مشكلة الطغيان

2006-04-23

مشكلة الطغيانبقلم صبحي درويشالطغيان مشكلة إنسانية مختبئة في نفس كل إنسان.لا يختلف في هذا الأوربي أو الأمريكي عن أي إنسان آخر.وكل إنسان يطغى أن رآه استغنى.إن الطغيان حليف الغنى. فهذا ناموس اجتماعي عام . يقول المؤرخ العالمي ويلز عن الطاغية نيرون: «إن الذين يحكمون على نيرون بأنه كان من طبيعة غير طبيعتهم، يجب عليهم أن يدرسوا نفسيتهم أولا وما يساورها من أفكار خبيثة». إن كل واحد منا هو نيرون على وجه من الوجوه ولو كنا في نفس ظروف نيرون لكنا مثله .فقد كان نيرون محاطا بزمرة من الجلاوزة والجلادين يأتمرون بأمره ويبررون ما يفعل.وكل فكرة  كانت تخطر في ذهنه يرى حوله من ينفذها ويؤيدها.إن نيرون يختلف عنا فهو كان يشتهي ويحقق شهوته، وأما نحن فنشتهي ولا نقدر على تحقيق ما نشتهي...إن الظالم لا يستطيع أن يظلم أو يطغى لأنه يرغب فقط. انه يطغى عندما لا يرى من يمنعه من الطغيان لهذا لا تقع مسؤولية الظلم على عاتقه وحده إنما تقع على عاتق الذين أعطوه المفتاح وسهلوا له فتح الأبواب. والمستكبِر هو الوجه الآخر للمستضَعف بتعبير (القرآن). ومن مرض بالاستكبار حمل بذرة الاستضعاف في أعماقه. وكل من المستكبر والمستضعف من فصيلة واحدة. ويوم القيامة يلعن بعضهم بعضا. والصورة الملونة أصلها أسود. وجايكل وهايد شخصيتان متناقضتان اجتمعتا في رجل واحد. إن الشعوب هي التي تصنع الطواغيت كما تصنع خلية النحل ملكتها من أصغر العاملات. والاستعمار يأتي بسبب القابلية للاستعمار. ومن وضع يده على مفاتيح القوة تغيرت تصرفاته كليا. فالسلطة تفسد الإنسان مهما كان ودان. يرى برتراند راسل الفيلسوف البريطاني في كتابه (السلطة The Power) أن كل واحد منا لا مانع لديه أن يصبح أحد آلهة الأولمب. وأكد هذه الحقيقة أبو حامد الغزالي فاعتبر «أن أعظم اللذائذ الحكم». وأن «آخر ما يخرج من قلوب الصالحين متعة الألوهية». ويقول المثل الانكليزي:« إذا أردت أن تعرف حقيقة إنسان فأعطه مالا أو سلطة». وفي المثل العربي يا حبذا الإمارة ولو كانت على الحجارة. إن السلطة المطلقة والغنى الفاحش يفتحان جميع أبواب الرغبات والملذات للإنسان. وكل إنسان خير وشرير في نفس الوقت.وأكثر الناس يعتقدون أن الإنسان يفكر أولا ثم يندفع في عمل من الأعمال والواقع أنه يندفع أولا ثم يفكر كما يقول (علي الوردي)  عالم الاجتماع المعروف في كتابه (وعاظ السلاطين).ويرى أن الإنسان يندفع في كثير من أعماله المتنوعة بدافع لاشعوري من ظروفه النفسية والاجتماعية ثم يبرر عمله بعد ذلك .. إذ يصطنع له سببا معقولا يدافع به عن نفسه. ومن نشأ في بيت الطاغية لن يصبح غير طاغية ومن نشأ في بيت الطاغية وهو ملاك يصبح شيطانا فكيف إذا كان قد نشأ في حمأة الطغيان وهناك حقيقة لا يستوعبها الناس ولا يشرحها المثقفون،إن الطاغية لا يظن نفسه أنه طاغية بل عمر بن الخطاب وهو مرض يصيب أي إنسان وهنا نقطة الخلاص التي لم نستوعبها ولا أعرف كيف ومتى وأين سوف نستوعب هذه الحقيقة الصادمة ؟!. وهناك بكل أسف من يردد فقرات لم يتأكد منها ولم يخضعها لمبضع النقد عن خرافة العادل المستبد فهذا تناقض لا يقع فيه أشعب وهبنقة معا فعندما تقول مستبد لا يبقى عادل وعندما نقول عادل لا يبقى مستبد فكأننا نريد جمع النار والماء ؟!. إن كل فرد هو مجموع من الصفات المتناقضة والمتداخلة وهذه الصفات تتناوب في الظهور. واختلاف الناس في ذلك هو اختلاف نسبي. ومع ذلك فإن معظم الناس ينسون هذه الحقيقة العامة عند الحكم على الأشخاص والأعمال والمواقف والأفكار،وهذا يدل على الجهل والسطحية كما يدل على ضيق الأفق وقصر النظر وضحالة الفكر وهي ظاهرة ثقافية عامة.