Dr. Sozdar mîdî دراســــــــات في التاريخ الكُردي القــــــــديم ( الحلقة 25 ) الجهود الحربية الكُردية في العهد الزَّنْكي الثاني

2013-11-11

الأمّة التي تبقى بلا مرجعية ودولة تجمع شَتاتها، وتوحّد مواقفها، وتَصوغ مشروعها الوطني/القومي، وتوظّف جهودها في ذلك المشروع، تكون مجرّد أمّة خدمات تحت الطلب للأمم الأخرى، ومهما تُنجزْ من أمجاد تصبحْ أمجادها مُلكاً لتواريخ الآخرين.

وإنّ بقاء الأمّة الكُردية بلا مرجعية ودولة هو السبب الأكبر في أنها أصبحت، منذ 25 قرناً، أمّة خدمات تحت طلب الأمم المجاورة لها (الفُرس والعرب والتُرك والأرمن)، ودعونا نستكشف جزءاً من هذه الحقيقة في العهد الزنكي الثاني.
نور الدين زنكي والقوة القتالية الكُردية:
كان عماد الدين زَنكي شرساً في سلوكه، فاغتاله بعض مماليكه بسب ذلك سنة (541 هـ/1146 م) حينما كان يحاصر قلعة جَعْبَر (على ضفّة الفرات قرب الرَّقّة)، وبعد مقتله حاول معظم القادة إسناد مقاليد الأمور إلى سيف الدين غازي الابن الأكبر لعماد الدين، لكنّ الجناح الآخر من القادة، وعلى رأسهم القائدان الكُرديان نجم الدين أيّوب وأخوه أسد الدين شَيركُوه، وقفوا إلى جانب الابن الثاني نور الدين محمود، وأفلحوا في أن يصبح السلطان الجديد( ).
وانتهج نور الدين محمود زنكي (ت 569 هـ) نَهْجَ والده ضد الفرنج، فأخذ أهمّية كُردستان جغرافياً وبشرياً بالحُسبان، واستمرّ في مهاجمة حصون الفرنج في جنوب غربي كُردستان وبمحاذاتها، ومن تلك الحصون تل باشِر، وعَين تاب، وإعْزاز، وتل خالد، وقُورْس (في منطقة عِفرين بأقصى غربي كُردستان، وتسمّى قلعة النبي هُوري) وقلعة الرّاوَنْدان (في حوض نهر عِفرين، ولم نعرف مكانها بدقّة) وبُرج الرِّصاص، وحِصن البارَة، وكَفْر سُود، وكَفْر لاثا، ودُلُوك، ومَرْعَش( ).
وإن الأدلّة كثيرة على أنّ الكُرد كانوا يشكّلون قوة قتالية مهمّة في جيش نور الدين، وكانوا يباشرون الحروب بإخلاص، وحسبُنا دليلاً على ذلك أنّ نجم الدين أيّوب وأخاه شَيرْكُوه كانا من أبرز قوّاده، وهما اللذان قاما بدور كبير في الانتصارات التي حقّقها نور الدين، وقد ساعده الأخَوان نجم الدين وشيركوه في انتزاع دمشق من الحاكم السلجوقي، وكان لفتحها تأثير شديد الأهمّية على مستقبل الدولة الزنكية؛ إذ اتّخذها نور الدين عاصمة لسلطنته، وأصبحت مناطق نفوذه تتاخم مناطق نفوذ الفرنج في بلاد الشام، والأهمّ من هذا أن سيطرته على دمشق وما جاورها من بلاد الشام كان تمهيداً لبسط سيطرته بعدئذ على مصر، ووضْعِ الفرنج بين فكّي كمّاشة جيوعسكرياً( ).
جهود القائد الكُردي شيركوه:
كان نور الدين زنكي يعرف بدقّة المزايا القيادية التي يتحلّى بها أسد الدين شَيركُوه، لذلك كان يكلّفه بمهامّ تماثل مهامّ وزير الدفاع في عصرنا هذا، رغم وجود كثير من القادة التركمان البارزين في جيشه، وكان يكلّفه بالمهامّ العسكرية الخطيرة، ومن الأدلّة على ذلك تعيينُه قائداً عامّاً على الجبهة الغربية (منطقة حِمْص) في مواجهة الفرنج، وكانت أكثر الجبهات خطورة وأهمّية على الصعيد العسكري. يقول الفَتْح بن علي البُنْداري (ت 643 هـ): "ولمّا كان ثَغْرُ [= جبهة] حِمْص أخطرَ الثغـور تعيّن أسـدُ الدين لحمايته وحِفظه ورعايته، لتفرّده بجِدّه واجتهـاده وبأسـه وشجاعته"( ).
