عبد الواحد علواني : هل نملك ثقافة حرية

2016-08-14

يتقصّد المُدوّنون أن يسطروا المفارقات والعجائب والنوادر، وتحفل المرويات الأدبية بالغريب والمدهش، وخاصة التراثية منها؛ ولذلك، لا تصلح للدلالة على شيوع ما تعرضه، الحديث عن نماذج للعدل في تاريخ طويل، يعني أنها حالات استثنائية، والدراما -اليوم- تقوم بما يماثل هذا الأمر، من خلال استعادتها المشهد الاستثنائي،
وسرده في لغة بصرية انفعالية؛ لذلك، لا يمكن عد فيلم إجرامي -مثلًا- دليلًا على شيوع الجريمة في المجتمع الذي يتحدث عنه الفيلم، ويبدو لنا في ظل حاضرنا، أن ما تُحشد به المرويات العربية من قصص وأساطير، عن العدل والوفاء والشهامة والكرم، ومجابهة الظلم، ورفع الضيم، ليس من باب بيان السلوكيات العامة، وإنما الاستثنائية التي تلفت الأنظار إليها، فواقع العروبة والثقافة العربية على مر العصور، يقول: إن “الأقوام” العربية كانت -على الدوام- أممًا متحاربة، تغدر ببعضها بعضًا تحت جنح الظلام، و”الجار” العربي لا ينفك طامعًا في مال جاره، وسبي نسائه واسترقاق أبنائه، يتوارث الاستبداد في البنى الاجتماعية كلها، أسرة وعائلة وقبيلة وحزبًا وطائفة، وخلال ما يقارب الخمسة آلاف عام من تاريخ المنطقة، وما يزيد على الألفي عام من الخطاطة التاريخية العربية، يكاد العدل أن يكون نسيًا منسيًا، ومع ذلك، نتباهى بحكايات مبالغ فيها، لعهود لم تتجاوز سنينها أصابع اليد الواحدة، بل أذكر أن دراسة جادة خلُصت إلى أن “الحسد” لم يرق إلى درجة الهاجس عند شعب من شعوب الأرض على النحو الذي هو عندنا، والذي استدعى أن يُخص بسورة من سور القرآن.
 
 
 
 
 
بينما تتعلم أمم الأرض، وتنتقل من عهد إلى عهد آخر أقل ظلامًا، نحتفي -نحن- بمسببات الظلام الدامس إلى اليوم، وإن كنا نقرُّ -أحيانًا- ببعض وجوه الظلام تحت مسميات الحداثة والتراث، أو الأصالة والمعاصرة، فإننا لا نلبث أن نعود إلى تمجيد الظلام والظلم؛ فإن فررنا من التشدد الديني لجأنا إلى غلو قومي، وإن نجونا من الغلو، وقعنا في براثن تعصب حزبي أو طائفي أو قبلي…إلخ، وحتى الإشارات الواضحة في الإسلام الذي جاء قبل أربعة عشر قرنًا ونيف، أُوّلت؛ لتقدس هذا الاستبداد المتنوع، الذي لا بد له من ممارسة كل أنواع الظلم والخسة والغدر واللصوصية باسم حاكمية بائسة رعناء، قدسها أصحاب النفوذ، وركع لها البؤساء.
 
 
 
القيم التي نتفاخر بها قيم شفهية، لم تجد لها في الواقع سوى صدى ضعيف، وهي ناتجة عن الحالة النصوصية التي نحياها في كل تصوراتنا وفلسفاتنا ومطامحنا وأحلامنا وافتخارياتنا، فمهما فسد واقعنا نبقَ متباهين بشذرات من طين الفرية والمبالغة، ونحن نتوارث الاستبداد في كل البنى الاجتماعية التي نحياها، في الأسرة والمدرسة والمؤسسة والجامع والحي والمدينة والقبيلة والدولة، استبداد الأب والأخ الأكبر والمعلم وفتوات الحي والمديرين والمسؤولين والزعماء والأمراء والقواد، نتبرم منها إنْ وقعت علينا، ونحتفي بها ونتفاخر إن وقعت منا، ونزهو بفارس منا ينقضّ على الجموع، حاصدًا الرؤوس كمنجل يحصد السنابل، ونلعن عدوًا همجيًا يفعل ذلك بنا،  اختلطت علينا الأمور منذ أمد، وبقينا عاجزين عن تطوير نظرية الإنسان، نضحي بها من أجل فكرة أقل قيمة، تتمثل في مواطنة ملجومة، أو هوية مأسورة، أو انتماء مكبل، إرث يثقل كاهلنا، ويمنعنا من فهم حرية الفكر والممارسة، ثم لا نلبث أن ننقله إلى الجيل الذي يلينا، كإطار وجودي لا بد منه ولا محيص عنه.
 
