(Dr. Ehmed Xelîl) : دراســــات في التاريخ الكُردي القـــديم ( الحلقة 36 ) كُردستان والكُرد في عهد المماليك

2014-02-06

محاولات استرداد الدولة الأيوبية:
غضب بعض كبار زعماء الأيوبيين في الشام لمقتل السلطان تَوْرانْشاه على أيدي المماليك في مصر، ورفضوا الخضوع للأمر الواقع، وعَدّوا المماليك مغتصبين للسلطة، وقاد الملكُ الناصر يوسف  الأيوبي، ملكُ حلب وملك دمشق بعدئذٍ، حملةً أيوبية مناهضة للمماليك، وزحف بجنوده نحو مصر لاستعادتها، ولجأ المماليك إلى مناورة سياسية ذكية؛

إذ اختاروا صبياً من الأسرة الأيوبية لا يتجاوز عمره العاشرة، هو الملك الأشرف موسى، وأقاموه سلطاناً بشكل صوري، وكانت السلطة الحقيقية بيد المملوك عزّ الدين أَيْبَك ومن معه من كبار المماليك.
بقليل من التحليل للمُعطيات السياسية والعسكرية آنذاك، يتّضح أنّ الصراع كان يدور في الحقيقة بين العنصر الكُردي ممثَّلاً في الأيوبيين والعنصر التركي ممثَّلاً في المماليك، وتجلّى ذلك في المعركة التي دارت بين الجيش الأيوبي بقيادة الملك الناصر يوسف والجيش المملوكي بقيادة عِزّ الدين أَيْبَك بين مدينتَي بَلْبِيس والصالحية في مصر سنة (648 هـ)، فقد انتصر فيها الملك الناصر في البداية، لكنّ فِرقةً من جيشه- كانت من المماليك العزيزية التُّرك (نسبة إلى والده العزيز محمد)- تخلّت عن مواقعها في أوْج القتـال، وانحازت إلى الجيش المملوكي بدافع العصبية العرقية، فحلّت الهزيمة بالجيش الأيوبي.
وبُعيْد ظهور الخطر المغولي القادم من الشرق تدخّل الخليفة العبّاسي المُستعصِم بالله للمصالحة بين الملك الناصر وعِزّ الدين أَيْبَك، وتقرّر ما يلي:
1 - اعترافُ الملك الناصر بسيادة المماليـك على مصر وبلاد الشام حتى نهر الأردنّ.
2 - اعتراف المماليك بسيادة الأيوبيين على بقية بلاد الشام.
وبتدقيق النظر في بنود هذه الاتفاقية؛ يتضح أنها تعني اعترافاً أيوبياً صريحاً بشرعية الحكم المملوكي في مصر( ).
وبعد انتصار المماليك على المغول في معرك (عَين جالوت) بفلسطين سنة (658 ه/1260 مـ) توسّع النفـوذ المملوكي في بلاد الشام، بدءاً من دمشق جنوباً وانتهاء بحلب شمالاً، وأعاد السلطان المملوكي المُظفَّر قُطْز بعضَ الأمراء الأيوبيين إلى إماراتهم، بعـد أن أخذ عليهم العهـود بالتبعية له( ).
ثم تولّى الظاهر بَيْبَرْس مقاليد السلطنة في مصر وبلاد الشام بين سنتي (658-676 هـ)، فعزّز نفوذه بأن بايع بالخلافة أميراً عباسياً هارباً من المغول، هو أبو القاسم أحمد (سنة 659 هـ)، وتلقّب أبو القاسم بلقب الخليفة المُستنصِر بالله، وقام بتقليد الظاهر بَيْبَرْس البلاد الإسلامية وما ينضاف إليها، وبهذه المنـاورة الدينية شكلاً، السياسية هدفاً ومقصداً، أضحى الظاهر بَيْبَرْس سلطاناً شرعياً، فأمِن بذلك منافسة ملوك بني أيّوب وأمرائهم وخروج كبار قادة المماليك عليه( ).
