د . بهاء الدين عبد الرحمن : إطْلالةُ التاريخ مِنْ أَطْلالِ كُردستان

أَمِنْ تذَّكُــرِ أيامِ الهــــــــــــوى الأُوَلِ * * * عَيْناكَ ذرَّفَتـــــــــا دمًا مِنَ المُقَـــــــــلِ

وأبْدَتا ما انطوى في القلبِ مِنْ مِقَـةٍ * * * فَصِرْتَ تمشي على شَــــوكٍ مِنَ الوَجَلِ
وكيف تَقْوَى على كَتْمِ الهوى زَمَنًــا * * * والقَلْـــــبُ مَرْمَى سِهَامِ الأَعْيُنِ النُّجُــــلِ
ورُبَّ خافيةٍ في القلــــــبِ باحَ بهـــا * * * همس المُحِبّ ســـرى مِنْ رِقَّةِ الغَــــزِلِ
فأَلْهَبَتْ حَسَدَ الواشينَ وانتشــــرت * * * في القوم دعْوى عدوٍّ حاســـــــدٍ عَذِلِ
فعَكّرَتْ سَلْسَلاً من وصلِ أمنيـــــــةٍ * * * وخَيَّبَتْ للهــــــوى ما كانَ مِنْ أَمَـــــلِ
وذاقَ صاحبُها ما اشْتَارَ من صَبِــــــرٍ * * * وَكانَ مُشْتارُه المَرْجُـــــــوُّ مِنْ عَسَـــلِ
يا عاذلي لا تَلُمْ إن الهَــــوَى جَزَري (1) * * * وإنني في الهوى عَنْكُم لَفي شُغُلِ
أمْ هَلْ جَرَى كالنّجيعِ الدمعُ من مِحَنٍ * * * في أَرْضِ دِجْلَــــــةَ مِــــنْ ذيَّالِكَ الدَّجِلِ
رامَ الأســـــــــودَ فلمّـا عادَ مُنْهَــزمًا * * * صَبَّ السُّمومَ سُمومَ الحقـــد والخَبَـلِ
وخاضَ أجنادُه العــادونَ معْمَعَـــــــةً * * * للبغي أَلْهَبَها نَفْخـــــــاتُ مُنْخَــــــــذِلِ
قالوا انتصــارٌ لَعَمـــري تلك كاذبـــةٌ * * * وتِلْكَ نائِلَــــةُ الأَوْشَــــــابِ والسِّــــــفَلِ
قَتْلُ النّساءِ وقَتْـلُ الطِّفْلِ مَفْخَـــــرةٌ * * * كَذاكَ يَحْسَبُها السَّــــاعُون في الغِيَــلِ
سَكْرى الدِّماءِ دِماءُ الطِّفْلِ تُسْكِرُهم * * * ولَحْمُهـــــم عنْدَهُم مِنْ أفْضَــــلِ الأُكُلِ
سَقَاهُم مِنْ صَديدِ الكُفْرِ (عَفْلَقُهُم) * * * فأصْبَحوا كالقــــــذى في النّاسِ والدُّمَل
نامُوا السنينَ على ضَيْمِ العِدا وبَغَوا * * * واتخــــــذوا أرضـــــنا ملهــــى لمُقْتَتَلِ
والنّاسُ مِـــنْ حوْلِهِــمْ ما بَيْنَ متَّجِرٍ * * * وغارِقٍ في الدُّنا يَرْعَى مَعَ الهَمَـــــــلِ
إذا أَلَمَّتْ بإخْــــــــــوانٍ لهُ الكُــــرَبُ * * * يقولُ لا ناقَتي فيــــــــــها ولا جَمَـــــلي
ومَا دَرَى أنَّ صَـــرْفَ الدَّهْـــرِ في غِيَرٍ * * * ورُبَّما اخْتَرَمَ السَّــــــاهِي عَلَى عَجَــلِ
أو مُقْعَدٍ شُلَّ مِنْ جُبْنٍ ومِنْ هَلَــــــعٍ * * * ونَكَّسَ الرأْسَ في مُسْـــــتَنْقعِ الفَشَلِ
ما هَمُّـــــهُ غيْـــــرَ أنْ يَبْتَاعَ مَأْمَنَــــهُ * * * يَشْـــــــري الكُنوزَ ويعطــو كلَّ مُبْتَذَلِ
ياَ وَيْحَهُمْ أسْلَموني للعِدا ورَضُــــــــوا * * * مِنْ نُصْرتي بامْتِداحِ الغاشِــــمِ الوَكِلِ
ما كنْتُ أُسْلِمُهُمْ يومًا وما عَرَفُــــــــوا * * * منّي ســـوى جَلَدٍ في الحادِثِ الجَلَلَ