وقال عزّ الدين ابن الأثير في مكانة شَيركُوه عند نور الدين: " فقرّبه نورُ الـدين، وأَقْطَعَه [= مَنَحه الإقطاعات]، ورأى منه في حروبه ومشاهـدِه آثاراً يَعجز عنها غيرُه لشجاعـته وجرأته، فزاده إقطاعاً وقرباً، حتى صار له حِمْص والرَّحْبة وغيرهما، وجعله مُقدَّمَ عسكره"( ).
ومن الأدلّة على ثقة السلطان نور الدين بقدرات شَيركُوه أنه كلّفه بإنقاذ مصر من تهديد الفرنج أكثر من مرّة، بعد أن استنجد الخليفة الفاطمي الأخير العاضِد بالله بالسلطان نور الدين، ويعرف المختصون في الشؤون العسكرية خطورةَ دخول قائد مع عدد محدود من الجنود من سوريا إلى مصر حينذاك، بعيداً عن مراكز الإمداد والتموين وعن مركز قيادته، خاصةً أنّ مناطق النفوذ الفرنجية وقوّاتهم المتقدّمة كانت تقع حينذاك في الأردنّ (على الطريق بين مصر وسوريا)؛ قال ابن الأثير في أحداث سنة (559 هـ): "فلمّا كانت هذه السنة، وعزم نورُ الدين على إرسال العساكر إلى مصر، لم يرَ لهذا الأمر الكبير أَقْومَ ولا أشجعَ من أسد الدين، فسيّره"( ).
وظهرت شجاعة شَيركُوه في كثير من مواقفه، وكان الوزير المصري الفاطمي شاوَر قد خرج على أوامر الخليفة الفاطمي، واتفق سرّاً مع الفرنج للقضاء على شيركوه وجنوده القليلين، وقام الجيش المصري الفاطمي والجيش الفرنجي معاً بمحاصرة قوّات شيركوه في مدينة (بَلْبِيس) طوال ثلاثة أشهر، ثم اصطلح الطرفان المتقاتلان على أن يخرج شيركوه منها بجنوده، ويعود إلى بلاد الشام؛ قال أبو شامَة:
"حدّثني مَن رأى أسدَ الدين حين خرج من بَلْبِيس، قال: رأيتُه وقد أخرجَ أصحابَه بين يديه، وبقيَ آخرَهم وبيده لَتّ [= بالكُردية: لات lat] من حديد يحمي ساقَتَهم [= مؤخَّرة الجيش]، والمسلمون [= جنود الفاطميين] والفرنج ينظرون، قال: وأتاه فرنجيٌّ من الغرباء، فقال له: أما تخاف أن يَغدِر بك هؤلاء المسلمون والفرنج، وقد أحاطوا بك وبأصحابك فلا يَبقى لك معهم بقيّة؟! فقال شَيركُوه: يا ليتهم فعلوا! كنتَ ترى مـا لم تَرَ مثلَه، كنتُ والله أضـعُ سيفي فلا أُقتَل حتى أَقتُلَ رجالاً... فوالله لو أطـاعني هؤلاء - يعني أصحابَه- لخرجتُ إليكم أوّلَ يوم، لكنّهم امتنعوا. فصلّب الفرنجيُّ على وجـهه وقال: كنّا نعجب من فرنج هـذه الديار ومبالغتهم في صفتك وخوفِهم منـك، والآن قـد عذرْناهم"( ).
