(Dr.Sozdar Mîdî) دراســــــــات في التاريخ الكُردي القــــــــديم ( الحلقة 21 ) الكُرد والإمــارة الحَمْدانية

2013-09-23

 في الوقت الذي برز فـيه البُوَيْهِيون المحسوبون من الفُرس للوقوف في وجه العسكر الأتراك المهيمنين على دار الخلافة، برزت الأسرة الحَمْدانية من العنصر العربي، والمشهور أنها تنتسب إلى قبيلة تَغْلِب العربية العريقة، غير أنّ الهَمْداني (ت بعد 344 هـ) يقول: "نِصِيبين موضعُ العقارب، وهي دار حَمدان بن حَمْدون موالي تَغْلِب" . وذكر ابن خلدون نقلاً عن ابن حَزْم الظاهري (ت 456 هـ) أنهم موالي بني أسد ؛ وهكذا فثمة خلاف في نسب بني حمدان العربي.  

الكُرد والحمدانيون (وئــام وخصــام):
ومهما يكن فقد كانت بين الحَمْدانيين والكُرد علاقة جِوار ومصاهرة؛ فأمهات وزوجات بعض أمراء بني حَمْدان المشاهير كنّ كُرديات، ومنهن أمّ أبي الهَيْجاء عبد الله بن حَمْدان والد سيف الدولة، وحين أعلن أبو الهيجاء العصيان في الموصل سنة (301 هـ) كان بعض أخواله الكُرد يؤيّدونه، وكانت زوجة ناصر الدولة بن حـمدان كُردية أيضاً، وتدعى فاطـمة بنت أحمد الكُردية، وهي أمّ أبي تَغْلِب الحمداني . 
وكانت أمّ سيف الدولة –أمير حلب وأشهر أمراء بني حمدان- كُردية، ويبدو أنه تزوّج امرأة كُردية، فكان منها ابنه سَعد الدولة الذي تسلّم الإمارة بعده؛ إذ في خضمّ الصراع بين سعد الدولة وقَرَعَوَيْه (غلام أبيه، وفي رواية: قَرْغَوَيه) التجأ سعد الدولة إلى والدته المقيمة في مدينة مَيّافارِقين الكُردستانية .
وقد تنبّه كلٌّ من البُويهيين والحَمْدانيين إلى أهمية السيطرة على كُردستان، وكثيراً ما تصارعا لهذا الغرض، وكان الحمدانيون في البداية ولاة على بعض مناطق جنوبي كُردستان وشماليها من قِبل الخليفة العبّاسي في بغداد، لكنهم استقلّوا بالسلطة إلى حدٍّ ما عن دار الخلافة بعد أن تغلّب عليها البُوَيهيون، وتجدّدَ الصراع بين العناصر العربية والفارسية.
وفي سنة (303 هـ) أعلن الحسين بن حَمْدان، أخو أبي الهَيْجاء، العصيانَ على الخلافة العباسية، ودارت عدة معارك بين الفريقين، وكان جيش الحسين بن حمدان مكوَّناً من الأعراب والكُرد، وكانت الموصل هي الموقع الأكثر أهمية في الصراع بين الحَمْدانيين والبُويهيين، وكان الكُرد هم الغالبية فيها وفي النواحي التابعة لها .
وفي سنة (293 هـ) ثار الكُرد الهَذْبانية في جنوبي كُردستان على أبي الهَيْجاء عبد الله بن حَمْدان بن حمدون التَّغْلِبي، والي الخليفة العباسي المُكْتَفي بالله (ت 295 هـ) على الموصل، وكان قائد الكُرد هو محمد بن بلال، واعتصم الكُرد بالجبل المشرف على مدينة شَهْرَزُور، وعجز أبو الهَيْجاء عن إخضاعهم، لكنه وُفّق إلى ذلك أخيراً بفضل النجدات التي أمدّه الخليفة بها، واستسلم محمد بن بلال، وتتابع الكُرد الحَمِيدية في طلب الأمان، وكذلك فعل كُرد جبل داسِن الواقع في منطقة دَهُوك في كُردستان الجنوبية .
وفي سنة (314 هـ) ثار الكُرد الجَلالية بمناطق شَهْرَزُور، متعاونين مع بعض القبائل العربية في مناطق الموصل، وكان أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان والياً على الموصل، فسار إليهم و"قاتلهم، وانضاف إليهم غيرُهم، فاشتدّت شوكتُهم، ثم إنهم انقادوا إليه لِما رأوا من قوّته" .
وكان أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان قد شارك في خلع الخليفة المُقتدِر بالله، والبيعة للخليفة القاهر بالله، وقُتل أبو الهيجاء حين ثار الجند على الخليفة القاهر بالله وخلعوه أول مرة سنة (317 هـ)، وخلال هذه الحرب الداخلية عجزت الثغور (الجبهة) الجَزَرية عن ردّ هجمات البيزنطيين، ومنها مَلَطْيَة وآمَد ومِيّافارِقين وأَرْزَن، وطلب أهلها المساعدة من بغداد، ولما خاب أملهم في وصول المساعدة اضطروا إلى مسالمة ملك الروم، وسلّموا إليه مدنهم . 
وأسند الخليفة المُقتدِر بالله إلى الأمير الحمداني ناصر الدولة بن أبي الهيجاء الولاية على كلٍّ من نِصيبين وسِنْجار وخابور ورأس العين، وعلى مَيّافارِقين وأَرْزَن الروم (قاليقَلا) من ديار بكر؛ وهي جميعها مناطق كُردستانية .