يا رَاتِعًا في الحِمَى يَرْعَى على وَضَمٍ * * * لَقَدْ بَشِمْتَ وحانَتْ ســـــــاعةُ الأجَلِ
رُمْتَ الفَناءَ لِشَعْبٍ في العُلا عَلَـــمٍ * * * ومَنْ يُطيـــــــــــقُ؟ فَدَعْ إزالةَ الجَبَــــلِ
يا عابِرًا أرْضَ كُرْدستانَ في عَجَـــــلٍ * * * امْكُــــثْ قليلاً وسِرْ فيهـــــا على مَهَلِ
وارْجِع إلى الماضي فالماضي لَهُ عِبَرٌ * * * واسْأَل إذا جِئْتَني وَقِفْ على الطَّــــلَلِ
هناكَ تَلْقَى سُطُورَ المَجْدِ شاخِصَةً * * * تَقُولُ هأنَــــــــذا فَاقْرَأْ لِتَشْــــــهَدَ لي
واسْمَعْ لِقَوْلي فإنّي اليَوْم أُعْلِنُــــها * * * ولا تَلُمْ كَبِـــــــــــــدًا حَرّى ولا تَمِـــــلِ
واحْكُم بِعَدْلٍ إذا قالَ الوُشـــــــاةُ ولا * * * تَسْمَعْ لمَنْ يُتْبِــعُ التخْليـــــــطَ بالخَطَلِ
هـــــــــذي بلادي فلا تُنْكِرْ حضارَتها * * * بِذاكَ يَشْـــــــهَدُ ليْ التـــــاريخُ لمْ يَزَلِ
مَرَابِعِي الخُضْـــــرُ جَنَّاتٌ مُعَلَّقَــــــةٌ * * * فيها المَها رُتَّعٌ والأُسْــدُ في الجَبَـــــــــلِ
تِبْرٌ تُرابي، نَمـــــــــــــيرٌ ماءُ أَوْدِيَتي * * * والثَّلْجُ في قِمَمي مِنْ أَجْمَــــــلِ الحُلَلِ
هذي جِبالي قلاعُ الشَّرْقِ كَمْ قَصَمَتْ * * * ظَهْرَ الغُـــــزاةِ فَما نالوا سِــــوى الثَّلَلِ
كم اكْتَسَتْ حُلَلاً حَمْراءَ مِنْ دَمِهِمْ * * * وأَلْبَسَـــــتْهُمْ ثيــــابَ العـــــــــارِ والثَّكَلِ
فَبَلِّغَــــــنْ خَــــــبَري لكُلِّ مُعْتَـــبِرٍ * * * أنَّ العِدا رَجَعُوا بِالخِــــــــــــــزْيِ والخَبَــلِ
لكنّهم زَوَّرُوا التاريخَ واخْتَلَقُـــــــــوا * * * حَوْلي الدَّعـــــاوى وإِفْكًا مِنْ جَنى الذَّحَلِ
حتّى نُسِيتُ فمَا عادَتْ صَحَائِفُهُ * * * إلا رؤىً خالَطَــــــــــــــتْ أهْـــــــــواءَ مُنْتَحِلِ
كأَنَّني لَمْ أَقُمْ يومًا بِمَكْرُمَــــــــةٍ * * * وَما عَدَتْ فَرَسِي في الصُّبْــحِ والأُصُــــــلِ
وَلَمْ تَكُنْ بابِلٌ عَرْشًا لِمَمْلَكَتي * * * وَلَمْ أُزِلْ نَيْنَوى عَنْ سَــــــــــاحةِ الـــــــدُّوَلِ
وَلَمْ تَكُنْ فارِسٌ تَعُنــــــو لأَلْوِيتي * * * وَلَمْ أَصُنْ دَوْلَتي عَنْ وَصْمَةِ الدَّخَـــــــلِ(2)
لا تَحْسَبُوا أنّني في ذاك مُفْتَخِرٌ * * * فَنَتْنُها(3) الدَّهْــــــرَ لا يَأتيـــــــكَ مِنْ قِبَلي
وَمَنْ تَعَـــزَّى لِفَخْــــرٍ كادَ يُهْلِكُهُ * * * ذاكَ التَّعَزي فَدَعْ جَهـــــالَةَ الجَهِـــــــــــلِ
لكنَّها دَعْوَةٌ للحقِّ أرْفَعُــــــــــــها * * * لِمَنْ بِهِ صَمَمٌ أو يِشْــــــــكُو مِنْ ثِقَــــــلِِ
وَقَدْ أُداوي عُيونًا لا تَرى وَضَـــــحًا * * * دواؤهَا في مَثَـــــــــارِ النَّقْعِ لا الكُحُـــــلِ