أوضاع كُردستان في عهد المماليك:
في العهد المملوكي الأول كانت كُردستان في معظمها تعاني من الغزو المغولي، والمعروف أنّ نهر الفرات أصبح حدّاً فاصلاً بين المغول والمماليك بعد معركة عَين جالوت، وتقع كُردستان في معظمها شرقي هذا النهر، في حين بسط المماليك نفوذهم على المناطق الكُردية الواقعة غربي الفرات، وهي المناطق الحدودية الملاصقة للنفوذ المغولي، وأمر السلطان الظاهر بَيْبَرْس بتجديد القلاع الواقعة في تلك المناطق الحـدودية، وزوّد قلعة البِيرة (بِيرَه جِيك) بالمقاتلين والعَتاد والمؤن من مصر وبلاد الشام، لمساعدة سكّانها على مقاومة المغول( ).
وفي عهد السلطان قَلاوُون أرسل القائد المغولي آباقا خان قوة استطلاعية سنة 679 هـ إلى شمالي بلاد الشام، فاحتلّت عَينْتاب وبُغْراس ودَرَبْسـاك وحلب، وارتكبت فيها أعمـالاً وحشية، وظلّ المغول يتّخـذون أرض كُردستان قاعدة انطلاق لتهديد شمالي بلاد الشام كلما سنحت لهم الفرصة؛ ففي سنة (680 هـ) توجّـه إلى بلاد الشام جيشان مغوليان:
•    خرج الجيش الأول من إقليم الجزيرة (في غربي كُردستان)، وعدده ثلاثة آلاف فارس بقيادة آباقا خان، وتولّى إخضاعَ المـدن والحصون الواقعة على امتداد نهر الفرات.
•    خرج الجيش الثاني من كَبادُوكيا قاصداً حِمْص، وعددُه مئة ألف جندي بقيادة مَنْگُوتْمِر، أخي آباقا خان، وانضم إليه لِيُون الثالث ملك أرمينيا الصغرى، ودارت معركة فاصلة بين المغول والجيش المملوكي قرب حِمص، وانتصر المماليكُ على المغول وحلفائهم الأرمن( ).
وفي سنة (681 هـ/1282 م) اختير تَكُودار أكبر أبناء هولاكو إيلْخاناً، واعتلى عرش مغول فارس، وكان قد اعتنق الإسلام وسمّى نفسه أحمد تَكُودار، وحاول توطيد علاقته بالشعوب المسلمة، لا سيّما مع المماليك في مصر وبلاد الشام. وفي سنة (694 هـ) اعتلى قازان (غازان) عرشَ مغول فارس، واعتنق الإسلام وتسمّى باسم محمود، ومع ذلك سعى إلى تحقيق المشروع المغولي؛ وهو احتلال الشام ومصر، فنشب الصراع مرة أخرى بين المغول والمماليك.
وكانت مدينة تِبْرِيز في شمال غربي إيران عاصمةً للمغول، لذا أصبحت أرض كُردستان ثانيةً مَعْبَراً لهم إلى الشام ومسرحاً للعمليات الحربية؛ فقد عبرت القوات المغولية نهر الفرات سنة (699 هـ)، ووصلت إلى حلب، ثم انتصرت على الجيش المملوكي شرقي حِمص، ووصلت إلى دمشق في العام نفسه. وفي سنة (700 هـ) خرج قازان من تِبْريز متّجهاً إلى حلب عن طريق الموصل، فأخلى الحلبيون مدينتهم، وعمّ الذعرُ مدنَ بلاد الشام( ).
ونتيجة الصراع بين قادة المماليك على السلطة بعد وفاة بَيْبَرْس؛ فَقَدَ الملك قَلاوُون الثقة بالمماليك الظاهرية (البَحرية)، وأنشأ سنة (681 هـ) طائفة من المماليك الشراكسة عُرفوا بالمماليك البُرْجية، واستطاع هؤلاء المماليك الوصول إلى السلطة في مصر وبلاد الشام على يد أول سلاطينهم بَرْقُوق (784-790 هـ/1382–1388 م). وقد ذكر فيليب حِتّي أنّ جميع المماليك البرجية كُرد، إلاّ اثنين منهم كانا يونانيين، وكان مجموعهم ثلاثة وعشرين ملكاً، وحكموا في الفترة 1382–1517 م( )؛ وهذا خبر غريب لا ندري من أيّ مصدر استقاه الكاتب، فالمشهور أنّ المماليك البُرجية كانوا شراكسة، ولم يكن الكُرد مماليك قطّ.
