تحمل شاهدة قبر أديبنا (كازانتزاكيس/1883-1957) في (هيركليون/ كريت) رسالة انعتاق، من خلال عبارة تلخص فلسفته التي سعى لتحقيقها في حياته: (لا أرجو شيئاً، لا أخشى شيئاً، أنا حر).. ففي هذه الرواية ومن خلال (زوربا) يسعى لطرح فلسفته ورؤيته لكثير من المواضيع الحيوية..

وبالعودة للرواية وبعد أن يتجها إلى ( كريت) حيث يقنع زوربا صديقه المثقف (باسيل) أو الرئيس كما كان يحب زوربا مناداته، باستثمار أمواله التي ورثها من والده في أحد مناجم الفحم. ينزلان في نزل للسيدة (هورتانس) وهي أرملة عجوز فرنسية اﻷصل، تقطن لوحدها، ويحرص زوربا منذ رؤيته له على مواساتها، وإظهار المودة لها، حيث يفسح لها المجال باستمرار لتروي قصصها مع عشاقها الكثر في أيام شبابها، وهكذا يظل بجانبها حتى وفاتها، مدخلاً الفرح إلى قلبها، ثم يخلدها بعد مماتها حسب مفهومه بأن يأخذ الببغاء الذي كان لا يفارقها ليعتني به. وفي كريت أيضاً يتعرفان على اﻷرملة (سورمولينا) الرائعة الجمال التي يهواها كل الرجال، ولكنها ترفضهم جميعهم، لتربطها علاقة جيدة مع الرئيس، هذه العلاقة التي تشكلت بفضل دعم وتشجيع زوربا لها، بعد أن يرى نظرات العشق في عيني الرئيس. وفي نهاية الرواية نشاهد المصير المؤلم للأرملة المسكينة، حيث تقتل بسكين على يد أحد رجال القرية الذي يدعى (مانولاكاس)، إذ تتهم بأن شاباً رمى بنفسه بالبحر ﻷجلها، وهنا يحاول زوربا مساعدتها، ولكن عبثاً، فالقرية كلها واقفة تشاهد مصيرها دون أن تتحرك ، بمن فيهم الرئيس الذي يصدمنا بموقفه السلبي جداً تجاه اﻷرملة، حيث يقف مع بقية سكان القرية غير آبه لمصيرها، وكأن الكاتب يريد أن يبين دور المثقف السلبي في كل مناحي الحياة من خلال الرئيس. وهكذا تمضي الرواية بسلاسة، وبقليل من اﻷحداث والشخصيات، فعند ذهاب زوربا الذي يصبح مدير أعمال الرئيس إلى المدينة ليشتري الأدوات اللازمة لصنع مصعد لنقل الفحم من مكان لمكان أخذاً أموال الرئيس معه، مبدداً أياها هناك على غانية تشعره بانتقاص الرجولة فيكتب رسالة إلى الرئيس قائلاً فيها:
( إنه دافع عن كل الرجولة في العالم)، ليعود للقرية ويخترع شيئاً آخر لاستخراج الفحم، ولكن مهمته تفشل فشلاً ذريعاً، وعوضاً من أن يحزن، يواجه زوربا إخفاقه برقصته المشهورة (رقصة زوربا) والتي يقفز فيها للأعلى مستغلاً كل ما هو حوله من بشر وأدوات، ونشعر نحن كقراء بأن فشل المهمة كان عقوبة من الله ﻷهل هذه القرية، ﻷنهم لم يستحقوا أن تتحسن حياتهم وأوضاعهم للأفضل، فقتلهم للأرملة المظلومة وسرقة ممتلكات السيدة (هورتانس)، ما هي إلا أدلة على الجهل والخبث والخوف الموجود في القرية، والذي حاول (كازانتزاكيس) بكل ما أوتي من قدرات أن يصوره كعدو شرس لا يقل شراسة عن أي عدو آخر علينا محاربته . وفشل هذه المهمة يؤدي إلى افتراقهما ورحيلهما عن (كريت) ولكن زوربا يستمر بإرسال الرسائل إلى الرئيس حتى موته في الثمانين من عمره، موصياً صديقه أن يعتني بزوجته وأولاده. (فكازانتزاكيس) ومن خلال هذه الرواية المليئة بالفلسفة حد التخمة رغم بساطتها الظاهرة، يحاول أن يفكر معنا في إشكاليات الحياة والوجود وذلك على لسان زوربا المغامر الذي يستغرق في متعة لحظته، فهو العازف على آلة السانتوري والراقص وهو ذاك الذي توفي وهو متشبث بالنافذة ليطل منها على الحياة التي عاشها بكل ما فيها، وﻷن تصرفاته كانت تطابق أفكاره فقد أصبح هو المعلم الفعلي لباسيل المثقف ورئيسه، فقد علمه فن عيش الحياة ، إذ كان زوربا يذكر الفرح حتى في لحظات الحزن الشديد، يقول: ( أنا أتصرف وكأنني سأموت في كل لحظة) ص/46. بينما المعلم أو الرئيس هو شخص ضائع وتائه فهو نفسه يقول: ( كانت الرغبة الساذجة تتآكلني في أن أجمع اﻷمرين معاً الوعظ والرأسمالية) ص/58. وفي مكان آخر يقول مشيراً إلى ضياع المثقف: ( نحن المثقفون لسنا إلا طيور طائشة في الفضاء) ص/68. ويعترف باسيل (الرئيس) بجبنه فيقول:( كنت أعرف إنه محق ولكنني كنت أفتقر الشجاعة) ص/106، لذلك كان زوربا اﻹنسان البسيط هو الذي يشرح له دوماً عن الحياة وفلسفتها مخاطباً إياه: (دع الناس مطمئنين أيها الرئيس، لا تفتح أعينهم، فما الذي سيرون بؤسهم، إلا إذا كان لديك عالم أفضل من عالم الظلمات الذين يعيشون فيه اﻵن) ص/67. ويواصل زوربا شرحه للرئيس عن الحياة فيقول: (إن الحياة إزعاج، أما الموت فلا، أتعرف ماذا يعني هذا؟ أن تفك حزامك ، وتبحث عن قتال) ص/106. وهنا تكمن عبقرية (كازانتزاكيس) بتغيير مفهومنا عن اﻷبطال، فزوربا اﻹنسان العبثي هو البطل، أما الشخصيات اﻷخرى فهي شخصيات ثانوية على الرغم من أنها عالمية، فهي موجودة في كل المجتمعات والبيئات وليست حكراً على مدينة (كريت) أو على المجتمع اليوناني، وقد عبر عن هذا الأمر على لسان زوربا: ( عندما أرى إنسان، حتى لو تظاهرت بعدم المبالاة فإن قلبي يحن له، إن هذا المسكين أيضاً يأكل ويشرب وله آلهه وشيطانه وهو أيضاً سيلقي سلاحه ويرقد جثة متصلبة تحت اﻷرض، وسيلتهمه الدود، إننا جميعاً أخوة .كلنا لحم للدود) ص/231. ونلاحظ أن (كازانتزاكيس) منحاز بالكلية إلى جانب التدين والروحانية، إنما ليس لدين بعينه أو كنيسة ما، فغايته الدائمة كانت التفتيش عن الله فيقول على لسان زوربا: ( إنني أتمثل الله شبيهاً بي إنما أكبر وأقوى وأكثر هموماً، وقبل كل شيء، خالداً وبيده اليمنى لا يمسك سيفاً أو ميزاناً، فهذه آﻻلات للجزارين والعطارين، بل يمسك أسفنجة مليئة بالماء) ص/110. أما عن الفردوس فيقول معبراً عن معتقده: ( إن لكل فردوسه الخاص، إن فردوسك سيكون محشواً بالكتب ودماجانات الحبر الكبيرة. وبالنسبة ﻹنسان آخر سيكون محشواً ببراميل الروم والخمر، أما بالنسبة ﻵخر، بأنضاد الجنيهات الاسترلينية) ص/153. أما عن أفكاره وآرائه حول المال يقول:(لنربح المال كي يحترمنا اﻷقارب، ويلعق اﻷصدقاء أحذيتنا، ويرفع البورجوازيون قبعاتهم لنا) ص/149. وحول المرأة التي لا يخفي تعاطفه الشديد معها يقول: ( إن المرأة مخلوق ضعيف هش، إنها إناء من الخزف الصيني يجب أن يدارى بحذر) ص/181. وعن الحرية يقول: ( إن اﻹنسان يتحرر هكذا، بأن يشبع من كل شيء يخطر له، لا بأن يزهد فيه) ص/200. وﻹيمانه العميق بأن كل فكرة لها تأثير حقيقي، يحرص طوال الرواية على طرح الأفكار حول كل ما يهم اﻹنسان كإنسان . ولما لهذه الرواية التي كان اسمها اﻷصلي (حياة ألكسيس زورباس) من أهمية كبيرة، وﻷنها رحلة فلسفية فيها الكثير من الحكمة، حققت نجاحا باهراً في السينما عندما حولها المخرج اليوناني مايكل كاكويانيس لفيلم 1964 يحمل اسم زوربا، وأعد الموسيقى الموسيقار اليوناني الكبير ميكيسس ثيودوراكيس (والذي ألف فيما بعد عام 1988 باليه بعنوان: ألكسيس زوربا. أبدع الممثل العملاق (انتوني كوين) في تجسيد دور زوربا وتقريبه من العامة وكما أبدعت (إرينا باباس) في لعب دور اﻷرملة .وحصد الفيلم العديد من الجوائز بما فيها اﻻوسكار. فيلم رائع وعظيم ويستحق المشاهدة بالتأكيد، ولكنه لا يغني عن قراءة الرواية..

