محمد غانم : الطريق إلى اسطنبول

2013-05-09

أحب أن أنوه بأن ما سأكتبه هو سرد سريع أشبه بسيرة ذاتية مختصرة جدا ،
تتحدث عن رحلة الأيام الخمسة التي بأت صباح يوم 6 /3 / 2013 م وانتهت
مؤقتا ظهر يوم 10 / 3 / 2013 م .ولا زالت تداعياتها لهذا اليوم بالنسبة
لسحب جواز سفري . رحلة ابتدأت في الرقة ، ولم تنتهي بعد في مدينة طرطوس ،
مرورا إلى تركيا من جرابلس حتى اسطنبول وإلى مطار بيروت ومنه إلى مطار
اللاذقية المدني الواقع قرب مدينة جبلة  ( قرية حميمين ) .

وهي ستكتب على أجزاء وستنشر تباعا على صفحات جريدة بينوسا نو ، وفيها
حديث سريع عن مدينتي العزيزة الرقة والتي ولدت فيها عام 1955 م . والحديث
عن أحبتي أهلي الكورد ، وتقديري الكبير للوفاء الكردي تجاهي ،ثم السفر
برا من جرابلس الى نزب ومنها الى ازمير ومنها الى استنبول برا رحلة
استغرقت حوالي 36 ساعة ، ومن اسطنبول الى بيروت جوا ، والمعاملة السيءة
التي تلقيتها وبعض السوريين والسوريات من الأمن العام اللبناني ،
والانتقال جوا من بيروت إلى مطار اللاذقية حيث الاستقبال المفاجىء الذي
انتهى بسحب جواز سفري والطلب إلي مراجعة أحد الأفرع الأمنية  ، ( وقد
راجعت فرعين في محافظتين سوريتين ) وللأمانة أقول أن المراجعة كانت لبقة
وحسنة ولم أتعرض لأي اساءة .
ولغاية اليوم 6 / 4 / 2013 م لم استلم جواز سفري ، وهناك وعد لي بأن
استلمه خلال أسبوع . نرجو ذلك .
                                      _ 1 _
            الرقة مدينتي ، ومسقط رأسي وتاريخي طيلة ثمان وخمسون عاما ، وستبقى ...
في أحد صباحات شهر حزيران من عام 1955 م ولدت في مدينة الرقة على شاطىء
نهر الفرات ، مدينة هادئة وادعة لم يتعدى سكانها عند ولادتي الثلاث آلاف
نسمة  . رغم أن المدينة تاريخية وقديمة جدا إلا أن الرقة الجديدة لم تكن
موجودة إلا في أواخر الحقبة العثمانية ، أي منذ قرابة مئة وعشرون سنة
تقريبا .وقد بنى أخوالي الترك ومنهم جدي لأمي المرحوم ابو الهامي
مختارأوغلي ، وهو ضابط تركي ،جاء إلى الرقة مع بضع عائلات شركسية وبوسنية
وبنو يومها ( القراقول _ وهو المخفر التركي ) وحوله تجمع الناس رويدا
رويدا من عائلات عربية وكردية وتركمانية ، وبعض الشاشان والأرمن لاحقا
بعد محنة الإبادة الجماعية التي ذهب ضحيتها قرابة مليونيين من الأرمن ..
وهو ما يعادل عدد سكان بلاد الشام قاطبة في ذلك الوقت ( سوريا – لبنان –
الاردن – فلسطين  ) .رحم الله ضحايا النسيان والابادة الجماعية من الأرمن
والسريان ( 8000 بلدة وقرية سريانية اختفت ، كما كاد أن يختفى الشعب
السرياني( سريان – كلدان – أشوريين ) وأنا أحمل جنسية دولة تحمل اسمهم (
سوريا ) .
الرقة مدينتي وأهلي وناسي وأحبتي كلهم ، من كنت التقى معه في الرأي ، أو
من كنت أختلف معه كلهم اسرتي وأهلي وعائلتي ، وتربطني بجميع عائلاتها
صداقة مع أفردها من عائلات المدينة والريف  من المحمد الحسن والعجيلي
والبياطرة والبجري والكعكجي والبليبل والحسون والشبلي السلامة  ، ومن
العوائل الوافدةلاحقا من السخاني والتوادفه والسفارنة واهل الجزيرة ، ومن
قدموا في السبعينات من الساحل السوري وحمص وحماة والسلمية ودير الزور .
وللمفارقة اللطيفة فأنا ابن أب عربي وأم تركية طورانية ، أمي هي المرحومة
الحاجة جاويدة مختار أوغلو ، وهي التي ولدتني ، ولكن لي أميين أخريين
أرضعاني وأنا صغير كون ولدتي قد لدغها عقرب وهما المرحومة الحاجة ام نجم
الدرويش من عائلة البياطرة وزوجة مختارهم اللاحق  ( أول مختار لحينا هو
المرحوم  عبد اليوسف والد الاخ الطبيب اسماعيل العبد اليوسف وهو جارنا
وأمه السيدة المحترمة نظيفة رحمها الله هي بوسنية ، وهي شقيقة الشهيد
الطيار اسماعيل جاهد ) . والمرحومة أم نجم من قبيلة العقيدات العربية