ويبدو أنّ بعض مناطق كُردستان ظلّت تحت النفوذ المغولي، في حين وقعت مناطق أخرى ضمن نفوذ إمارة "ذو القَدْر"، وهي إمارة تركمانية تأسّست سنة (740 هـ/1339 م)، وبسطت سيطرتها على مَرْعَش، وعَيْنتاب، وخَرْبُوط، وحِصن منصور (آدِي يَمان)، والرُّها، ودياربكر، وجَرْمِيك، ورأى العثمانيون في خضمّ صراعهم ضد المماليك البُرجية ضرورةَ إحكام سيطرتهم على شمالي كُردستان وجنوبيها قبل التوجّه لاحتلال بلاد الشام سنة (922 هـ/1516 م)( ).
المقاتلون الكُرد في الجيش المملوكي:
مرّ سابقاً أن الجيش الأيوبي، في العهود الأولى، كان أغلبه من الكُرد في الدرجة الأولى، ومن المماليك التُّرك في الدرجة الثانية، ثم دَبّ الصراع بين زعماء الأسرة الأيوبية، فجنّد بعضُهم، وخاصة السلطان الصالح نجم الدين، كثيراً من المماليك في جيشة، ليستقوي بهم على أخيه الملك العادل الثاني، والذي كان معظم أنصاره من الكُرد. ومرّ أيضاً أن ما فعله السلطان الصالح أدّى إلى اختلال التوازن في الجيش الأيوبي لمصلحة المماليك، وكان مقتل السلطان تَوْرانْشاه على أيديهم، وزوال الدولة الأيوبية، من نتائج ذلك الاختلال.
ومع ذلك بقي المقاتلون الكُرد يشكّلون قوة مهمّة في الجيش المملوكي، وكانوا يشاركون في الحروب التي قادها المماليك، ومن بينها معركة (عَين جالوت) ضد المغول سنة (1260 م). وقد دأب جميع محتلّي كُردستان على توظيف القدرات القتالية الكُردية في خدمة مشاريعهم التوسعية، والإفادة منها بأقصى الدرجات، ومثال ذلك أن الملك الفارسي كورش الثاني، بعد احتلاله لمملكة ميديا سنة (550 ق.م)، وظّف القادة والمقاتلين الميد لغزو الأناضول وبلاد اليونان. وكذلك فعل العثمانيون، وإن ألوية الفرسانُ الحميدية الكُرد أبرز مثال على ذلك.
ومن القادة الكُرد الذين قاموا بأعمـال مهمّة في عهد المماليـك الغُوريين الأميرُ حسين الكُردي الذي كان الساعدَ الأيمن للسلطـان قانْصُوه الغُوري، وكان البرتغاليون قـد سيطروا على موانئ الهند حوالي سنة (922 هـ)، ووصلت غزواتهم إلى سواحل شبه الجزيرة العربية وموانئ اليمن، فأرسل السلطـان قانْصُوه الغُوري حملةً عسكرية بقيادة الأمير حسين الكُردي، وجعل له مدينة جُـدّة (جَدّة) إقطاعاً، فشرع حسين الكُردي في بناء سورها وإحكام أبراجها، ثم توجّه بعسكره إلى الهنـد، واجتمع بسلطان كُجَرات خليـل شاه، فهرب البرتغاليون من الموانئ حين سمعوا بقدومه، وعاد حسين الكُردي إلى اليمـن فانتزعها من بني طاهر، وقُتل القائد حسين الكُردي بأمر السلطـان العثماني سليم الأول بعـد انتصار هذا الأخير على المماليك في معركة "مَرْج دابِق" بشمالي سوريا سنة (1516 م)( ).
وذكر الكاتب التركي يِلْماز أُوزْتُونا أنه كان للمماليك، في صراعهم ضـد العثمانيين، جيشٌ احتياطي من الكُرد تَعداده عشرون ألف مقاتل، أكثرهم خيّالة (الفرسان)، وكانت هذه القوات تُجمع من الأناضول وشمالي سوريا، وتُستدعى عند الحاجة( ). وهذا دليل تاريخي واضح على أن مناطق غربي كُردستان (في شمالي سوريا) كانت عامرة بسكّانها الكُرد حينذاك، وإلا فكيف يمكن تجنيد أعداد كبيرة من الفرسان الكُرد من المنطقة ذاتها؟