ثُمَّ انْتَهى زَمَنٌ وجاءني زَمَـــــــنٌ * * * وأَصْبَــــــــــحَتْ مُدُني مَهْجُورةَ السُّــــبُلِ
لكِنَّ قافِلَةَ الأخْــلاقِ ما بَرِحَــــتْ * * * تَجُوبُ في كَنَفـــــــــي في كامِلِ الثَّقَـــلِ
وَجَاءَني بِالهُدى فِرســـــانُ أَلْوِيةٍ * * * فَشَعْشَعَتْ أمَـــــــــلاً ما كانَ مِنْ مِـــلَلي
وَأَصْبَحُوا والنَّدى يَغْشَى مَرابِعُهمْ * * * وَأُبْدِلوا بالجَفـــــــــــافِ نِعْمَـــــــــةَ البَلَلِ
فَأَوْرَقَتْ في الفَلا أغْصــــانُ عاريةٍ * * * وَقَدْ جَرَى الماءُ في نَبَاتيَ الخَضِــــــــــــلِ
دعانيَ العادِلُ الفاروقُ فارْتَعَشَـتْ * * * كَوامِنُ الشَّوْقِ نَحْوَ الحَـــــــقِّ في حُلَلي
إنّي بَرِِئْتُ مِنَ الأصْنامِ وارْتَفَعَــــــتْ * * * في ســـــــــاحتي رايَةٌ للحَقِّ لَمْ تَــدُلِ
وانْداحَ في داخلي صَوْتُ الضِّياءِ رُؤىً * * * هَدِيرُ أمْواجِــــــها: هيا إلى العَـــــمَلِ
وَانْزَاحَ عَنْ كاهِلِي مَا كانَ يُرْهِقُـــهُ * * * وانْجابَ عَنْ ناظـــــــري ما كانَ مِنْ ظُلَلِ
أَبْصَرْتُ نورَ الرّسولِ ساطِعًا فَسَرَتْ * * * روحي إلى مَنْبَـــــــعٍٍ للنُّـــورِ مُكَتَــــمِلِ
وَلَمْ أزل أَقْبِسِ الأنْوارَ في شَـــغَفٍ * * * حتى بَرِئْتُ مِنَ الأسْــقَامِ وَالعِــــــــــلَلِ
أرْضي ثِمالُ الضَّعيفِ المُرتَجي مَدَدًا * * * وَمُلْتَقى الفـــكْرِ والآدابِ والمُـــــــثُلِ
كَمْ قَدَّمَتْ لِبَني العَبّاسِ مِنْ عُدَدٍ * * * وَكَـــمْ بَنَتْ لِبَني الزَّهْــــــراءِ مِنْ نُــــزُلِ
هذا أبو مُسْلِمٍ قد خاض مَلْحَمَـــةً * * * ليَبْتَني دَوْلَةَ العَبّــــاسِ بِالأَسَـــــــــلِ
أَبَا دُلامَةَ لَيْسَ الغَدْرُ مِنْ شِـــيَمي * * * فاسْـــــــــأَلْ أبَا جَعْفَرٍ يُنْبِيكَ عَنْ مُثُلي(4)
كانَ الجَزَاءُ عَنِ الإخْــلاصِ أَنْ وُئِدَتْ * * * مَآثِري فَبَـــــــــــدَتْ قَطْرًا مِنَ الوَشَلِ
هذي مَيَا فارِقِينٍ في العُلا سَمَقَتْ * * * فاسْأَلْ مُؤَرِّخَها(5) عَنْ مَجْــــدِها الأَثِلِ
واسْأَلْهُ عَنْ آمِدٍ تَجِدْ بها سُـــــرُجًا * * * وفي الجزِيرةِ(6) حَيْثُ العِلْمُ فاشْتَغِلِ
في شَهْرَزورَ وفي الرّيِّ لَنَـــا كُتُبٌ * * * كَذاكَ بَدْليسُ فاسْــــأَلْ حَبْرَها(7) وَقُلِ
أَخْرِجْ لنا ما تَرَى في أمَّةٍ نُسِــيَتْ * * * مِنَ الكُنــــــــــوزِ التي غارَتْ فَلَــــمْ تُنَلِ
حَسْبي الذي أَشْهَدَ الإفْرَنْجَ مَأسَدَةً * * * عَنَا الصَّـــــــــلِيبُ بها لِباتِر البَطَــــلِ
رَمْزُ البُطـــــولةِ في التاريخِ جَوْنَتُها * * * رَأْدَ الضُّحَى لَمْ تَشُــــبْها صُفْرَةُ الطَّفَلِ
الناصِرُ الباهِرُ المَيْمُــــــــونُ طائِرُهُ * * * صَــــلاحُ أمَّتِـــنَا وَمَضْـــــــرِبُ المَــــــثَلِ
