Dr. Sozdar midi (E. Xelîl) : دراســــــــات في التاريخ الكُردي القــــــــديم ( الحلقة 29 ) المقاتلون الكُرد في جيش صلاح الدين الأيوبي

2013-12-24

صراع كُردي- تركي:
كان صلاح الدين كُردياً بانتمائه القومي، وشرق أوسطياً بانتمائه الثقافي والسياسي والإستراتيجي، وحرص على توظيف القدرات القتالية والثقافية لجميع شعوب الشرق الأوسط في مواجهة الغزو الفرنجي، وكان جيشه يضمّ عدداً كبيراً من المماليك الترك، باعتبار أن الجيش الأيّوبي كان في البداية امتداداً للجيش الزَّنْكي المؤلف أصلاً من التُّرك والكُرد، وجدير بالذكر أن عمّه أسد الدين شَيركُوه كان أكبر قادة الجيش الزَّنكي،

وهو مؤسّس (فِرقة الأَسَدية) المقاتلة في عهد نور الدين زَنكي، وكانت تضمّ عدداً كبيراً من المماليك الترك والمقاتلين الكُرد، وكان صلاح الدين في شبابه من كبار ضباط الفرقة الأَسَدية تحت إمرة عمّه شَيركُوه.

وحينما توفّي القائد شَيركُوه في مصر سنة (564 هـ/1169 م)، تولّى صلاح الدين قيادة الجيش الزَّنكي هناك، وكلّفه الخليفة الفاطمي الأخير العاضِد لدين الله بمنصب الوزارة، ومع أن صلاح الدين كان شرقَ أوسطي الرؤية والمشروع السياسي، لكن ثمّة أدلة عديدة على أن بعض كبار القادة الترك- بقيادة عَين الدولة اليارُوقي- رفضوا البقاء تحت إمرته حينما تولّى قيادة الجيش، وكانوا يرون أنهم أجدر منه بهذا المنصب؛ لذلك تركوا مصر غاضبين وتوجّهوا إلى دمشق، قال ابن الأثير في هذا الشأن: " وكلُّهم أطاع غيرَ عَينِ الدولة الياروُقي، فإنه قال: أنا لا أَخْدِمُ يوسف [صلاح الدين]، وعاد إلى نور الدين بالشام، ومعه غيرُه من الأمراء"( ).

وشرع القادة الترك العائدون من مصر يوسوسون للسلطان نور الدين زَنكي، ويُوغِرون صدره على صلاح الدين، ويحرّضونه على عزله؛ وإلا فإنه سيستقلّ بحكم مصر إذا بقي في منصب قيادة الجيش ومنصب الوزارة، ووجدوا لدى نور الدين أذناً صاغية لأقوالهم وتحريضهم، فراح يُزعج صلاح الدين بشتّى الوسائل، ويحاسبه على كل صغيرة وكبيرة بخطاب استفزازي، كي يتمرّد عليه، وكان يعرف جيداً حماوة رأس الكُردي إذا أُغضب، وكي يصبح تمرّدُ صلاح الدين حجّةً لعزله عن قيادة الجيش في مصر والقضاء عليه بعد ذلك( ).

لكنّ صلاح الدين- وبتوجيه من والده أيّوب- لم يقع في الفِخاخ التي نصبها السلطان له، وانتبه في الوقت نفسه إلى أنه لا يمكنه الاعتماد الكلي على القادة الترك في جيشه، فشرع في استقدام المقاتلين الكُرد من كُردستان، وتجنيدهم في جيشه، إلى أن أصبح عدد المقاتلين الكُرد أكثر من عدد المقاتلين الترك، وكان عدد المستعربين أقلّ بكثير، أمّا البدو العرب فكانوا أقلّ، ويتجلّى ذلك في أحداث المعارك الحاسمة، إذ نجد فيها أسماء كثير من القادة الكُرد، يقول كينيث سيتون في هذا المجال:
" وعلى الرغم من أن قوات صلاح الدين العسكرية كانت منظّمة بالطريقة نفسها التي نظّمها نور الدين، إلا أنها اختلفت عنها في جانب واحد؛ ذلك أن نسبة الأكراد في هذه الفِرق كانت أكبر، وقلّت نسبة العنصر المملوكي"( ).

