(Dr. Ehmed Xelîl) : دراســــات في التاريخ الكُردي القـــديم ( الحلقة 35 ) الصراع بين الكُرد الأيوبيين والمماليك الأتراك

2014-02-03

نشأة المماليــك:
المملوك عبد يُشترى ويباع، واكتسبت هـذه الكلمة دلالة اصطلاحية خاصة في العهد العباسي؛ إذ أصبحت تدلّ على فئة من الرقيق (العبيد) الأبيض كان الخلفاء وكبار القادة والولاة يشترونهم من أسواق النِّخاسة، ويستخدمونهم في فِرَق عسكرية خاصة، ويعتمـدون عليهم في مقاتلة أعدائهم ولبسْط نفوذهم( ).
وقد بدأت ظاهرة تجنيد المماليك الأتراك في الجيش العبّاسي في عهد الخليفة العبّاسي المأمون( ت 218هـ) ابن هارون الرشيد،

وأكثر أخوه الخليفة المُعتصِم بالله (ت 227 هـ) من تجنيدهم في جيشه لكونهم أخواله من ناحية (أمّه زُمُرُّدة جارية تركية)، ولضعف ثقته بالعرب والفرس من ناحية أخرى. وسرعان ما تزايدت قوة الجند الأتراك، وبرز منهم شخصيات عسكرية كبيرة ذات نفوذ، مثل طُولُون، والأَفْشِين، وأَشْناس، ووَصِيف، وبُغا، وإيتاخ، وسِيما الدمشقي( ).
وخلال العصر العبّاسي الثاني (232-334 هـ/847-946 م) أصبح العنصر التركي قوة هامة على الصعيد العسكري، وجنّدتهم الدول الناشئة مرتزقةً في جيوشها، فاسـتعان بهم الصَّفّاريون والسامانيون في بلاد فارس، والطُّولونيـون في مصر، والإخْشِيديون والفاطميـون في مصر وبلاد الشـام، والسلاجقة في العراق وبلاد الشام، والزَّنكيون في الجزيرة وبلاد الشام، والأيوبيون في مصر وبلاد الشام، وكان الفاطميون قد اهتمّوا بتربية صغار مماليكهم وفق نظام خاص، وهم أوّل من وضع نظاماً منهجياً في تربية المماليك بمصر( ).
وبمرور الأعوام، وبعدما كثر عدد المماليك الأتراك، لم يقتصر نفوذهم على الميادين العسكرية، وإنما أخذوا يتدخّلون في شؤون الخلافة وسياسات الدولة، فيعزلون كل خليفة لا يُذعن لهم إذعاناً كاملاً، ويُولّون آخر طيّعاً لهم بدلاً منه، بل لم يتورّعوا عن قتل بعض الخلفاء، وسَمْل أعين آخرين (فَقْئِها بإدخال حديدة حادّة فيها) كي لا يصلحوا لتولّي منصب الخلافة مرة أخرى؛ بحسب الشروط الشرعية التي ينبغي أن تتوافر في الخليفة، ومنها ألاّ يكون أعمى( ).
وقد مرّ أن السلطان صلاح الدين أقام الدولة الأيوبية في مصر بعد سقوط الدولة الفاطمية بوفاة الخليفة الفاطمي العاضد سنة (567 هـ)، وبسَطَ نفوذ دولته على بلاد الشام بعد وفاة السلطان نور الدين زَنكي سنة (569 ه). وصحيح أنّ الكُرد والتركمان كانوا قوة قتالية أساسية في الدولة الأيوبية منذ نشأتها، لكنّ كثرة الحروب من ناحية، وضخامة أعداد القوات الفرنجية التي تصدّى لها صلاح الدين من ناحية أخرى، جعلته يستعين بالمماليك الأتراك، وحينما ظهرت الصراعات بين كبار أمراء الأسرة الأيوبية، وخاصة بعد وفاة الملك العادل الأيوبي أخي صلاح الدين،  أكثروا من تجنيد المماليك الأتراك ليستقووا بهم على بعضهم البعض( ).
المماليك والسلطان الصالح:
إن المماليك أنواع تبعاً لأسيادهم، فثمّة (المماليك الصالِحية) نسبةً إلى صلاح الدين، و(المماليك العادِلية) نسبةً إلى الملك العادل أخي صلاح الدين، و(المماليك الكامِلية) نسبةً إلى الملك الكامل ابن الملك العادل، و(المماليك البَحْرية) في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب، و(المماليك العَزيزية) نسبةً إلى الملك العزيز الأيوبي، و(المماليك البُرْجِية) في عهد الملك المملوكي قَلاوُون.
وبعد وفاة الملك الأيوبي الكامل سنة (635 هـ) بايع الكُرد ابنَه العادل الثاني سلطاناً، لكنّ المماليك الكامِلية تآمروا على العادل الثاني سنة (637 هـ)، وهزموا أنصاره من الكُرد، وأقاموا الصالحَ نجم الدين أيوب سلطاناً سنة (638 هـ) بدلاً من العادل الثاني، وكان الصالح حاكماً على الجزيرة الفراتية في شمالي كُردستان (المناطق الكُردية في شرقي تركيا حالياً)؛ وكان ذلك مؤشّراً على بداية تراجع النفوذ السياسي والعسكري الكُردي في الدولة الأيوبية، وصعود نجم العنصر التُّركي ممثَّلاً في المماليك منذ ذلك الحين.
