عماد يوسف : تركيا .. درس في الديمقراطية

2016-07-17

يدرك الشعب التركي أهمية أن تحكم سلطة سياسية منتخبة أمور البلاد، وحل الخلافات السياسية بالوسائل السلمية دون الرجوع لحكم العسكر الذي عانوا منه لعقود؛ لأنهم يعلمون أن الحكومة المنتخبة شعبياً حققت ازدهاراً و تطوراً مادياً وحضارياً ومنحت الشعب دور التأثير في صنع القرار، بعيداً عن شخصنة الأمور، لذا فقد هب الشعب في وجه الانقلاب العسكري، بمؤيدي الحكومة ومعارضيها؛ لأن سلطة العسكر تنهي دور الجميع وليس شخص أردوغان وحكومته فقط.
 
لا شك أن دول الشرق الأوسط تقوم بمجملها على تسلط العسكر في تفاصيل حياتها السياسية، وجاءت بمعظمها إلى سدة الحكم إما بانقلاب عسكري أو بملكية بيدها مقاليد كل شيء، دون أن يكون للشعوب أدنى تأثير في صنع القرار السياسي وانتخاب الحكومات التي تمثله.
 
وربما ظن معارضوا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن التخبط الحاصل في سياسات حكومته سيمكنهم من الإطاحة به، وسيكسبهم الدعم اللازم سياسياً وعسكرياً وشعبياً للقيام بالانقلاب, خاصة بعد تحول سياسات الحكومة المفاجئ، عقب الانفجارات الحاصلة في تركيا، في فتح صفحات جديدة مع الدول العظمى والإقليمية من خلال سياسة " صفر مشاكل " التي انتهجتها الحكومة التركية لإعادة رسم علاقاتها مع روسيا وإسرائيل ودول أخرى مجاورة.
 
وتهدف هذه السياسة لتحقيق استقرار الأمن القومي والتخلص من الصراعات الخارجية رغبة من أردوغان في التفرد للوضع الداخلي وبناء مشروعه الرئاسي لجعل تركيا دولة عصرية متمدنة باقتصاد ضخم أولا، ولتثبيت الحكم الرئاسي بالتخلص من تحكم العسكر في أمور البلاد ثانياً.
 
إلا أن تلبية الشعب التركي لنداء الرئيس التركي بالنزول للشوارع وإفشال عملية الانقلاب وعدم انخراط الاستخبارات والشرطة التركية في الانقلاب، ناهيك عن انحسارها ببعض القادة العسكريين من رتب متوسطة، حال دون سقوط حكومة أردوغان. ولم يشفع للانقلابيين سيطرتهم على وسائل الإعلام الرسمية وإصدار بيانات باسم الجيش يعلنون بها تعليق الدستور التركي وفرض الأحكام العرفية وتسليم السلطة لمجلس سلام عسكري، حسب زعمهم.
 
إلا أن دور الشعب التركي كان حاسماً في نزوله للشوارع ورفضه الانقلاب على الشرعية من مؤيدين لأردوغان تأكيدا لشعبيته الكبيرة وسياساته، وكذلك من معارضين له مؤكدين أنهم ليسوا مع شخص الرئيس بل مع الحكومة الشرعية والدستور، رافضين أي دور للعسكر في تحديد مصير الحياة السياسية في تركيا، ومتمسكين بتثبيت الديمقراطية التي تحققت في تركيا.
 
وقد يكون اتهام حكومة أردوغان لفتح الله غولن، فور حدوث الانقلاب، بالوقوف وراءه، محاولة لكسب الشعب والجيش ومؤسسات الدولة التركية له في هذه اللحظات المفصلية، وتخويفهم من منهج غولن الداعي إلى تغيير النظام العلماني في تركيا إلى نظام إسلامي.
 
ويأتي هذا التأييد الشعبي لأردوغان وحكومته، بعد تلمسهم الانجازات التي حققوها بانحسار سلطة العسكر على الحياة السياسية والمدنية في تركيا، وبعدما استطاع اردوغان إحداث ثورة، يمكن تسميتها بالصامتة، بعد توليه رئاسة الوزراء، ومن ثم الجمهورية؛ حيث عمل على الاستقرار والأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي في تركيا، وتصالح مع الأرمن بعد عداء تاريخي، وكذلك فعل مع اليونان، وفتح جسورا بينه وبين أذربيجان وبقية الجمهوريات السوفيتية السابقة.
 
كما أرسى الرئيس التركي تعاونا مع العراق وسوريا، وفتح الحدود مع عدد من الدول العربية، ورفع تأشيرة الدخول، وفتح أبواباً، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً مع عدد من البلدان العالمية، وأصبحت مدينة إسطنبول العاصمة الثقافية الأوروبية عام 2009.
 
وقد أعاد أردوغان لمدن وقرى الأكراد أسمائها الكردية؛ بعدما كان ذلك محظوراً، وسمح رسمياً بالخطبة باللغة الكردية، وقدم اعتذاراً تاريخياً باسم دولة تركيا حول الأحداث المأساوية التي وقعت بين سنوات (1936- 1939) في منطقة درسيم، والتي ارتكبتها الحكومة التركية آنذاك ممثلة بالحزب الجمهوري بحق الأكراد العلويين في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي .
 
ومن المؤكد أن أردوغان وحكومته سيعيدان النظر في الكثير من الأمور الداخلية، وسيسعيان لحلها، فقد يتوجه إلى تقويض سلطة الجيش أكثر حين ينجح في مساعيه بتحويل نظام الحكم إلى النظام الرئاسي وتصفية حساباته السياسية مع المناوئين لحكمه, إضافة إلى الانفتاح أكثر على القضية الكردية في تركيا، وتفهم طموحاتهم بدلا من الاستخدام المفرط للقوة ضدهم.