يكون المجتمع غارقا بها بأفراده وفئاته ونظمه ومؤسساته ولا يحس بهذا الغرق.. وغياب الإحساس بمصدر الخلل يحول دون إمكانات العلاج أما البيئة الثقافية التي ينشأ فيها مثل هذا الخلل فيقول عنها عباس محمود العقاد في كتابه (الكلمات الأخيرة): «الأمم التي لم تتعود الاستقلال في التفكير لا تفهم المعنى إلا في حالة واحدة وعلى درجة واحدة فإذا قلت لها إن فلانا طيب استغربت أن تسمع عنه بعد ذلك عملا يسوء وإذا قلت لها إن هذا الشيء ابيض استغربت أن ترى فيه بعد ذلك شيئا من السواد كأن الناس والأشياء لا تختلف بالدرجات والأحوال وإنما يكونون على درجة واحدة وحالة واحدة في جميع الأوقات.. إن فهم الدرجات المختلفة والأحوال المختلفة تصرف لا يرتقي إليه الذي تعود أن يتلقى الأحكام إملاء كما قيلت له بلا زيادة ولا نقصان ولا انحراف ولهذا تكثر الظروف في لغات الأمم المستقلة (التفكير) لأن الظرف هو بيان درجات الشيء وأحواله وتقل الظروف في لغات الأمم التي لم تتعود الاستقلال في التفكير».يتعجب (أتيين دي لابواسييه) في كتابه (العبودية المختارة) عام 1562م من سقوط البشر في أصفاد العبودية فيخضعون لبشر مثلهم يأكل مما يأكلون ويموت كما يموتون: (فلست ابتغي شيئاً إلا أن أفهم كيف أمكن لهذا العدد من الناس، من البلدان، من الأمم، أن يتحملوا طاغية واحداً لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه.. إنه لأمر جلل حقاً، وادعى إلى الألم منه إلى العجب أن ترى الملايين يخدمون في بؤس وقد غُلّت أعناقهم دون أن ترغمهم على ذلك قوة أكبر بل هم فيما يبدو قد سحرهم. نعم إنه السحر الجديد. ثم يصف (مجموعة الستة) التي تمسك بالبلد على النحو التالي: (إنني اقترب الآن من نقطة هي التي يكمن فيها على ما اعتقد زنبلك السيادة وسرها، ويكمن أساس الطغيان وعماده... إن من يظن أن الرماحة والحرس وأبراج المراقبة تحمي الطغاة يخطئ. فلا جموع الخيالة ولا فرق المشاة ولا قوة الأسلحة تحمي الطغاة، والأمر يصعب على التصديق للوهلة الأولى ولكنه الحق عينه: هم دوماً أربعة أو خمسة يبقون الطاغية في مكانه، أربعة أو خمسة يشدون له البلد كله إلى مقود العبودية. في كل عهد كان ثمة أربعة أو خمسة تصيخ إليهم أذن الطاغية يتقربون منه أو يقربهم إليه ليكونوا شركاء جرائمه وخلان ملذاته وقواد شهواته ومقاسميه فيما نهب. هؤلاء الستة يدربون رئيسهم على القسوة نحو المجتمع، لا بشروره وحدها بل بشروره وشرورهم. هؤلاء الستة ينتفع في كنفهم ستمائة يفسدهم الستة مثلما افسدوا الطاغية، ثم هؤلاء الستمائة يذيلهم ستة آلاف تابع توكل إليهم مناصب الدولة ويهبون إما حكم الأقاليم وإما التصرف في الأموال ليشرفوا على بخلهم وقساوتهم وليطيحوا بهم متى شاءوا، تاركين إياهم يرتكبون من السيئات ما لا يجعل لهم بقاء إلا في ظلهم، ولا بعداً عن طائلة القوانين وعقوباتها إلا عن طريقهم. ما أطول سلسلة الأتباع بعد ذلك! إن من أراد التسلي بان يتقصى هذه الشبكة بوسعه أن يرى لا ستة آلاف ولا مائة ألف بل أن يرى الملايين يربطهم الطاغية بهذا الحبل). ويرى لابواسييه أن هذه السلسلة يمكن أن تمتد بالطول والعرض من خلال فتح الباب لكل مظاهر الحظوة: (من هنا جاء خلق المناصب الجديدة وفتح باب التعيينات والترقيات على مصراعيه. كل هذا يقينا لا من اجل العدالة بل أولا وأخيرا من اجل أن تزيد