ونظراً لعدم ثقة السلطان الصالح نجم الدين بالقادة الكُردية -خاصةً أنّ كثيرين منهم وقفوا ضد تولّيه السلطنة- زاد من شراء المماليك الأتراك إلى درجة لم يبلغها قبله أحد من سلاطين الأيوبيين، حتى أصبح معظم جيشه منهم، واعتنى بتربيتهم وتدريبهم على فنون القتال، ثم جعلهم بِطانتَه وحرسَه الخاص، وهذا مؤشّر آخر على تقليص وإضعاف الدور الكُردي في هَرم السلطة الأيوبية، وعُرف هؤلاء المماليك باسم (المماليك البحرية)؛ لأن السلطان الصالح اتخذ (جزيرةَ الروضة) في نهر النيل بالقاهرة مقرّاً لهم( ).
وفي سنة (647 هـ/1248 م)، وبتأييد من البابا أَنُوسِنْت الثالث، قاد لويس التاسع ملك فرنسا الحمـلة الصليبية السابعة على شرقي البحر الأبيض المتوسط، لاسترداد مدينة القدس والمناطق الأخرى التي انتزعها صلاح الدين وأخوه السلطان العادل من أيدي الفرنج، وبما أن مصر كانت مركز السلطنة الأيوبية، بدأ لويس التاسع بمهاجمة مدينة دِمْياط الساحلية في مصر، واستولى عليها، مع أن السلطان الصالح كان قد حصّنها وزوّدها بالذخـائر والأقوات، وشدّد على قادة جيشه بضرورة عدم تركها تسقط في أيدي الفرنج. وقد ارتاع المسلمون لسقوط دمياط، وحزِن السلطان الصالح حزناً شديداً على سـقوطها، وكان مريضاً حيـنذاك، وعنّف مماليـكه ووبّخهـم لتراخيهم في الدفاع عنها والانسحاب منها.
وقد تخوّف المماليكُ من نوايا السلطان الصالح إزاءهم، وقرّروا التخلص منه قبل أن يعاقبهم، لكنّ قائدهم فخر الدين بن شيخ الشيوخ نصحهم بالصبر، وأكّد لهم أنّ الأطباء قد يئسوا من شفاء السلطان، وأنه ميّت لا محالة، فلا داعي إلى الفتك به. ولم يلبث السلطان الصالح أن توفّي في العام نفسه؛ وهذا دليل آخر على أنّ المماليك الأتراك كانوا أقوياء وقادرين على الإطاحة بالسلطان الأيوبي نفسه إذا شاؤوا، وأنّ العنصر الكُردي كان أضعف من أن يقف في وجوههم، ولا ريب في أنّ سياسات السلطان الصالح القائمة على تقديم المماليك الأتراك على القادة الكُرد هي التي أوصلت الموقف الكُردي إلى ذلك المستوى من الضعف.
المماليك والسلطان تَوْرانْشاه:
بعد وفاة السلطان الصالح نجم الدين؛ أدارت شَجَرة الدُّر (زوجة السلطان الصالح التركية على الأرجح، وقيل: أرمنية) شؤونَ البلاد بتأييد من المماليك، وأخفت خبرَ وفاته؛ كي لا تهبط معنويات الجيش الأيوبي، ولا ينتهز الفرنج الفرصة، فيشنّوا الهجوم، واستدعت تَوْرانْشاه، الابن الوحيد للسلطان الصالح، من حِصْن كَيْفا (حَسَنْكَيف) في شمالي كُردستان ليتولّى مقاليد الحكم.
لكنّ جواسيس الفرنج نقلوا إليهم خبر وفاة السلطان الصالح، فانتهزوا الفرصة، وتركوا دِمْياط، وتقدّموا نحو مدينة المَنْصورة، في طريقهم لاحتلال القاهرة، واحتلوا المنصورة بعد معارك شرسة. وفي هذه الأثناء وصل الملك المعظَّم تَوْرانْشاه إلى مصر، وتسلّم من شجرة الدُّرّ مقاليدَ السلطة، وأعدّ خطة عسكرية كفلت له النصر الحاسم على الفرنج، واضطر هؤلاء إلى التراجع، فطاردهم الجيش الأيوبي، ووقع الملك الفرنسي لويس التاسع نفسُه في الأسر.
بعد النصر على الفرنج اتّجه تَوْرانْشاه إلى الجبهة الداخلية، إذ لم يرتح للنفوذ الكبير الذي كان قادة المماليك يتمتعون به، وقرر إبعادهم وإحلال أنصاره الكُرد القادمين معه من شمالي كُردستان محلّهم، فتذمّر قادة المماليك، فردّ عليهم تَوْرانْشاه بالتهديد والوعيد، وأبعدهم عن المناصب الكبرى، وأخيراً أمر باعتقالهم. كما أنه جرّد شجرة الدُّرّ من سلطاتها، وطالبها بما أخفته من ثروة أبيه، فخافت على نفسها، وضمّت جهودها إلى جهود المماليك الحانقين، واستطاعوا في النهاية تنفيذ المؤامرة التي انتهت بقتل السلطان تَوْرانْشاه سنة (648 هـ)( ).
وبمقتل السلطان تَوْرانْشاه انتهى الحكم الأيوبي في مصر، وبدأ حكم المماليك.
الدراسة مقتبسة من كتابنا (تاريخ الكُرد في الحضارة الإسلامية) مع إضافات جديدة
3 – 2- 2014