Dr. Sozdar mîdî دراســــــــات في التاريخ الكُردي القــــــــديم ( الحلقة 31 ) الشرق الأوسط جيوسياسياً قُبيل الغزو المغولي

2014-01-04

الخريطة الجيوسياسية:
درجت القاعدة التاريخية- في معظم الأحيان- على أنه كلما أفلح غازٍ في احتلال بلادٍ ما؛ فذلك يعني بالضرورة أن فراغاً سياسياً كبيراً حاصل في تلك البلاد. وعلى ضوء هذه القاعدة يمكن أن نفهم ملابسات الغزو المغولي لغربي آسيا في القرن (7 هـ/13 م)؛ لذلك دعونا نلقِ نظرة سريعة على الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط ووسط آسيا قُبيل الغزو المغولي، فحينذاك كانت أربع قوى سياسية تحكم العالم الإسلامي،

هي:
1 - الخلافة العباسية في العراق.
2 - بقايا السلاجقة في إيران وفي أجزاء من آسيا الصغرى.
3 - بقايا الأيوبيين في أجزاء من كُردستان وبلاد الشام.
4 - الدولة الخُوارِزْمية في أقصى شرقي العالم الإسلامي.
وكان في وسط آسيا وغربي آسيا أربع قوى غير إسلامية، هي:
1 - المغـول شرقي نهر سَيْحُون (سيرداريا).
2 - دولة الروم (بيزنطا) في غربي آسيا الصغرى.
3 - دولة أرمينيا الصغرى في الجنوب الغربي من آسيا الصغرى.
4 - الإمارات الفرنجية في بعض مناطق سواحل بلاد الشام.
أما الخلافة العباسية فإنّ قادة الجند- وكان معظمهم من المماليك الترك- تسلّطوا على دار الخلافة منذ عهد الخليفة العبّاسي المتوكِّل على الله (قُتل سنة 247 هـ)، وراحوا يعيّنون ويعزلون من يشاؤون من الخلفاء والوزراء، بل كانوا يقتلون كلّ خليفة يقف في طريقهم، أو يُذيقونه الهوان والعذاب ألواناً، أو يَسْمُلون عينيه كي لا يصلح لتولّي منصب الخلافة، إذ من شروط الخليفة ألا يكون أعمى.
وأما السلاجقة فكانت قوتهم السياسية والعسكرية قد تقلّصت كثيراً في شرقي العالم الإسلامي، نتيجة توسّع النفوذ الخُوارِزْمي على حسابهم، واقتصر نفوذهم في الغالب على الجزء الشرقي من آسيا الصغرى.
وأما الدولة الأيوبية فكانت قد تفكّكت وضعفت، وانحصرت في إمارات عديدة، تبدأ من شمالي كُردستان (مَيّافارِقين، حِصن كَيْفا)، وتمتدّ غرباً وجنوباً عبر سوريا (حلب، حماه، حمص، دمشق)، وتنتهي بإمارة الكَرَك في الأُردنّ (جنوبي بلاد الشام)، إضافةً إلى أنّ نفوذ الأيوبيين في مصر كان قد زال، وأصبحت مقاليد الأمور في أيدي مماليكهم التُّرك، بعد أن قتلوا بمكر وبشاعة سيّدهم تَوْرانْشاه آخر سلاطين بني أيوب سنة (648 هـ).
وأما الدولة الخُوارِزْمِية فكانت القوةَ التركية الشرقية الفتية آنذاك في وسط آسيا، وكانت في أوّل أمرها تابعة لحكم سلاجقة إيران والعراق، ثم تأسّست على أنقاض دولة السلاجقة في المشرق، وكان جدُّهم مملوكاً تركياً اسمه أَنُوشْتِكِين، اشتراه الأمير السَّلجوقي بُلْكْباي، وولد لأَنُوشتِكين ابنه محمد، وعهد إليه السلطان السلجوقي سَنْجَر حكمَ خُوارِزْم، وولد لمحمد ابنه أَتْسِزْ، وتولّى أَتْسِزْ الحكمَ سنة (490 هـ) وتوفّي سنة (551 هـ)، فخَلَفه على الحكم ولده أَرْسَلان، وقد ولاّه سَنْجَر على ولاية خوارزم( ).
الصراع العبّاسي- الخُوارِزْمي:
بعد وفاة أَرسلان تولّى السلطة ابنُه خُوارِزم شاه علاء الدين تُكُشْ، ولما توفّي سنة (596 هـ) تولّى السلطنةَ ابنُه محمد، وتلقّب بلقب أبيه (علاء الدين)، وحكم مستقلاً عن السلاجقة، ووسّع رقعة الدولة من تركمانستان الحالية إلى حدود العراق، وفتح بلاد غَزْنَة، وسِجِسْتان، وكِرْمان، وطَبَرِسْتان، وجُرْجان، وخُراسان، وجزءاً من بلاد فارس، وجزءاً من الهند، وبلاد الجبل (كُردستان الشرقية والجنوبية)، والرُّها، وانتزع معظم تلك البلاد من أيدي أمراء السلاجقة( ).