وأكثر تواجدهم محافظة دير الزور .. والأم الثانية هي المرحومة الحاجة
مريم البريجية وهي من قبيلة البريج – و هي فرع من قبيلة العفادلة العربية
.
كبرت الرقة وكبرنا معها ، كانت المدينة هادئة يسودها الوئام ونادرا ما
يعكر صفوها حادث هنا او هناك ( ثأر او صراع عائلي على حدود الأرض
الزراعية ) .
تربيت حتى نهاية المرحلة الإبتدائية في حي ( البياطرة وله اسم آخر حي
الجراكسة ) كنا نلعب في الشوارع بدون خوف لم يكن أحد يسأل الأسئلة
المحدثة التي نشأت فيما بعد ( من أي العمام ؟ او الأخ من أين ؟ وإن كانت
منطقتك الأصلية مختلطة قوميا او دينيا ،  يبدأ السؤال يتفرع ويتشعب  ليتم
تحديد الهوية المكانية الأصلية بما تحمله من خلفيات دينية وطائفية
ومذهبية .
عشت في وسط رقاوي عائلي نحمل لبعضنا الحب والمودة ، والكل يشارك في أفراح
الكل ، وفي عزاء الكل . الرقة كانت مدينة العائلة الواحدة .. ولا اريد
تحديد اسماء لعلاقتي الرقاوية حتى لا انسى احدا ، ولكنها تمتد من
العفادلة الى الولدة الى البوعساف وطي والنعيم وجيس والبوسبيع والبوسرايا
، كما تمتد الى جميع اوساط المدينة الحبيبة بكل عائلاتها ، وخاصة الوسط
الثقافي واليساري في الرقة .
الرقة هي تاريخي لأني لم أحس يوما أني غادرتها ، حتى في سفري هنا او هناك
لهذه الفترة او تلك ، داخل سوريا او خارجها . من الرقة كنت من أوائل من
التحق في صفوف المقاومة الفلسطينية وقاتلت معهم بالسلاح في الأردن وجنوب
لبنان ، وعملت في صحافتها اليسارية . قاتلت في حركة فتح والجبهة الشعبية
.
فقط للعلم يتحدثون عن رمز ثقافي كبير هو الأديب العربي الكبير المرحوم
عبد السلام العجيلي ، وأنا اضيف بأني تربيت بجانب رمز سياسي يساري رقاوي
كبير  وهو جارنا المقابل لمنزلنا ( بيت جدي ) .هو المناضل الاستاذ أحمد
فائز الفواز  أبو محمد والمعروف بإسم شعبي بالرقة هو ( الدكتور فوزي
الفواز ) .
الحياة في الرقة لم تخلو من المنغصات الكثيرة والمؤلمة ولكنها أبدا لن
تنس الأصيل عذوبة نهر الفرات ، التي تغسل بفيضها وفيضانها كل همومنا
الإنسانية .
الرقة الصغيرة كانت تشبه سوريا كلها ، فهي التي احتضنت كل  السوريين من
مختلف المناطق من درعا جنوبا الى الجزيرة شمالا ومن الغرب الساحلي وحتى
الشرق الديري  البو جمالي ،مرورا بحمص وحماة وادلب وحلب والسويداء .. كل
متحضر سيعشق الرقة مدينتي لأنها كانت وبحق سوريا الصغرى ، هي احتضنت كل
الجغرافيا السورية وكل الطيف السوري الديني والطائفي والمذهبي والفرقي ،
هي احتضنت العرب والاكراد والارمن والتركمان والشركس والشاشان وفيها
السريان والكلدان والاشوريين ، فيها البوسنيين ( البوشناق ) والألبان (
الأرناؤوط ).
الرقة هي رغيف الجائعين ومأوى الفقراء التائهين ، ومكانا للمتعبد ين من
كل الفرق والأديان ، وهي طريق الإندماج الإجتماعي بين كل مكونات سوريا ،
في الرقة وحدها تجد العائلة عربية كردية نركية ، في الرقة تجد الاعمام من
جغرافيا والاخوال من جغرافيا والكنات والسلايف من جغرافيا اخرى .
في الرقة حيث الفرات والاحبة أقول : ( القلب ينبض سوريا ).
ولاني لا اريد أن أسيس د معتي على الرقة ، وما وصلت اليه وهي التي كانت
تحتضن في هذه المحنة كل السوريين وتقدم لهم المأوى والطعام والملبس ، وكل
اشكال المساعدة والحب والأحتضان . لا اريد ان اطيل عن مدينتي الرقة التي
احبها وهي تحمل ثمان وخمسين عاما من عمري  . أقول وقد غادرتها بطلب من
كثير من الأخوة ولاحبة خوفا علي من اولاد الحرام ؟! الذين لا يخافون الله
، في زمن الفلتة هذا ( حيث الكثير غدا معارضا بعد أن كان خيالا في سرب
السلطة أبا عن جد ، وحتى الأولاد والأحفاد ) .في زمن ضاع فيه الحابل
