Dr. Sozdar Mîdî : الهُوزان (المثقّف) الكُردي.. وصناعة الوعي القومي

2013-12-05

الهُوزان والپَيشمرگه:
تاريخ الأمّة الكُردية منذ 25 قرناً تراجيديا هائلة ومستمرة عنوانُها (الاحتلال)، وفي قبضة الاحتلال أُذيق الكُرد أصناف الضياع والفقر والقهر والصهر، كانت العذابات مروِّعة ومريرة؛ وكان ما يطلبه المحتلون مخيفاً: افتراسُ وطنٍ بحجم كُردستان، وإذابةُ أمّةٍ بحجم الأمّة الكُردية وعراقتها، وعقابُها كلما قاومت الافتراس.

في قلب تلك التراجيديا المروِّعة، وفي قلب تلك الظُّلمة والظلاميات الشرسة، عملاقان اثنان كانا ينهضان بكبرياء، ويشمخان كقمم زاغروس وآگري وطوروس، ويشرقان في سماء الأمّة الكُردية كشمس الإله يَزْدان، فيتدفّق الأمل في روح الأمّة، كتدفّق مياه أَلْوَنْد، وزاب، وآراس، ودجلة، وخابور، وفرات، وعَفرين؛ العملاقان هما الهُوزان (المثقّف= صانع الوعي)، والپَيشمرگه (الفدائي= صانع البطولة).
أجل، إلى جانب صلابة الشخصية الكُردية، ومناعة جبال كُردستان، والأمهات الكُرديات الولودات العظيمات، كان الهُوزان والپَيشمرگه حارسين لوجود الأمّة الكُردية واستمرارها واستعصائها على مشاريع الافتراس، وفي أحيان كثيرة كانا يتوحّدان؛ فيكون الهُوزان هو الپَيشمرگه، ويكون الپَيشمرگه هو الهُوزان، ولو تفحّصنا جذور الثورات الكُردية المتلاحقة لوجدنا أنها كانت نتاج ذلك التوحّد المبارك.
تبقى أمامنا الثقافة:
والحقيقة أن دور الهُوزان/المثقّف (صانع الوعي) كان- وما يزال- شديد الأهمية في معركة تحرير كُردستان، وكلما كان محتلّو كُردستان يقضون على ثورة كُردية، ويعلنون أنهم دفنوا كُردستان إلى الأبد- كما فعل النظام التركي بعد القضاء على ثورة دَرسيم عام 1938- ويسرعون إلى تفكيك المجتمع الكُردي، وعزْلِ القيادة عن الجماهير، وتدميرِ الشخصية الكُردية، وزرْعِ روح اليأس والاستسلام في الكُردي، وإفقادِ الكُرديّ وعيَه بهويّته القومية وبانتمائه الكُردستاني، كان الهُوزان/المثقف الكُردي ينبعث من قلب الرماد، فيتوهّج ويصبح مصدر إشعاع قومي لا حدود له، ويحثّ الجماهير على النضال، وينخرط فيه بنفسه، وما أكثر الأمثلة على ذلك!
والآن أصبحت مسؤولية الهُوزان الكُردي أكثر أهمّية لسببين:
- الأول: أن أنظمة الاحتلال ذات تراث استعماري احتلالي عريق، وهي ليست غافلة عن الكُرد، إنها تعمل بمكر لتجفيف منابع الوعي القومي الكُردستاني، وإشغال الكُرد عن (مشروع تحرير كُردستان) بـ (مشروع المُواطنة) في دول الاحتلال، وتجنيدِهم في خدمة مشاريعها التوسعية؛ تارة باسم الانفتاح الحضاري، وتارة تحت عباءة (دولة الخلافة)، هذا عدا سعيها إلى ضرب القيم القومية الوطنية التي كانت- وما زالت- تحمي الأمّة الكُردية من الانسلاخ والانمساخ.
- الثاني: أن إعلام العولمة اخترق ثقافات الشعوب، وتَخطّف الجماهير بمختلف وسائل الإغراء والإلهاء، وهيّأ المُناخ لشيوع ثقافة التسرّع والتسطّح بدل ثقافة التثبّت والتأصيل، وحاصر الحقائق بحشود من أقاويل التشكيك، وخلَط الغَثّ بالسمين والظنَّ باليقين، حتى إن المرء يُمسي عارفاً ويُصبح جاهلاً غافلاً، يسمع بالمعلومة فيصدّقها ويؤسّس عليها، ثم يكتشف أنها كانت اختلاقاً.
وينبغي ألاّ ننسى أبداً أننا أمّة محتلّة، وطنُنا مستباح، مجتمعُنا مستباح، مستقبلُ أجيالنا القادمة في مهبّ الريح، وباستثناء إقليم جنوب كُردستان لا نملك مؤسّسات ثقافية وتربوية وسياسية واقتصادية واجتماعية ذات كفاءة، ترعى شؤوننا، وتحافظ على تراثنا وقيمنا القومية، وتطوّر ثقافتنا، وتحرص على تعميم الوعي القومي والإنساني الأصيل في مختلف شرائح مجتمعنا.
