(Dr. Sozdar mîdî) دراســــــــات في التاريخ الكُردي القــــــــديم ( الحلقة 24 ) الكُرد في العهد الزَّنْكي الأول

2013-11-05

وجدير بالذكر أنه قبل وصول الغزاة التركمان السلاجقة إلى غربي آسيا، وهيمنتهم على عاصمة الخلافة العباسية (بغداد) سنة (447 هـ/ 1055م) بالتنسيق مع الخليفة العبّاسي القائم بالأمر الله، كانت الدولة الدُّوسْتِكِيّة (المَروانية) الكُردية قائمة في كُردستان الشمالية وعاصمتها (مَيّافارِقِين/فارقِين)، وكانت تبسط نفوذها على أجزاء من كُردستان الوسطى وكُردستان الغربية، وقد قضى عليها السلاجقة سنة (478 هـ/1086 م)، إضافة إلى قضائهم على الحكومات الكُردية في شرق كُردستان وجنوب كُردستان.
وعلى الجزء الجنوبي الشرقي من جغرافيا الدولة الدُّوستكية قامت الدولة الزَّنْكِية التركمانية، ثمّ توسّعت في شمالي كُردستان وغربيّها، وينقسم تاريخها إلى عهدين:
- العهد الزَّنكي الأول بقيادة المؤسّس عماد الدين زَنكي.
- العهد الزَّنكي الثاني بقيادة السلطان نور الدين زَنكي.
عماد الدين زَنْكي والكُرد الأيوبيون:
كلمة "أتابَگ" تركية الأصل، مركّبة من كلمتين هما "آتا = والد" و"بَگ = أمير"، وتعني "الأمير الوالد"، وكان هذا اللقب يُطلَق في أوائل العهد السَّلجوقي على من تُوكَل إليهم تربيةُ الأمراء والقيام بشؤونهم، وتحت ستار هذه المهامّ تمكّن عدد من الأتابگة (الأمراء) ذوي الحزم والتدبير من الوصول إلى أرفع الدرجات، والسيطرة على بعض البلدان في غربي آسيا، وخاصة بعد وفاة السلطان السلجوقي مَلِكْشاه( ).
ومن أبرز هؤلاء الأتابگة آقْسُنْقُر قَسِيم الدولة، وهو من قبائل "سابْ يُو" التركمانية، ومن أتباع مَلِكشاه السَّلجوقي وأترابه في العمر، ولما أفضت السلطنة إلى مَلِكْشاه بعد أبيه أَلْب أَرْسَلان جعل آقْسُنْقُر من كبار أمرائه وأخصّ رجاله، واعتمـد عليه في المهمّـات الخطيرة، لِما رأى من شجاعته وحزمه وسَداد رأيه. وحينما اندلع الصراع بين كبار أمراء الأسرة السلجوقية الحاكمة؛ قُتل آقْسُنْقُر سنة 487 هـ في معركة قرب حلب كان يخوضها ضد تاج الدولـة تُتُشْ بن السلطان أَلْب أَرْسَلان، وقتله تاج الدولـة بعـد أن أخذه أسيراً( ).
وفي سنة 521 هـ عُيّن عماد الدين زَنكي بن آقسُنقر حاكماً على الموصل ومعظم ديار الجزيرة (بعض مناطق كُردستان في الجنوب والشمال والغرب)، الأمرُ الذي مكّنه من فرض سيطرته على بلاد الشام ومناطق الموصل وما يجاورها في كُردستان الوسطى، والاشتباك مع الكُرد في الحروب والتنكيل بهم( ).
وكان للكُرد دور كبير في صعود مكانة عماد الدين زنكي، فقد وقفوا إلى جانبه في واحدة من أكثر المواقف حرجاً، وساعدوه على النجاة بحياته وبمستقبله السياسي أيضاً، ففي سنة 526 هـ كان عماد الدين يخوض معركة في العراق ضد جيش الخليفة العبّاسي المُسترشِد بالله (قُتل عام 529 هـ) والأتابك السلجوقي قَراجَه الساقي حليف الخليفة، وحلّت الهزيمة بجيش عماد الدين، فتراجع شمالاً إلى تِكريت في طريقه إلى الموصل.
وكان دَزْدار (حاكم) قلعة تكريت حينذاك هو نجمُ الدين أيوب (والد صلاح الدين الأيوبي)، فقدّم المساعدة لعماد الدين، وأقام له الجسر فعبر نهر دجلة بسلام، وأفلت من قبضة أعدائه، ثم تبعه جنوده، فأحسن نجم الدين صحبتهم، وأرسلهم إليه؛ وقد أثار نجم الدين بذلك غضبَ السلطات في بغداد، وجازف بمستقبله السياسي، وكان موقفه هذا من أهمّ العوامل التي أدّت إلى عزله سنة 532 هـ، وإكراهه هو وأسرته وأتباعه على الرحيل من تكريت فوراً( ).
وفي الليلة التي وُلد فيها صلاح الدين الأيّوبي من العام نفسه، توجّه نجم الدين أيّوب مع أخيه وأسد الدين شَيركُوه وأتباعهما شمالاً نحو الموصل، حيث كان يحكم عماد الدين زنكي، وقد أحسن عماد الدين استقبالَهم، وكان يدرك أهمية استقطاب القوة القتالية الكُردية، فوظّفها بذكاء لتحقيق تطلّعاته التوسعية، مستعيناً بالأخوين نجم الدين وأسد الدين وبمن معهما من المقاتلين الكُرد، ومنذ ذلك الحين أصبحت المقاتلون الكُرد جزءاً أساسياً من القوات الضاربة في الجيش الزنكي، والتي وظّفها عماد الدين للسيطرة على مناطق كُردستان المجاورة لمنطقة نفوذه وعلى سوريا.