بالنابل ، وانصياعا لرغبة الأهل والأصدقاء المعارضين غادرت الرقة مكرها ،
لأني احسست بأني أغادر تاريخي وخلايا جسدي ، وماء الفرات والضحكات الطيبة
للأصدقاء  . أقول وأسجل : يا مدينتي أنني أعترف وطيلة مدة الأزمة في
سوريا من 15 / 3 /  2011  م وحتى مغادرتي الرقة 6 / 3 / 2013 م بضغوط من
أحبتي واصدقائي خوفا علي  . ( بأني لم أتعرض لأي تهديد شخصي من قبل أي
رقاوي سواء كان مؤيدا او معارضا ، ولم أتعرض لأي مضايقة من أحد كان سواء
كان جارا أو صديقا اختلفت معه بالرأي أو قريبا أو بعيدا ، سواء من
المدينة أو الريف ) ، رغم مزاح بعض الأحبة معي في هذا الموضوع أو ذاك ،
نعم تألمت كثيرا لعمليات القتل الطائفي التي حصلت لبعض الشيعة والعلويين
والمسيحيين ( رامي البودي – نبيه سعد – الشيخ ابو محي الدين  السراوي –
مدير اوقاف الرقة   وغيرهم وغيرهم وحز ذلك في نفسي كثيرا أن يقتل شخصا
مسا لما لا يحمل السلاح لإنتمائه الديني او الطائفي او المذهبي أو
السياسي أو القومي ) ولكن مثلما ابرىء نفسي من هذه الأفعال ، أبرىء الرقة
منها ، لأنها دخيلة على الرقة وتاريخها وتراثها .. وأهلها وناسها الأشراف
.. كنت دائما أقول على من يريد أن يكون معارضا أن يعلن وبصوت عال أنه : (
بريء من دماء السوريين – بريء من اعراض السوريين – بريء من اموال
السوريين الخاصة والعامة – بريء من كرامات السوريين ولم بسء لكرامة أحد
منهم – وأن يعلن بصوت عال عال جدا أن كل السوريين عائلته وأن السوريين
أسرة واحدة  - وأنه معارض للفساد والاستبداد ولنهج سياسي إقصائي للآخر
المختلف فكريا وسياسيا  فقط دون أي كراهية أو تكفير للآخر .) .
ايتها الرقة مدينتي : لقد غادرتك كسيرا بجسدي ، ولكن الله يشهد روحي بقيت
هناك كما بقي تاريخي وقبور آبائي وآجدادي .. ونرجو أن نعود لحضنك الطاهر
الحنون المحب الصادق بعد أن تكوني قد لفظتي كل الفاسدين والمستبدين
والشوفينيين والعنصريين والإقصائيين  الذين يعكرون صفو فراتك . ويرفضون
الآخر . الرقة كفراتها تسقي كل عطشان بدون سؤال من أين جاء ؟ ولمن ينتمي
؟ .
الرقة   كالفرات تسقين العطاش بدون ان تسأليهم عن قوميتهم ودينهم
وطائفتهم ومذهبهم وعشيرتهم وعائلتهم . بدون أن تسأليهم عن أيدلوجياتهم
السياسية يمينا او يسارا علمانيا ام متدينا . مؤيدا ام معارضا . كنت
كفراتك تمنحيهم إنسانيتهم ، وتهديهم كا لخراف الضالة .
الرقة مدينتي : أنا خروفك الضال ، أحتاج الى نورك وماؤك ، وبقربك أشعر
بالأمان .. وعند حليبك ارغي بكل شيء حتى بزبد الكلام . ( عذرا لأني لم
أذكر اسماء الأحبة لأني احتاج شهرا لتعدادها ). وعدا رقتنا الحبيبة أن
نرفض تبديل استبداد بإستبداد ، وان نرفض أن يكون جلاد الأمس وفاسدها
معارض اليوم .
الوطنية والإنتماء الوطني لسوريا ليست جدارا واطئا يعتليه من يشاء  من
فاسدي الأمس وسراق مالها العام / الوطنية للقلوب الطاهرة والأيادي
البيضاء فقط .
عذرا مدينتي وتاريخي / إن انكسرت روحي فأنت كالسنيان لا تنكسرين . وإن
قصرت بحبك لجفافي ، فأنت كفراتك دائمة عذبة كماء الروح / انت مدينة
مجبولة بنهر القرآن الفرات وكفى ذلك لك فخرا . سامحينا إن قصرنا بحقك وحق
الكرام الكثر من أهلك  / سلام للرقة / سلام لها وعليها / وقبلة على طمي
فراتها  / سامحينا إن كنا قد أخطأنا بحقك أو قصرنا / فالكمال لله وحده .
ملاحظة : الجزء الثاني يتحدث عن ( هل الوفاء كردي ؟؟؟؟!!!) عن الرحلة من
المنزل الى حارة الاكراد الى جلبية ومنها الى كوباني والى الشيوخ ثم الى
جرابلس ، والدخول الى تركيا .
                 6 / 4 / 2013 م ( سوريا فقط أولا وآخرا )

الطريق إلى اسطنبول ( الجزء الثاني )
محمد غانم
Ghanem55@ gmail.com



ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.