وبتعبير آخر: نحن ما زلنا أمّة سهلة الاختراق، ومَواطنُ ضعفنا كثيرة، وقد قال الفيلسوف الألماني فيخته (ت 1814م): " لقد خسرنا كلَّ شيء، لكن تبقى أمامنا التربية" ( ). ونحن أيضاً فقدنا كلّ شيء، لكن تبقى أمامنا الثقافة؛ نقصد (صناعة الوعي)، إنها قلعتُنا المنيعة ضد الاختراقات، وسلاحُنا الأقوى لمواجهة مشاريع القهر والسلخ والمسخ، وطريقُنا القويم إلى تحرير كُردستان.
ومن هنا فإن (صناعة الوعي) مسؤولية قومية وإنسانية من الدرجة الأولى، وكلُّ هُوزان/مثقَّف كُردي مُلْزَمٌ أخلاقياً وقومياً وإنسانياً بأن يقوم بهذه المسؤولية قدر المستطاع، فالدفاع عن (الحرية) من أولى واجبات المثقف، وإن التخلّي عن تحرير أمّتنا ووطننا هو تخلٍّ عن إنسانيتنا. وكم كان المفكر الفرنسي جان جاك روسّو محقّاً حينما قال: " التخلّي عن الحرية هو بمثابة التخلّي عن أن تكون إنساناً"( ).
أقـدار.. وأفكـار:
في إطار هذه الرؤية القومية الإنسانية ينبغي أن ينهض الهُوزان/المثقّف الكُردي بمسؤوليته إزاء أمّته المنكوبة، وكي يُنجز تلك المسؤولية على النحو الأفضل، ويساهم في معركة التحرير مساهمةً مُجدية، ينبغي عليه القيام ما يلي:
1 – التعمّقُ في الثقافة الكُردستانية لغةً وتاريخاً وأدباً وفنّاً، وفي فهم المجتمع الكُردستاني، إن من يجهل لغة أمّته وتاريخها وآدابها وتراثها ومشكلاتها وهمومها، لا يمكن أن يُكون مثقّفاً كُردستانياً ناشطاً في مشروع التحرير.
2 – الإحاطةُ قدر المستطاع بتواريخ جيراننا الفرس والترك والعرب والأرمن والآشوريين والسريان؛ لأن المشكلة الكُردية على تماسّ مباشر معهم، ومن الضروري إدراك الرؤية التي ينطلق منها مثقفوهم وساستهم إزاء المشكلة الكُردية.
3 – تجنّبُ النزعة القوموية العنصرية، والفصلُ بين الأنظمة الفارسية والتركية والمستعربة التي تحتلّ كُردستان، والشعوبِ الفارسية والتركية والعربية، وعدمُ تحميل هذه الشعوب جريرةَ السياسات العنصرية التي مارستها أنظمة دولهم، وعدمُ الانجرار إلى السجالات العنصرية المؤسَّسة على الكراهية.
4 – الانفتاحُ على الثقافات العالمية وعلى مصادر المعرفة المتجدّدة، وترجمةُ ما هو مفيد إلى اللغة الكُردية أو الفارسية والتركية والعربية، كي يتمكّن الكُرد من معرفته والإفادة منه، وتوظيفه في معركة التحرير، وفي تحسين ظروف حياتهم.
5 – الحرصُ على نقل المعلومات الموثَّقة بدقة وحيادية، وعدمُ الانجراف مع النرجسية القوموية وتضخيمِ الذات ونشرِ الثقافة المسطَّحة الهشّة، فالمعلومة الموثَّقة هي المدخل السليم إلى المعرفة الصائبة، وإلى بناء فكر كُردستاني متقدّم.
6 – عدمُ الانزلاق إلى خلافات الأحزاب الكُردية، والحرصُ على مناقشة القضايا الخلافية بحيادية، وعدمُ إحلال الحقد محل النقد، وتقريبُ وجهات النظر بين المتخاصمين، وتجنّبُ التشهير والعبارات الجارحة في النقد، فكم تصبح صورة المثقف- كائناً مَن كان- منفِّرةً حينما يتخلّى عن اللباقة والتهذيب!
7 - تعميمُ القيم الإنسانية النبيلة في المجتمع الكُردي عامّة، فقد قال جان جاك روسّو: " لا حاجة لنا إلى أن نجعل من الإنسان فيلسوفاً قبل أن نجعل منه إنساناً"( ). ونقول: لا حاجة لنا إلى أن نجعل من الكُردي پَيشمرگه ثائراً على الاحتلال، ساعياً إلى الحرية، قبل أن نجعل منه إنساناً نبيلاً.
هكذا يكون الهُوزان (المثّقف) الكُردي أقدرَ على صناعة الوعي الكُردستاني الأصيل، والنهوضِ بمسؤولياته القومية والإنسانية، وصناعةِ تاريخه، وحبّذا أن نتأمّل معاً قول المفكّر النِّفَّري- سليل مدينة نِيپُور السومرية-: "قلْ للعارفين: كونوا مِن وراء الأقدار، فإن لم تستطيعوا فمِن وراء الأفكار"( ).
ومهما يكن فلا بدّ من تحرير كُردستان.
5 – 12 - 2013



ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.