كُردستان في العهد الزَّنكي الأول:
سيطر عماد الدين زنكي- مستعيناً بالجغرافيا الكُردستانية وبالقوات الكُردية- على الأجزاء الشمالية من سوريا (حلب وحماة وحمص)، وحاصر دمشق أكثر من مرة، وكان يدرك أهمية موقع جنوبي كُردستان وشمالي كُردستان ضمن مشروعه التوسّعي وصراعه على بلاد الشام ضد الفرنجة، قال عِزّ الدين ابن الأثير (أصله من جزيرة بُوتان/جزيرة ابن عُمر) في أحداث سنة 528 هـ: " في هذه السنة استولى عماد الدين زَنكي على جميع قلاع الأكراد الحَمِيدية، منها قلعة العَقْر وقلعة شُوش وغيرهما"( ).
وقال ابن الأثير في أحداث سنة 534 هـ: " في هذه السنة مَلَكَ أتابك زَنكي شَهْرَزُورَ وأعمالَها وما يجاورها من الحصون"( ).
وكان الفرنجة (الصليبيون) يسيطرون حينذاك على مواقع هامّة من بلدان شرقي البحر الأبيض المتوسط، وكانت مناطق نفوذهم تمتد على شكل قوس من ماردين شرقاً في شمالي كُردستان، إلى أنطاكيا غرباً على البحر الأبيض المتوسط، وإلى سواحل سوريا ولبنان وفلسطين حتى العَرِيش في مصر جنوباً، وكانوا يغزون دياربكر ونِصيبين ورأس العين والرَّقّة وحَرّان، ويصلون إلى أبواب مدينة حلب، ويتقاسمون مع الحكام السلاجقة ما تُدرّه المناطق التابعة لحلب من خيرات( ).
وفي سنة 537 هـ سار عمـاد الدين زنكي بجيشه إلى مَواطن الكُرد الهَكّارية الواقعة في كُردستان الوسطى في شمالي الموصل، فحاصر قلعة أَشْب، وكانت من أكثر قلاع قلاع الكُرد مناعة، فاستولى عليها وخرّبها، وأمر ببناء قلعة العِمادية بدلاً منها، وسمّاها العِمادية نسبة إلى لقبه( ).
وقال عِزّ الدين ابن الأثير في أحداث سنة 538 هـ: " وفي هذه السنة سار أتابك زَنكي إلى ديار بكر، ففتح منها عدّةَ بلاد وحصون، فمن ذلك: مدينة طَنْزَة، ومدينة سِعِرْد، ومدينة حِيزان، وحِصن الرُّوق، وحِصن قَطْليس، وحِصن ناتاسا، وحِصن ذي القَرْنَين، وغير ذلك ممّا لم يبلغ شهرة هذه الأماكن، وأخذ أيضاً من بلد ماردين ممّا هو بيد الفرنج: حَمْلِين، والمُوزَّر، وتل مَوْزَن وغيرها من حصون جُوسْلِين [= أحد حكّام الفرنج]، ورتّب أمور الجميع، وجعل فيها من الأجناد من يحفظها، وقصد مدينة آمَد وحاني فحاصرهما، وأقام بتلك الناحية مُصلحاً لما فتحه، وحاصراً لِما لم يفتحه"( ).
وفي إطار التوجّه العام للصراع ضد قوات الفرنج، واسترداد الأرض التي كانوا قد احتلّوها، عزم عماد الدين على انتهاج خطّة هجومية مُحْكَمة، قال عزّ الدين ابن الأثير في أحداث سنة 539 هـ: " في هذه السنة، سادس جُمادى الآخرة، فتح أتابَك عماد الدين زنكي بن آقْسُنقُر مدينةَ الرُّها من الفرنج، وفتح غيرَها من حصونهم بالجزيرة أيضاً، وكان ضررُهم قد عمّ بلادَ الجزيرة، وشرُّهم قد استطار فيها، ووصلت غاراتُهم إلى أدانيها وأقاصيها، وبلغت آمَد ونِصيبين ورأس عين والرَّقّة"( ).
و قال ابن أبي الهَيْجاء (من كُرد شمالي كُردستان) في أحداث سنة 541 هـ: "وفيها أرسل الشهيد عماد الدين زنكي عسكراً كبيراً، وحاصر قلعة فَنَك المطلّة على الشطّ قريب جزيرة ابن عُمر[= جزيرة بُوتان]، وهي قلعة منيعة للغاية، وأصحابها الأكرادُ البَشْنَويّة، وهي بيدهم من مدّة ثلاثمئة سنة، فلم يزالوا يحاصرونها إلى أن قُتل الشهيدُ [= زنكي] بقلعة جَعْبَر، فرحلوا عنها"( ).
وجملة القول أن غزاة كُردستان- بما فيهم الزنكيون- ما كانوا يكتفون بتوظيف الجغرافيا الكُردستانية، وثروات كُردستان الاقتصادية، لتحقيق مشاريعهم التوسّعية، وإنما كانوا يحرصون أيضاً على توظيف القدرات القتالية الكُردية في الاتجاه ذاته، وسنرى لاحقاً أن السلطان نور الدين محمود زنكي سار على خُطا والده عماد الدين في هذا المجال، واستعان بالكُرد- مقاتلين وعلماء- لتأسيس سلطنة شاسعة وقوية تمتدّ من كُردستان المركزية، ومروراً بسوريا، إلى مصر ضمناً.
الدراسة مقتبسة من كتابنا (تاريخ الكُرد في الحضارة الإسلامية) مع إضافات.
5 – 11 - 2013
المراجع:



ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.