سواعد الطاغية). أما نوعية الناس التي تلتف حول الطاغية فيجب أن تكون من معدن خاص، يقول لابواسييه: (ما أن يعلن حاكم عن استبداده بالحكم إلا والتف حوله كل أسقاط المملكة وحثالتها وما اعني بذلك صغار اللصوص بل أولئك الذين يدفعهم طموح حارق وبخل شديد ليصيروا هم أنفسهم طغاة مصغرين في ظل الطاغية الكبير. هكذا الشأن بين اللصوص ومشاهير القراصنة: فريق يستكشف البلد وفريق يلاحق المسافرين. فريق يقف على مرقبة وفريق يختبئ. فريق يقتل وفريق يسلب). ويصف الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد) هذا النموذج من الأعوان: (الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي والفراش وكناس الشوارع. ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقا، لان الاسافل لا يهمهم جلب محبة الناس وإنما غاية مسعاهم اكتساب ثقة المستبد. وهذه الفئة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته فكلما كان المستبد حريصا على العسف احتاج إلى زيادة جيش العاملين له واحتاج إلى الدقة في اتخاذهم من أسفل السافلين الذين لا اثر عندهم لدين أو وجدان واحتاج لحفظ النسبة بينهم بالطريقة المعكوسة وهي أن يكون أسفلهم طبعاً أعلاهم وظيفة وقرباً. إن العقل والتاريخ يشهدان أن الوزير الأعظم هو اللئيم الأعظم في الأمة).  يقول مونتسكيو: (الطاغية هو ذلك الذي يقطع الشجرة كي يقطف ثمرة). ويقول (لورد اكتون): (كل سلطة مفسدة وقليل من السلطة قليل من الفساد والسلطة المطلقة فساد مطلق).إن الطاغية وحش مرعب ولكنه في حقيقته صعلوك حقير. ومن احتقر الناس احتقر نفسه. وهو يشبه الشاذ جنسياً فهو سادي ومازوخي بنفس الوقت. فلا يلتذ إلا بالعذاب والتعذيب. ونيرون أحرق روما ولكن لم يكن عنده من الجرأة أن يقتل نفسه حينما أحدق به الناس فقتله خادمه. والطاغية ليس رجل مبدأ ليموت من أجل مبدئه بل هو متعلق بالحياة أكثر من حرص الضفدع على حياة المستنقع. ولذا سلم صدام نفسه. ولم يكن صدام ليتمنى الموت بما قدمت يداه والله عليم بالظالمين. ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يُعَمَّر والله بصير بما يعملون. والكاتب(إمام عبد الفتاح إمام) يقول في كتابه (الطاغية): (عندما أمعنت النظر في مجتمعنا العربي بدت لي نظم الحكم بالغة السوء فعدت إلى التاريخ فلم اصطدم إلا بنظم اشد سوءا وكلما أوغلت في الماضي البعيد لم تقع العين إلا على ما يسوء حتى وصلت إلى البدايات الأولى عند البابليين والفراعنة، دون أن أجد مرحلة استطاع فيها المواطن أن يقول بملء الفم هذه بلادي وأنا انعم فيها بإنسانيتي وكرامتي، وأتمتع بجميع حقوقي، وعلى رأسها حرية الفكر والتعبير والمشاركة في الحكم وصنع القرار السياسي) لينتهي إلى فقرة اشد تشاؤما: (إننا نتقهقر.. ومن هنا فلا تزال الرؤية حتى الآن معتمة والضباب كثيفا واليأس قاتلا والنفس حزينة حتى الموت). وحسب (مالك بن نبي) هناك جدلية متعاكسة بين الفكرة والصنم: (وإذا كانت الوثنية في نظر الإسلام جاهلية فان الجهل في حقيقته وثنية لأنه لا يغرس أفكارا بل ينصب أصناما ومن سنن الله في خلقه انه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم والعكس صحيح)، ورأى أن الوثنية غيرت لونها فاستبدلت المطالبة بالحقوق بدل القيام بالواجبات، وعدم فهم (الظاهرة السياسية) ومعنى (صلة الحكومة بالوسط الاجتماعي) وبأن: (الحكومة مهما كانت ما هي إلا آلة اجتماعية تتغير تبعا للوسط الذي تعيش فيه. فإذا كان الوسط نظيفا فلا تستطيع الحكومة أن تواجهه بما ليس فيه. وإذا كان الوسط متسما بالقابلية للاستعمار فلا بد أن تكون حكومته استعمارية).