إدريس سالم : أبي الراحِلُ عن الدنيا، والحَاضِرُ في دُنياي

 أبي:

أَعدُك وَعدَاً، وأُعاهدُك عَهدَاً
بأنْ أعتني بأمي
وأكونَ معها كما كنتَ معها
وألا أجعلَ ثغرَها الرفيف يُجفَّف
بأنْ أحمي إخوتي من الفوَادِح
وأكونَ سَنداً لهم
بأنْ أوفي لمَدينتنا قامشلي
بأنْ أحقّقَ كلَّ مَطامِحك، ومَطامِحها
فأنتَ مَثَلي، ولا مَثِيلَ لك بينَ المُثَلاء
ولن أنسى ما ربّيتني عليه
يا رَاحِلاً عن الدنيا، وحاضِرَاً في دُنياي
 
أبي:
أشجَاني فراقُك
حتى انشترَتْ عيناي
وشاتاي
وانخسفَ دمعي في مِعصَمَاي
وعجزَتْ مني إسوارتاي
وخاتمي المَصنوع من الألمَاس
أبي:
ابنتُك تستسنُّ رونَقاً
فأينَ أنت؟
عندَما أنطقُ بحروف اسمِك
يتزلزلُ كَياني
عندَما أكتبُ اسمَك على الكَوَاغِد
تتزلزلُ أناملي
اشتهَاني كلامُك
وحكاياك
وعطاياك للناس
فكنْ هُنا!
لأنّني أريدُ أنْ أتظلّلَ بك
أنْ أتشمّسَ بك
أنْ أتشفّى بك
لأتحبّبك بحِباب
فأنتَ الحُبُّ
فأنتَ الحِبُّ
فأنتَ الحَبُّ
أتذكّرُك
وأتذكّرُ يومَ كنتَ تطعمُني
أجناءَ التوت
فكنْ هنا!
فأنا لا أريدُ أنْ أموتَ من قسوة الهجران
ولا أنْ أضيعَ بينَ فراسخ الأفضية
بينَ الغَصْبِ، والغَضَب
بينَ دهرٍ كَالِحٍ، ومَالِح
بينَ الكُهْلان، والكَهْلات
فكنْ هنا يا أبي!
 
أبي:
اسمُك أزخرفُه على سَريري، والعقيق، والزرجون
على الجُدْرَان، والزرَابي
على أجنحَة أسْرابٍ من الطيور الزرزورية
وأرياش الطوَاويس المُلوّنة
وأزعفرُه بالزعْفرَان، والزيزفون
أساريرُك لا تفارقُ أَسْحَاري
أَصْبَاحي
أَظْهَاري
أَعْصري
أَمْسيتي
أبي: 
كنْ هنا!
ولا تنتأي عني
وكنْ على يقينٍ عندَما أنساك لبُرهة
فتأكّدْ أنّ ابنتك خائِنة
إلا أنّك لم تخلّفْ الخائِنات، ولا الخائِنين
ولا حتى الخائِبات، والخائِبين
أحبُّك أبي
فلا تفارقْ قُراي، ومُدني، وعَواصمي
لم أرتكبْ إلا القليلَ من الصغائِر
فافتخرْ بي، فأنا أفتخرُ بك
فأنتَ مَثلي في الحياة
فأنتَ أبي الراحِلُ عن الدنيا، والحَاضِرُ في دُنياي
 
أبي:
كنْ هنا!
لتجعلَني عَروسةً، وتدخلَني القفصَ الذهبيّ
لتسوحَ معي في شهر عَسلي
لتلوطَني بزوجي
لتبني لابنتك الجَوَاسِق
ولتزرعَ لها الحَواكيرَ بَسَاتيناً
فما قيمتي من دونك؟ ومَنْ أكون؟
فأقفُ على الأطلال
وامرؤ القيسِ يلوّحُني
وأنا، وأنا أناديك
فكنْ هنا!
 
أبي:
يضطهدُني مِطحَنةُ رَحيلِك
ويطثُّني، ويطثُّ حَنيني إليك
ولن أعتقَ منك، ولا تعتقْني
أرجوك لا تعتقْ ابنتَك
لأنّك الطّوبَى، وكلُّ الطّوبَى لك
سأحملُ إداوَتي على ظهري، وآتي إليك
يا أيُّها الساميُّ، والسمَاويُّ، والعِصَاميُّ، والمُضحيّ
فأنا لا أتحمّلُ غِيابَك
ولم أعدْ أطيقُ أحدَاً سِوى عَائِلتي
لأنّني أفطرُ، ولا أراك
أتغدّى، ولا أراك
أتعشّى، ولا أراك
أرى الكلَّ، ولا أراك
سآتي إليك لأراك
فلا تشاريني مُشارَاةً أيُّها المَوت
فقط استعجلْ، وخذْني إلى أبي
الراحِلُ عن الدنيا، والحَاضِرُ في دُنياي
 
أبي:
سأُخندقُ خَنْدَقاً حولَ قبْرِك المُشتهى
وسأخندفُ فيه لحِرَاستك
لحِرَاستك من كِعَاب الأخْيَاف، ورمي الحِجَارة
فأنتَ دَفِيني، وأنا سَادِنتُك
هكذا سأرتاحُ، وستكونُ قريباً مني
 
انتهت القصيدة
 
الإهداء:
القصيدة مُهداة إلى مَنْ أكنُّ له الاحترامَ.. إلى الرجلِ الغائِبِ الحاضِرِ، والذي أعرفُ أنّه مهما ابتعدَ فإنّ قلبَه وروحَه سيبقيان معي.. إلى الذي يدفعُني إلى التقدُّم والعطاء.. إلى روحه الغالية، وأسكنَهُ اللهُ فسيحَ جنّاته الطاهرة.. إلى أبي الراحلُ عن الدنيا، والحاضرُ في دنياي.
 


ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.