وكان خُوارزم شاه علاء الدين محمد صاحب مشروع سياسي توسّعي، كما هي عادة معظم كبار زعماء العِرق التَّوْراني، وكان مشروعه هو التمدّد غرباً على شبكة (طريق الحرير) التجاري العالمي نحو شرقي البحر الأبيض المتوسط، وكان يعرف أنه لا يستطيع تحقيق مشروعه إلا بعد الحصول على التأييد المعنوي من الخليفة العبّاسي في بغداد، باعتباره صاحب النفوذ الروحي الإسلامي، وهذا يذكّرنا بدور البابا المسيحي في منح الشرعية السياسية لملوك أوربا في العصور الوسطى. قال ابن الأثير في أحداث سنة (614 هـ): "كان يَهوى أن يُخطَب له في بغداد، ويُلقَّب بالسلطان، وكان الأمرُ بالضدّ، لأنه كان لا يجد من ديوان الخلافة قَبولاً"( ).
وسبب إخفاق خُوارزم شاه في التوسّع غرباً؛ أنّ الخليفة العبّاسي الناصر لدين الله (أمّه تركية اسمها زُمُرُّد، توفّي 622 هـ) كان من الدهاة، وكان قدر زرع شبكة تجسّسية في البلاد تأتيه بالأخبار، حتى إن الناس توهّموا أن الجنّ يأتونه بالأخبار الدقيقة، وبهذا الدهاء أعاد للخلافة بعض هيبتها، فأعرض عن مطالب خُوارزم شاه، ولم يُلبّ له رغبته في منحه لقب (سلطان)، أضف إلى هذا أنه كان يطمح إلى إعادة بسط نفوذ الخلافة على البلاد التي تسمّى الآن (إيران)، وهذا يعني أنه كان منافساً خطيراً لخُوارزم شاه على الصعيد السياسي( ).
وبعد فشل خُوارِزم شاه في احتلال المنزلة الأولى عند الخليفة العبّاسي في بغداد، وإخفاقه في الفوز بلقب (سلطان)، لجأ إلى استعمال القوة في تحقيق مشروعه التوسّعي، وصمّم على غزو دار الخلافة؛ لأنها أصبحت عقبة في طريقه، متذرِّعاً بأنّ الخليفة الناصر أساء معاملة رُسُله، ورفضَ ذكرَ اسمه في الخُطبة على منابر بغداد، كما كانت الحال في عهد البُوَيْهيين والسلاجقة.
وأعلن خُوارِزم شاه أنّ الخلفاء العبّاسيين متقاعسون عن الجهاد، مغتصبون للخلافة، وأنّ آل علي بن أبي طالب أحقّ بها منهم، واعتنق المذهب الشيعي، وهذا دليل آخر على أن الصراع السُّنّي- الشيعي في حقيقته صراع على احتكار السلطة والثروة. وكي يوفّر خُوارِزم شاه المظلّةَ الشرعية للهجوم على عاصمة الخلافة؛ استصدر فتوى من العلماء بعزل الخليفة العبّاسي الناصر عن الخلافة، وإسقاط اسمه من السِّكّة (النقود) والخُطبة، ووقع اختياره على رجل من سلالة علي بن أبي طالب من مدينة تِرْمِذ (في أُوزبكستان)، فنادى به خليفة للمسلمين، وخطب له على المنابر، وصكّ النقود باسمه، ثم عزم سنة (614 هـ) على غزو بغداد.
ولمّا علم الخليفة الناصر بظهور خليفة شيعي منافس له، يجرّده من السلطة الروحية، حاول استدراك الأمر، فأرسل الشيخَ الكُردي شهابَ الدين السُّهْرَوَرْدي (من مدينة سُهْرَوَرْد في إقليم جنوبي كُردستان، قرب الحدود الإيرانية) إلى خُوارِزم شاه طلباً للصلح، فأساء خُوارِزم شاه استقبال الشيخ شهاب الدين، تعبيراً عن رفض التفاوض، وزحف بقوّاته نحو بغداد، لكنه اضطر إلى التراجع بعد أن وصل إلى منطقة (أَسَد آباد) في كُردستان الشرقية (غربي إيران حالياً) بسبب الثلوج والبرد الشديد. وردّا على تصرف خُوارِزم شاه وإعلانه العداء، أرسل الخليفة الناصر إلى جَنْگيزخان ملك المغول؛ طالباً منه المساعدة ضد خُوارِزم شاه( ).
وهكذا يبدو واضحاً أن الخليفة المسلم السُّنّي لم يتردّد- عندما اقتضت المصلحة السياسية- أن يستعين بملك وثني (كافر حسب التصنيف الإسلامي)، للانتصار على ملك مسلم آخر منافس له، وتحقيق مشروعه السياسي. ونتيجةً لنزعة خُوارِزم شاه التوسعية من جانب، ورغبة الخليفة الناصر في الانفراد بزعامة العالم الإسلامي من جانب آخر، والتطاحن المذهبي (السُّنّي- الشيعي) من جانب ثالث، اندفع المغول إلى غربي آسيا، ودفعت شعوب المنطقة ثمناً رهيباً يندر أن يوجد له مثيل في التاريخ القديم، وكان للكُرد وكُردستان نصيب كبير من ذلك.
وهذا هو موضوعنا القادم.
الدراسة مقتبسة من كتابنا (تاريخ الكُرد في الحضارة الإسلامية) مع إضافات جديدة
5 – 1 - 2014



ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.