قبائل كُردية في جيش صلاح الدين:
لم يكتف صلاح الدين بتجنيد المقاتلين الكُرد في جيشه بشكل نظامي، وإنما كان يستقدم أبناء القبائل الكُردية من كُردستان، ليواجه بهم المعارك الضخمة والحاسمة ضد الفرنج، وفي الغالب تتردّد أسماء القبائل الكُردية التالية في عهد صلاح الدين:
1 - قبيلة هَذْباني: قبيلة ضخمة ينتمي إليها فرع (رَوادي= رُو- آدي) أيْ (شمساني)، وتنتسب إليها الأسرة الأيّوبية، وكانت فروعها منتشرة في الأجزاء الشمالية من إقليم شرقي كُردستان، وخاصة في أَذَرْبَيجان، وفي المناطق الشمالية من إقليم جنوبي كُردستان، وذكرها المَقْرِيزي ضمن كبرى القبائل الكُردية، وكان فرع (رَوادي) قد أَسّس حكومة في أَذَربَيْجان تُعرَف بالحكومة الرَّواديّة بين سنتي (230-618 هـ)، أدخلها السلاجقة في دائرة نفوذهم، ثم قضوا عليها في النهاية( ).
2 – قبيلة زَرْزاري: قبيلة متوسّطة الكبر، وتعني بالكُردية "ولد الذئب"، وتسمّى "زَرْزا" أيضاً، وذكرها المَقْرِيزي ضمن كبرى القبائل الكُردية، وكانت تقيم في غربي أَذربيجان، ولها امتداد في شمالي إقليم جنوبي كُردستان، وتنتمي إليها أسرة الوزراء البَرامِكة المشهورة في العهد العبّاسي الأول، وينتمي إليها بدوره القاضي والمؤرّخ الشهير ابن خَلِّكان سليل الأسرة البَرْمَكية( ).

3 – قبيلة حَميدي: من المحتمَل أن يكون اسم (حَمِيدي) الأصلي (آميدي/آمَدي) نسبة إلى الميديين، الفرع الأخير من أسلاف الكُرد، وهي قبيلة ضخمة، ذكرها المَقْرِيزي ضمن كبرى القبائل الكُردية، وكانت تسكن كُردستان المركزية (مَواطنهم موزَّعة الآن بين جنوبي كُردستان وشمالي كُردستان)، وكانت مدينة (آكْرى/عَقَرَة) تسمّى (عَقْر الحميدية) بسبب كثرة فروع القبيلة الحَميدية هناك، وكان الحَميديون يثورون أحياناً على ولاة العبّاسيين في الموصل، ويتعرضون للقمع الشديد( ).
4 – قبيلة هكّاري: هَكّاري منطقة واسعة في كُردستان المركزية، تُعرَف عاصمتها الآن باسم (هَكَاري)، ووصفها ويليام إيغلتون فقال: "إنّ جبال هكّاري هي الأكثر وعورة في كُردستان، وإنّ قممها الشامخة ووديانها الضيقة لا تسمح باستيطان كثير من السكان،... كما أن هذه الجبال واحدة من أكثر المناطق في تركيا اندلاعًا للثورات". ولا نعرف ما إذا كانت كلمة (هَكّاري) في الأصل اسماً لقبيلة، أم اسماً لمنطقة سكنت فيها قبيلة بهذا الاسم؛ فأحياناً تتماهى أسماء القبائل والأماكن في كُردستان، وهكّاري قبيلة ضخمة، ذكرها المَقْرِيزي ضمن كبرى القبائل الكُردية( ).

5 – قبيلة مِهْراني: قبيلة كُردية ضخمة، ذكرها المَقْرِيزي ضمن كبرى القبائل الكُردية، ويرجع اسمها إلى كلمة (مِهْر) الكُردية العريقة بمعنى (شَمْس)، وكلمة (مِهْراني) تعني (شَمْساني)، أيْ أتباع العقيدة الشَّمْسانية (اليَزدانية/الأزدائية)، والتي ظلّت آثارها باقية في العقيدة (الأيزدية) التي تسمّى خطأً (يَزيدية). وتحوّل اسم هذه القبيلة في العهود الإسلامية- وربما قبل ذلك- إلى صيغة (مِيران) Mîran ، وهي من قبائل كُردستان المركزية في منطقة (بُوتان) التي تُعرَف كبرى مدنها باسم (جِزيرا بُوتان) Cizîra Botan، وبالعربية (جزيرة ابن عُمَر)، ويبدو أن فروعاً كثيرة من مِيران انتقلت، بدافع رعي قطعان أغنامهم، إلى منطقة بحيرة (وان) حسبما ذكر سايكس في كتابه عن القبائل الكُردية ونقلها عنه وليام إيغلتون( ).