ٍٍإن اللعب بالنار لا يجعل النار لعبة. فتحت كلمة الشعب ذُبح الشعب. وباسم الحرية ألغيت كل حرية. وباسم الأمن أنشئت أجهزة الرعب. إن هذا يروي غرامنا السقيم بالكلمات، وأنه تحت الشعارات تغتال الحقائق (فيكسب القاموس كلمة ويخسر الواقع حقيقة) كما قال (الصادق النيهوم).مع هذا فإن الديمقراطية لا يمكن فرضها على الناس بقوة السلاح فهذا ضد الديمقراطية. ويقول (هربرت ويلز) في كتاب (معالم تاريخ الإنسانية) «إن نظام الكون الاجتماعي يعاقب المغفلين كما يعاقب المجرمين».. ومجيء الاستعمار يشبه الصفعة التي توقظ من السبات. وتعطي الأمل للشعوب. أن (التغيير) قانون وجودي إن لم يحصل من الداخل فسوف يتم من الخارج. والكون يقوم على الصيرورة. يقول (عبد الرحمن الكواكبي): « المستبد لا يخشى من علوم اللغة المقومة للسان.. وكذلك لا يخاف من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة، ولكن ترتعد فرائصه من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وسياسة المدينة والتاريخ المفصل وغيرها من العلوم الممزقة للغيوم. وبالإجمال إن المستبد يخاف من العلوم التي توسع العقول وتعرف الإنسان ما هو الإنسان وما هي حقوقه وهل هو مغبون وكيف الطلب وكيف النوال وكيف الحفظ؟ وكما يبغض المستبد العلم لنتائجه يبغضه لذاته لأن للعلم سلطاناً أرقى من كل سلطان ولذلك لا يحب المستبد أن يرى وجه عالم ذكي فإذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس يختار المتملق، وينتج من هذا أن بين الاستبداد والعلم حرباً دائمة.. يسعى العلماء في نشر العلم ويجتهد المستبدون في إطفائه والطرفان يتجاذبان العَوام». ليصل في النهاية إلى تقرير من هم العوام؟ « هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا وإذا خافوا استسلموا. العَوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل، فإذا ارتفع الجهل زال الخوف وانقلب الوضع».. والطغاة يمسكون الشعوب بخيطان رفيعة من الخوف. وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون . والصراع بين العلماء والمستبدين هو مثل جدلية الظلام والنور. فالعلماء يعلمون الناس فيتحرروا من الخوف. والطغاة يخرجونهم من النور إلى الظلمات فيخافوا ويجعلوا أصابعهم في آذانهم حذر الموت والله محيط بالكافرين. ولم يكن عبد الرحمن الكواكبي ليكتب كتابه عن طبائع الاستبداد لولا احتكاكه بفكر الثورة الفرنسي.وأول سورة نزلت من القرآن عالجت مشكلة الطغيان. ومشكلة الطغيان هي ليست بقتله لأن من أخذ السيف بالسيف يهلك، ومن أزال القوة بالقوة استبدل فرعون بهامان وصدام بمصدوم.وقد صاغ (عبد الرحمن الكواكبي) قبل قرن وصفة الخلاص مثل قوانين الرياضيات بثلاث جمل اختصر الوصفة مثل قوانين الرياضيات في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) في فصل: (مبحث السعي في رفع الاستبداد): (الشعور بالحاجة إلى التغيير): أولا (الأمة التي لا تشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية). و(يجب أن يتم التغيير سلمياً وبالتدريج).ثانيا (الاستبداد لا يقاوم بالشدة إنما يقاوم باللين والتدرج). وثالثا (لا بد من تصور البديل). (يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد). وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون.

MAS


ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.