نيكوس كزانتزاكيس
1883 - 1957
كاتب و فيلسوف يوناني ، اشتهر بروايته " زوربا اليوناني " التي تعتبر أعظم ما أبدع ، اشتهر عالميا بعد عام 1964 حيث أنتج فيلم " زوربا اليوناني " المأخوذ عن روايته .. و تجددت شهرته عام 1988 حيث أنتج فيلم " الإغواء الأخر للمسيح " للمخرج مارتن سكورسيزي و هو مأخوذ عن رواية له أيضا.
تطوع في العام 1912 في الجيش اليوناني في حرب البلقان، ثم عُيِّنَ في العام 1919 مديرًا عامًّا في وزارة الشؤون الاجتماعية في اليونان، عمل في السياسة لفترة قصيرة، ثم عُيِّن وزيرًا في الحكومة اليونانية في العام 1945، ثم مديرًا في اليونسكو في العام 1946. وكانت وظيفته العمل على ترجمة كلاسيكيات العالم لتعزيز جسور التواصل بين الحضارات، خاصة بين الشرق والغرب. استقال بعد ذلك ليتفرغ للكتابة.
من رواياته وكتبه:
• رياضات روحية: مخلِّصو الله
• الثعبان والزنبقة
• الحرية أو الموت
• فقير أسيزي
• الأخوة الأعداء
• زوربا اليوناني
• الإغواء الأخير للمسيح
• الأوديسة:التكملة الحديثة (1929-1938)
• هكذا تكلم زاردشت لنيتشه
• الإسكندر الأكبر(كتاب للأطفال)
• المسيح يصلب من جديد
• تقرير إلى غريكو (نشر بعد وفاته).



ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.