أدلّة من المصادر التاريخية:
ثمّة قبائل وعشائر كُردية أخرى استعان بها صلاح الدين في معاركه ضد الفرنج، سترِد أسماؤها في أثناء الحديث عن دور الشخصيات الكُردية (ولاة، فرسان، فقهاء)، وعلى العموم كان للمقاتلين الكُرد تأثير كبير في إنجازات صلاح الدين العسكرية وانتصاراته، ونذكر فيما يلي بعض الأمثلة الواردة في المصادر.
 في سنة (578 هـ)، حاصر صلاح الدين مدينة سِنْجار، ليحرّرها من الحكم الزَّنكي، وكان ضمن الجيش الزَّنكي مقاتلون من الكُرد الزَّرْزارية، قال ابن الأثير: "فحَصَرَ [صلاحُ الدين] البلدَ وضايقه، وألحّ في قتاله، فكاتبه بعض أمراء الأكراد الزَّرْزارية، وخامر معه [اتفق معه سرّاً]، وأشار بقَصْدِه مِن النّاحية التي هو بها لِيُسلِّمَ إليه البلدَ، فطَرَقَهُ صلاحُ الدّين ليلاً، فسَلَّمَ إليه ناحيته"، وأدّى ذلك إلى استسلام الحاكم الزَّنكي، وإلحاق سِنجار بالسلطنة الأيوبية( ).
 قال ابن الأثير في حصار الموصل سنة (581 هـ): " وسَيّرَ [صلاحُ الدين] من المَنزلة [المعسكر] عليَّ بن أحمد المَشْطُوب الهََكّاري إلى قلعة الجُدَيْدَة من بَلد الهََكّاريّة، فحَصَرها واجتمع عليه من الأكراد الهَكّاريّة كثيرٌ"( ).
 قال أبو شامَة في أحداث سنة (581 هـ): " وشَرع السُّلطان [صلاحُ الدين] فِي إقطاع البلاد والتوقيع بها على الأجناد، وسَيَّرَ الأميرَ سيفَ الدّين عليّ بن أحمد المعروف بالمَشْطُوب الهَكّاري، وَمَعَهُ الأمراءُ من قبيلته والأكرادُ من شيعته، إِلَى بلد الهَكّارية، وجماعةً من الأمراء الحَميدية إلى العَقْر وأعمالِها؛ لاستفتاح قلاعها واستغلال ضياعها"( ).
 في سنة (583 هـ)، واستعداداً للمعركة الفاصلة في سهل (حِطِّين) بفلسطين، كتب صلاح الدين إلى الكُرد في مناطق أربيل وسِنْجار وديار الجزيرة، يستنفرهم لخوض المعركة ضد الفرنج؛ فلبّوا النداء، وتحقّق النصر الكبير الذي مهّد بعدئذ لفتح مدينة القدس في السنة نفسها( ).
 قال ابن الأثير في أحداث فتح مدينة صُور سنة (583 هـ): " وكانوا [الفرنج] قَتلوا في الحِصار أميراً كبيراً من المِهْرانية، فخافوا عند مفارقة البلد أنّ عشيرته يَقتلون منهم بثأره، فاحتاطوا فيما اشتَرطوا لأنفسهم، فأُجيبوا إلى ذلك جميعِه، وسََلّموا المدينة"( ).
 قال ابن شدّاد في أحداث حصار الفرنج لمدينة عكّا سنة (585 هـ)، يصف مَيْسَرةَ الجيش الأيوبي في المعركة: " وأمّا أوائل المَيْسَرة فكان ممّا يلي القلبَ [قلب الجيش] سيفُ الدّين عليّ المَشْطُوب [الهَكّاري]؛ وعليُّ بن أحمد من كبار ملوك الأكراد ومقدَّميهم، والأميرُ على جماعة المِهْرانية والهَكّارية"( ).
 ذكر أبو شامَة المَقْدِسي في وصف إحدى المعارك بين الجيش الأيّوبي سنة (586 هـ) بقيادة صلاح الدين والفرنج حول مدينة عكّا في فلسطين، أنه كان من جملة المقاتلين في ميمنة الجيش الأيوبي: " الأمراء الهَكّارية والحَميدية والزَّرْزارية والمِهْرانية وأمراء القبائل من الأكراد"( ).
هذه فقط نماذج من دور المقاتلين الكُرد في عهد صلاح الدين، وسنرى لاحقاً أنه حينما تفاقم الشقاق والصراع بين كبار قادة الجيل الثالث من الأسرة الأيّوبية على السلطة، استعان بعضهم- وخاصة السلطان الصالح نجم الدين- بالمماليك التُّرك، للتغلّب على الفريق الكُردي الذي عيّن أخاه الملك العادل سلطاناً؛ وتلك كانت بداية النهاية لسقوط الدولة الأيُّوبية في أيدي مماليكهم التُّرك سنة (1250 م)( ).
الدراسة مقتبسة من كتابنا (تاريخ الكُرد في الحضارة الإسلامية) مع إضافات جديدة
24 – 12 - 2013



ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.