فلسفة الحوار/ هجار عمر

2008-09-06

إنَّ مصيراً واحداً يجمع البشر رغم اختلافهم الواضح، كما أن مصيراً واحداً يجمع الأعراق والأمم. وكما يقول هيدجر فإننا ملقون هناك، في هذا الوجود القاسي والمرير. وقد كان البشر في بداية التكوين أسرة واحدة أو أمة واحدة حسب بعض الافتراضات الإثنولوجية. ولكن النزعة الأنوية في الإنسان -كحب التملك والسيطرة على الأشياء وعلى الآخرين التي ترجع في أساسها إلى الشعور بالخوف من الموت أو الفناء-دفعت الناس إلى الصراع؛ الصراع من أجل البقاء، وقد تطور هذا الصراع من صراع نزعات ومصالح ضيقة إلى صراع بين الأمم. وظل هذا الصراع مستمراً وإن كان يتخذ في كل حقبة من الحقب وجهاً جديداً أو مختلفاً. ويتغذى الصراع بالتوتر الذي تهيئه في نفوس الناسِ تلك التعاليمُ والأفكار التربوية القديمة التي تنهض على ثنائية الخير والشر أو الحق والباطل. وتمارس ثقافة كل مجتمع مثل هذه الفعالية التعبوية رغبة منها في حماية الأنا وتحصينها. ولا يمكن أن تتماسك الهوية الثقافية لمجتمع ما –خصوصاً المجتمع المنغلق– إلا باستحضار العدو المتربص والشر القادم! ولو لم يوجد العدو لاضطرت الثقافة– تبعاً لآلياتها البدائية في الدفاع عن النفس– إلى إيجاده.لذا فإن الوجود الإنساني موصوف بالصراع الأزلي، ولم تظهر فكرة الحوار الحضاري أو الثقافي والانفتاح على الآخرين إلا في العصر الحديث؛ وهو العصر الإنساني بامتياز، رغم وجود بعض الإرهاصات والبوادر في التاريخ القديم؛ فالحوار يظل نتيجة وحصيلة لتطور الروح الإنسانية وسريانها في مسارب التاريخ.. وليس لتطور الروح البشرية من حدٍّ.* * *لا يمكن أن نتخلص من مرارة هذا الصراع إلا بالتواصل والحوار، على أن الحوارَ يفترض -مسبقاً- تعارفاً.. أي أن الطرفين المتحاورين لا يكون أحدهما غريبا تماما عن الآخر، فهناك تصورٌ يملكه الواحد عن صاحبه، وهذا التصور ناقص أو مشوّه، وهنا تكمن قيمة الحوار، فهي تعديل مستمر للتصورات التي نكونها عن (الآخرين) ويكونها الآخرون عنا. فهو ليس لمجرد التعارف أو التعاون أو أي شيء من هذا القبيل، بل هو -وهذا الأهم- محاولة الذات للتعرف على نفسها من خلال الآخر، ورؤية نفسها فيه من خلال رؤيته بشكل صحيح. يقول تييري هنتش في كتابه (الشرق المتخيل): “إن الشرق كامن في رؤوسنا، نحن الغربيين، وليس له وجود خارجها”. وبالمقابل يمكننا القول إن الغربَ لا وجود له، بالنسبة لنا، إلا باعتباره الوجه الآخر للشرق؛ الوجهَ الجميل أو القبيح.إن الغرب/ الآخر امتداد للشرق/ الأنا.. وليس ثمة حوار إلا داخل هذه الجدلية التي تهدأ حينا وتثور أحيانا. وما دام ثمة تعارف مسبق بين الغرب والشرق، بين الأنا والآخر فإن إمكانية الحوار تظل قائمة. ولا يمكن لي أن أعقد حوارا مع شخص أو مع فكر لا أعرف عنه شيئا البتة.هنا، في هذه الحالة فقط، يمكن توقع ما سيحدث!، والموقف الأقرب للسيكيولوجية البشرية الناهضة على الارتياب والخوف، كما قلنا، من الغرباء (والغريب هو ما لا يعني للذات شيئا؛ أي هو ما لا يكون امتداداً لها بأي شكل من الأشكال) هو أن يحدث تصادم لا يتمتع بأية معيارية أخلاقية أو إنسانية، كالتصادم الذي وقع في تاريخ البشرية بين أعراق مجهولة تماما -ولا يخفى أن هناك من ظن في يوم من الأيام أن الأفارقة، على سبيل المثال، ليست لهم أرواح؛ أي ليسوا بشراً!. ويعقب هذا التصادم أول حوار، وهو يقتضي اعتراف كل طرف بالآخر، ولو ضمنياً، وهو حوار ناقص بكل حال. وقد يكون الحوار مواكبا لحالة التصادم التي تتطور إلى حرب دائمة أو عداوة تاريخية (وهذان الأخيران، بالمناسبة، أخف وحشية بالمقارنة مع التصادم العنيف الأول الخالي من أخلاقيات الحرب). وحينما يتواكب الحوار والعداوة التاريخية تتداخل الأنشطة التواصلية والتفاعلية ويصبح الفصل بين الحوار كجدلية حضارية مثمرة ومستقلة، وبين موقف الهدنة أو المفاوضات التي تتم بين المتحاربين أو الأعداء.. أقول: يصبح الفصل بينهما عسيرا. وهذا ما يحدث في حالة الحوار الإسلامي المسيحي أو الغربي الشرقي مثلاً. فلا يزال كل طرف يرتكز على خلفية تاريخية من العداء الصارخ أو التوجس الدائم، مما يجعل الحوار مجرد استراتيجية للتفوق أو النصر أو للهدنة طويلة الأمد.إنه حوار يرمي، كما قلنا، إلى الفوز سياسيا أو حضاريا أو عسكريا أو أدبياً. وفي الحالة الأدبية ينقلب الحوار المزعوم إلى سجال وحجاج فارغ يتم بين الطرفين ولكن بصورة غير مباشرة: ببساطة لأن الشرقي يتحاور مع الغربي كما يتخيله وكما يتصوره، والعكس صحيح، إذ الغربي يتحاور مع شرقي (متخيّل) موهوم. وهنا لا يتم الحوار الحقيقي إلا بالانفتاح المباشر على الآخر وهجر كل التصورات المسبقة التي كانت لها جدوى في البداية؛ أي التي كانت مبرراً لإجراء الحوار، وكانت حصيلة للتعارف، ولكنها تفقد، أو يجب أن تفقد، مبرراتها مع صيرورة الحوار ونموه. ينبغي أن نلغي هذه التصورات المسبقة لكي يبدأ الحوار بصورة صحيحة، فمرحلة التعارف هي شرط أولي للحوار، هي الشرارة الأولى، وهنا ينتهي دورها. hajaromar1@gmail.com

KNA


ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.