الكُرد والصراع الحمْداني- البيزنطي:
وبعد أن استقلّ الحمدانيون بالحكم في الموصل وشمالي سوريا، وبسطوا نفوذهم على مناطق واسعة من شمالي كُردستان (في شرقي تركيا حالياً)، اضطروا إلى الدخول في صراع مرير وطويل ضد الروم، وأبرز من قاد هذا الصراع من الحمدانيين هو الأمير سيف الدولة الحَمْداني.
وصحيح أنّ سيف الدولة الحمداني اتّخذ حلب عاصمة لإمارته، إلاّ أنه كان ينظر إلى شمالي كُردستان باعتبارها العمق الإستراتيجي له جغرافياً وبشرياً واقتصادياً، ثم لا ننسى أنّ أمه كانت كُردية كما سبق القول، وكانت له صلات وثيقة بأخواله الكُرد، فقد ولد سنة (303 هـ) في مدينة مَيّافارِقين الكُردستانية، ولمّا توفّي بحلب نُقل جثمانه إلى مَيّافارِقين ودفن فيها، وهذا دليل على ارتباطه الشديد بكُردستان .
وظلّت أرض كُردستان منطقة صراع عسكري محموم بين الحمدانيين والروم بعد وفاة سيف الدولة، واستفحل عدوان الروم على المنطقة الكُردية بعد أن ضعفت قوة الحمدانيين. وذكر ابن الأثير في أحداث سنة (361 هـ)الخبر التالي:
"أغار ملكُ الروم على الرُّها ونواحيها، وسار في ديار الجزيرة حتى بلغوا نِصِيبين، فغنموا وسبَوا وأحرقوا وخرّبوا البلاد، وفعلوا مثل ذلك بدياربكر، ولم يكن من أبي تَغْلِب بن ناصر الدولة بن عبد الله بن حَمْدان في ذلك حركةٌ ولا سعيٌ في دفعه، لكنه حمل إليه مالاً كفّه به عن نفسه...
فسار جماعة من أهالي تلك البلاد إلى بغداد مُستنفِرين، وقاموا في الجوامع والمشاهد، واستنفروا المسلمين، وذكروا ما فعله الروم من النهب والقتل والأسر والسَّبْي، فاستعظمه الناس، وخوَّفهم أهلُ الجزيرة من انفتاح الطريق وطمعِ الروم، وأنهم لا مانع لهم عندهم، فاجتمع معهم أهلُ بغداذ، وقصدوا دار الخليفة الطائع لله، وأرادوا الهجوم عليه، فمُنعوا من ذلك، وأُغلِقت الأبواب، فأَسمعوا ما يَقْبُح ذِكرُه" .
وذكر ابن الأثير في أحداث سنة (362 هـ) معركةً حصلت بين هِبَة الله بن ناصر الدولة بن حمدان وبين القائد البيزنطي المعروف باسم الدُّمُسْتُق في ناحية مَيّافارِقين، بسبب الغزو الذي شنّه الدُّمُسْتُق على بلاد المسلمين، ونهب ديار رَبِيعة وديار بكر، وأخذ المسلمون الدُّمُستق أسيراً . 
إنّ هذه الأخبار- وغيرها كثير- لا تدع مجالاً للشك في أنّ كُردستان كانت تمثّل موقعاً إستراتيجياً مهمّاً بالنسبة إلى عاصمة الخلافة بغداد، حتى إنّ عامة الناس في بغداد كانوا يدركون العواقب الوخيمة التي ستنجم عن سيطرة الروم على شمالي كُردستان، ولذا ثاروا وهاجموا دار الخلافة لتقاعس الخليفة الطائع لله وبطانته عن تدارك الأمر.
ومن المواقف التي تدلّ على استبسال الكُرد للدفاع عن ديار المسلمين خبرٌ أورده ابن أبي الهيجاء في تاريخه، وهو الآتي:
في سنة (387 هـ) هاجم الدُّوقِس عظيمُ الروم بلادَ الشام في عسكر جرّار، فوصل إلى منطقة حِمْص، وكانت بلاد الشام تابعة للخليفة الفاطمي في مصر الحاكم بأمر الله (ت 411 هـ) ونزل على حِصن أَفامْيا، وحاصر الحِصن، حتى أكل أهلها الجِيَفَ والكلاب، فخرج إليهم جند طرابلس والمتطوّعة من عامتهم، ونزلوا بإزاء الروم، وبينهم نهر العاصي، فحمل الروم على القلب فكسروه، وانهزمت الميسرة ولحقتها الميمنة، وركب الروم المسلمين، وقتلوا منهم ألفي رجل، واستولوا على سلاحـهم وخيولهم، وأيقن أهل أفاميا بالهلاك.
وكان ملك الروم (الدُّوقِس) قد وقف على رابية تطلّ على ميدان المعركة، وبين يديه ولدان له وعشرة نفر من غلمانه، ليشاهد ظَفَر عسكره، فقصده كُردي يعرف بأبي الحَجَر أحمد بن الضحّاك السليل على فرس جواد، وعليه كَزاغَنْدَه (درع) وخوذة، وبيده اليمنى خِشْت (حديدة حادّة)، وباليسرى العنان وخِشْت آخر، فظنّه الدُّوقس مستأمِناً له ومستجيراً به، فلم يَحفِل به ولا تَحرَّز منه، فلما دنا منه حمل علـيه، والدُّوقس متحصِّن بدرعه، وضربه بالخِشت فقتله، وصاح بالمسلمين: قُتل عـدوُّ الله! فرجع المسلمون، ونزل من كان في الحِصن فأعانوهـم، وانتصر المسلمون على الروم فقتلوهم وأسروهم، وبات المسلمون غانمين مسرورين .
24 – 9 - 2013
 


ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.