 
 
هذا الكائن الذي ينتفض -اليوم- في بعض البقاع، شاعرًا أنه قد انحدر إلى قاعٍ ما تحته من حضيض، يدكّ بقامة عزلاء أسس الطاغوت، لكنه لم يتحرر من الطاغوت الذي يعشعش في أعماقه، والذي يشكل حاجبًا كثيفا بينه وبين أن يدرك قيمة وجوده وإنسانيته، فيستسلم للاعبين جدد، يتسنمون الحراك الذي رواه بدمه، فينسجون من خيوط أحلامه ملامح عهد جديد من الاستبداد، يُسقط هذا المنتفض وجهًا من وجوه الاستبداد، ويكتفي بالوعود من طبقة، تزاحم الطبقة المنهارة؛ لتتموضع محلها، ولو قرأنا خطابات الطبقة السياسية الجديدة؛ لوجدنا أنها تنصرف إلى طمأنة القوى الخارجية، بينما تفرض تصورها على القوى الداخلية، تتوسل الاعتراف من المجتمع الدولي أكثر من اهتمامها بمطامح الجماهير التي ضحّت، تسعى جاهدة لأن تصبح جزءًا من نظام عربي فاسد، بدلًا من أن تؤسس لعهد جديد، يعلن القطيعة مع كل وجوه الطغيان، يقدمون عروضًا سخية ومباشرة للنظام العالمي الجائر، ويكتفون بالوعود للبؤساء الذين قضوا وعانوا من أجل فجر جديد، يتعاونون تحت جنح الظلام مع كل استبداد يحيط بهم، لتكون نتيجة هذه الانتفاضات مجرد تغيير أسماء، لا تدمير البنى الاستبدادية؛ فالأنظمة البديلة مشغولة بطمأنة إسرائيل، والغرب، وإعادة الصلة بالنظام الرسمي العربي الذي لا يزال -كما هو- طاغوتيًا، بينما كان أبسط واجباتها أن تقدم رموز الطغيان والفساد إلى محاكمات عادلة، تقتص لمن قُتل، ولمن دُهس، ولمن أُهين؛ ليكونوا عبرة لمن لم يَعتبر، وأن تكرم من ضحى واستشهد، أو أصيب وأُقعد، أن تستحث ما تبقى من مؤسسات الدولة؛ لتبحث عمن تركهم هؤلاء وراءهم من الأرامل واليتامى والمساكين.
 
 
 
خلال سبعة عقود تلت خروج المستعمرين، كانت الوحدة العربية الوحيدة المحققة هي وحدة مصالح النظام العربي، وحدة الاستبداد والطغيان والفساد والاضطهاد، وما يبدو عصرًا جديدًا يأزف حينه اليوم، لا يعدو عن كونه أملًا آخر، يُستهلَك حتى يذوي ويموت؛ فالبيئة العربية -بيقينياتها وثقافاتها- مازالت متصحرة، لا تنتج سوى الشوك والغبار، يسقط طغاة؛ ليحل محلهم طغاة آخرون.
 
 
 
مع كل الوعي الذي رافق الاعتصامات السلمية؛ فإنها لم ولن تؤدي إلى عصر الإنسان، إذا بقيت الثقافة المهيمنة لا إنسانية، مليئة بالجور باسم المقدس والعرف والتراث، وبينما يستمر الجنون في بلدان أخرى، لفحتها رياح الانتفاض، أتأمل ذلك الإصرار العجيب من ديناصورات ترفض الرحيل، كيف لثقافة أن تستكين لهم عقودًا طويلة، أليس لعلة كأداء مريرة في الثقافة نفسها، ها هو الفرد يعلن أنه قادر على التضحية، ونزع الخوف المترسب في أعماقه، ولكن هل تضع له ثقافته الصّوى التي يستدل بها على مجتمع أكثر كرامة وإنسانية، يعتصم في الساحات ويواجه أسلحة العتاة والمجرمين كلها بجسد عار، ويكتسب احترام العالم أجمع، وخلجات قلبه ترعب المتوحشين المدججين بالسلاح، اللابدين على قلوب الناس ردحًا طويلًا، ويمضي صابرًا متحملًا لا تهدأ حنجرته، ولا يبالي بما ينهال على جسده، إلى أن يحطم هيمنة الفراعنة، لكنه إذا أخلد إلى نفسه احتار في الكرامة التي لا تأتي بسهولة، التي يصادرها في الطريق إليه من يصادرون ثورته، من يتاجرون بدمه، من يتصدرون المشهد الجديد الذي تلون بسحنته، هل قَدَر الإنسان -هنا- أن يحتمل الهوان عقودًا، ثم ينتفض ليجدد عهد الهوان.
 
 
 
 
 
لماذا لا نستطيع الفكاك من هذه اللحظة الظالمة طوال آلاف السنين، لماذا نفتقد حتى بوادر الأمل في دفن الطغيان، لماذا إذا غاب الطاغية بحثنا عنه، وإن حضر استسلمنا له، وإن بالغ في البغي رجوناه الفتات، وبقية من أحلام منكسرة، أهي حالة إدمان الحلم، التي تردعنا عن واقع يقاربه؟
 
هذا الأدب الشهرياري، وهذا الفقه السلطاني، وهذه الأعراف الظلامية، وهذه التقاليد المقدسة…إلخ. كيف لنا أن نتحرر من تراث البؤس ونحن نستظل بظله، لم تتحرك تونس بدافع إباء العربي، إنما برواسب ثقافة فرانكوفونية غفل عنها الجنرال، لم تتحرك مصر بدافع من فقه ثائر، إنما من روح ساخرة وصلت بالسخرية إلى حد الإيلام الشامل، فانتعظت رغبة التحرر، وهل تدوم؟
 
 
 
وكذلك بقيةٌ، ممن ينتسبون إلى العروبة، من عرب عاربة ومستعربة، هل تكون أقدارهم أرحم مما يَعِد به الجنون الدامي لأنظمة أدمنت سفك الدماء، وهل تستحق سنوات بائسة من الوعود والأحلام قبل أن يعود الطغيان، كل هذه التضحية؟
 
لا يمكن لثقافة سقيمة أن تنتج مجتمعًا سويًا، لكنْ، يبقى التغيير مفتاحًا لاحتمالات، أسوَؤُها أرحم من استمرار الأنظمة القائمة.