سَطَّرْتَ ملْحَمَةً للنَّصْرِ باهِــــــرَةً * * * فَالقُدْسُ مِنْ بَعْدِها تَخْتَـــــالُ في الرِّفَلِ
بعد الصلاح توالت ألْفُ ملحمـــــةٍ * * * شـــــــرقًا وغربًا ونَبْني المجــــدَ للدُّوَلِ
لكنَّ أَلويةَ الصلبانِ ما نَسِــــــــــيَتْ * * * مَا كان للكُــــــــرْدِ في أيَّامِـــها الأُوَلِ
عادوا فغالوا سُمُوَّ الشرْقِ واقتسموا * * * بلادَنــــــــــا وبَغَوْا في لِبْسِ مختتِــلِ
فصار للكرد أوطــــــانٌ مُقَسَّـــــــمَةٌ * * * والكُرْدُ فيها سَليبـُو الحَـــــوْلِ والطِّوَلِ
وسلَّطُوا التُرْكَ والأعْــرابَ كلَّهُــــــمُ * * * والفُرْسَ أَغْــرَوْا لكيما يقتلوا أمـــــــلي
يا إخْوَتي مِنْ شَبابِ العُرْبِ والعَجَمِ * * * هَاتُوا الأَيادي فَأنْتُمْ مَعْــــــــــقِدُ الأَمَلِ
لِنَبْتَني دَوْلةَ الإسلامِ شــــــامِخَـةً * * * بِالعِلْمِ نَرْفَعُــــها بِالجِــــــدِّ والعَــــمَلِ
وَنَقْتَفي أَثَرَ الماضِـــينَ قائِــــدُنــــا * * * مُحَمَّــــــــدٌ خِيرةُ الهادينَ وَالرُّسُـــــلِ
صَلّى الإلهُ عليـــــه دائمًا أبــــــدًا * * * وأَرْقَأَ الدَّمْــــــــعَ مِنْ هَــتَّانَـــةِ المُقَـــلِ
 
* * *
...............................
(1) نسبة إلى جزيرة بوتان (جزيرة ابن عمر) وفيها جرت أحداث حبٍّ عفيف طاهر بين مم وزين، حيث صاغ قصة هذا الحب شعرًا شاعر الكورد الكبير ملا أحمد خاني، ونقلها إلى العربية نثرًا الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.
(2) يرجع أصل الشعب الكوردي إلى الشعوب التي سكنت جبال زاغروس، وهي الشعب الجودي (الجوتي) والكاسي والميدي، فالجوديون حكموا بابل 125 سنة وكان نهاية ملكهم فيها سنة (2282) ق. م، واستولى الكاسيون على بابل سنة (1760) ق. م وأسسوا مملكة كبيرة باسم (كاردونياش) انتهت سنة (1207) ق. م والميديون قضوا على الدولة الآشورية وكانت فارس تحت سلطانهم إلى أن استطاع حاكمها (كورش) القضاء على الدولة الميدية (خلاصة تاريخ الكرد وكردستان 2/ 1 – 28).
(3) أعني نتن العصبية القومية.
(4) يقول أبو دلامة في أبي مسلم الخراساني:
أفي دولة المنصور حاولت غدره ألا إن أهل الغدر آباؤك الكُرْدُ
والمعروف أن أبا جعفر المنصور قَتَلَ أبا مسلم غدرًا، ولستُ هنا بصدد مدح أبي مسلم فهو من هو في البطش والجبروت، وهو في نظري نظير الحجاج في الدولة الأموية، فكما أن الحجاج أرسى سلطان بني أمية في العراق ببطشه كذلك أرسى أبو مسلم سلطان العباسيين.
(5) هو أحمد بن يوسف بن علي الأزرق صاحب تاريخ ميافارقين وآمد.
(6) جزيرة بوتان (جزيرة ابن عمر).
(7) أعني به البدليسي صاحب شرف نامه (تاريخ الدول والولايات الكردية).
 
الرياض في يوم الجمعة الرابع عشر من جمادى الأولى سنة 1409هـ


ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.