وفي الخبر الآتي الذي ذكره المؤرخ الكُردي ابن أبي الهَيجاء في أحداث سنة (544 هـ)، بشأن القتال بين نور الدين والفرنج في أنطاكيا، دليلٌ آخر على جهود المقاتلين الكُرد الفعّالة في حروب الدولة الزنكية ضدّ الفرنج؛ قال:
"وفيها جَمع نورُ الدين[= حَشَد جيشه]، وطلب من دمشق نَجْدة، فأرسلوا إليه الأميرَ مُجاهد الدين بُزان [= بُوزان] الكُردي، وجاء عسكرُ أخيه [= أخي نور الدين] سيف الدين غازي، وسار إلى أنطاكية، وخرج إليه البُرْنُس [= ريموند حاكم طرابلس الشام الفرنجي]، وجرت بينهما وقعةٌ عظيمة، فكسرهم نورُ الدين الكسرةَ المشهورة، وفتح حارِم، وقَتَل الفرنجَ، وكان لأسد الدين شَيركُوه في هذه الوَقعة اليدُ الطُّولى، وأبان عن شجاعة وبسالة... وكذلك مجاهدُ الدين بُزان بن مامِين مُقدَّمُ العسكر الدمشقي أبانَ عن شجاعة وبراعة"( ).
فارس كُردي يفدي السلطان بنفسه:
إنّ أحد المقاتلين الكُرد الشجعان ضحّى بنفسه؛ لينقذ السلطان نور الدين من موت محقَّق، وذلك خلال معركة جرت ضد الفرنج قرب حِمْص، ففي أحداث سنة (558 هـ) ذكر ابن الأثير الخبر الآتي:
"في هذه السنة انهزم نور الدين محمود بن زَنْكي من الفرنج تحت حِصن الأكراد [بين حِمص وطَرْطُوس، وعُرَب إلى: قلعة الحِصن]، وهي الوقعة المعروفة بالبُقَيْعَة، وسببُها أنّ نور الدين جمعَ عساكره، ودَخل بلادَ الفرنج ونزلَ في البُقَيْعة، تحت حِصن الأكراد، محاصِراً له وعازماً على قصْد طَرابلس ومحاصرتِها، فبينما الناس يوماً في خيامهم وسط النهار لم يَرُعْهم [= يفاجئهم] إلاّ ظهورُ صُلْبان الفرنج من وراء الجبل الذي عليه حِصن الأكراد، وذلك أنّ الفرنج اجتمعوا، واتّفق رأيُهم على كَبْسَة المسلمين نهاراً، فإنهم يكونون آمنين، فركبوا في وقتهم، ولم يتوقّفوا حتى يَجمعوا عساكرَهم، وساروا مُجِدّين، فلم يشعر بذلك المسلمون إلاّ وقد قَرُبوا منهم، فأرادوا مَنْعَهم فلم يُطيقوا ذلك، فأرسلوا إلى نور الدين يعرّفونه الحالَ، فرَهَقَهم الفرنجُ [= ضَيّقوا عليهم] بالحملة، فلم يَثْبُت المسلمون، وعادوا يطلبون معسكرَ المسلمين، والفرنج في ظهورهم، فوصلوا معاً إلى العسكر النُّوري، فلم يتمكّن المسلمون من ركوب الخيل وأخْذِ السلاحِ إلاّ وقد خالطوهم، فأكثروا القتلَ والأسر. وقصدوا خيمةَ نور الدين وقد ركب فيها فرسَه ونجا بنفسه، ولسرعته رَكب الفرسِ والشَّبْحَةُ [= القيد] في رجله [= الفرس]، فنزل إنسان كُردي وقَطَعَها، فنجـا نورُ الدين وقُتِل الكُردي، فأحسن نورُ الـدين إلى مُخلَّفيه ووقّف عليهم الوَقوف[= الرَّواتب]"( ).
إن ما اقتبسناه من المصادر جزء قليل ممّا ساهم به المقاتلون الكُرد في تحوّل الإمارة الزنكية إلى سلطنة قوية عظيمة الشأن في الشرق الأوسط، ولم تكن الدولة الزنكية هي وحدها التي وظّفت القدرات الحربية الكُردية في خدمة مشاريعها التوسعية، ففي القرون اللاحقة حرص كلٌّ من الصفويين والعثمانيين معاً على جذب المقاتلين الكُرد إلى جانبهم، والإفادة من مهاراتهم القتالية في غزواتهم وفتوحاتهم.
10 – 11 - 2013



ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.