Sozdar Mîdî ( Dr. E. Xelîl ) سلسلة: الكُرد والمحتلّون الحلقة - 11 مشكلة الانسلاخ القومي ( العالِم عزيز سِنجار – نموذجاً )

2015-10-14

ظاهرة الانسلاخ القومي؟
الأمّة الكُردية كثيرة العدد، وكُردستان وطنٌ شاسع وغنيٌّ بالموارد، والكُرد- باعتراف الأجانب- موصوفون بالشجاعة، والعقلُ الكُردي ذو بنية حضارية عريقة، إذاً لماذا بقيت هذه الأمّة مُستعمَرة إلى الآن؟ ولماذا بقيت كُردستان محتلّة؟ 
لا بدّ أن ثمّة خللاً ما هائلاً في إنتاج هذه الظاهرة الشاذّة، ولعلّ كلمة (خَلَل) غير كافية، فلنقل: ثمّة عيوبٌ هائلة أنتجت هذه الظاهرة الشاذّة، ومن أبرز تلك العيوب زيادةُ نسبة الحمقى والمغفّلين واللّامبالين والمُرتزِقة والعميان والخَوَنة والمنسلِخين، والمشكلة أن هذه العيوب متفشّية على الغالب في فئة (النُّخبة)؛ أيْ في فئة (قادة المجتمع). 
ونقصد بـ (الانسلاخ) هروبَ الكُردي من الهوية الكُردية، وانتماءَه إلى القوميات التي تحتلّ كُردستان، وفيما يلي بعض الأمثلة:
• قال الشيخ الكُردي مَلا سعيد للباحث الروسي نيكيتين بشأن بعض زعماء الكُرد: "إنهم بمجرّد أن يَشقّوا طريقهم، ويُمسِكوا بعَتَلة القيادة، يُسرعون إلى اختلاق الأنساب لأنفسهم، ليُثبِتوا أنهم ليسوا كُرداً بل عرب، ... كلُّ مَن يصبح بَيكاً يُعلن ويَنشر بين المَلأ أنه (عبّاسي) أو (عَلَوي) أو (خالدي)، أو يَنتسب إلى فلان أو فلان من حَفدة علّان، وَيختلق ألفَ تحفّظٍ بشأن نسبه الكُردي". ( باسيلي نيكيتين: الكُرد، ص 242). والمقصود بعبّاسي: أسرة الخلفاء العبّاسيين، وبعَلوي: الخليفة علي بن أبي طالب، وبخالدي: القائد خالد بن الوليد.
• قال دبليو آر W. Robert حاكم أربيل البريطاني (1918 – 1920) " ويَفخر كلُّ زعيم كُردي تقريباً بأنه ينحدر من أصل عربي، ويحاول إرجاعَ نَسَبه إلى النبيّ [محمد] أو أحد صحابته". وقال بشأن مير صالح بَك، زعيم (مير يوسفي): " لقد كان يُظهر أحرَّ المشاعر إزائي، ويَفخر دوماً بأنه ليس بكُردي". ( دبليو آر . هي: مذكرات دبليو آر، ص 114، 179).
• ذكر الصحفي الأمريكي جوناثان راندل Jonathan. Randal أن علاقته كانت وثيقة مع كامران إينان، وهو برلماني كُردي مُوالٍ للدولة التركية، ولد عام 1929 في قاطرة المواشي التي نقلت أهله من منطقة بتليس إلى المنفى في غربي تركيا، وعائلتُه من مشايخ الطريقة النَّقشبندية، وقال جوناثان: "سألته هذه المرّة مباشرة ما إذا كان يعتبر نفسه كُردياً أو تركياً؟ فردّ قائلاً: هذا سؤال لا أطرحه على نفسي أبداً، ولكن بما أنني سيّد، أيْ من سلالة الرسول، فأعتقد بأنني أُعتبَر عربياً". (جوناثان راندل: أمّة في شِقاق، ص 382 – 383).
حالة العالِم عزيز سِنجار:
ولننتقل إلى حالة العالِم الكُردي عزيز سِنجار، فقد عرف العالَمُ الكُردَ بصمودهم للمآسي التي تنهال عليهم واحدة تلو أخرى، وبمقاوماتهم البطولية للغزاة، لكن قلّما عرف العالَم أن الكُرد مبدعون في مجالات العلوم أيضاً، وأن جذورهم الحضارية عريقة.
لذا كان خبراً مُفرِحاً أن يحصل الكُردي عزيز سنجار على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2015، وكان المتوقَّع أن يذكر السيّد عزيز أصله الكُردي، ليعرف العالَم أن الكُرد ليسوا شعباً متخلّفاً، ولا مجموعة هَمَج وقُطّاع طرق كما زعم المحتلّون طوال قرون. لكن المفاجأة أنه في يوم 8 -10- 2015، قال صحفي من قناة BBC للسيّد عزيز: 
- هل أنتم من أصول عربية كما تدّعي بعض القنوات الإعلامية؟ 
فأجب عزيز بانزعاج: إن كنتُ عربياً أو كُردياً هذا أمرٌ جميل، ولكنني لا أعرف لغةَ أيٍّ من تلك القوميات، أنا لا أعرف إلّا اللغةَ التركية، ولا أحمل إلّا الجنسيةَ التركية، إذًا فأنا تُركيٌّ وأُمثّل الجمهوريةَ التركية.
وظهرت في فيسبوك صورة للسيّد عزيز وولديه مع صورة مصطفى كمال آتاتورك، ذاك السفّاح الذي قتل آلاف الكُرد، وشرّد مئات الآلاف منهم، ومع العلم التركي الذي مارس الجنود الأتراك في ظله أبشع الجرائم ضد الكُرد في شمال كُردستان.
 
إن السيّد عزيز سنجار عالِم، والمتوقَّع من العالِم أن يكون مثقفاً، ويعرف انتماءه القومي، وخاصة أنه من بيئة فلاحية في أُورفا، ومعروف أن الكُرد عموماً ينتمون إلى عشائر، ويُفترَض أن يكون السيّد عزيز عارفاً هويّتَه وعشيرته الكُردية. لكن الغريب أن السيّد عزيز لم يكتفِ بنكران أصله الكُردي، وإنما اتّخذ اللغةَ التركية والجنسيةَ التركية معياراً للهوية، وبناءً على هذا المعيار استنتج أنه تركي، وأنه يمثّل الجمهورية التركية.
لماذا الانسلاخ القومي؟
لو كان السيّد عزيز مقيماً في شمال كُردستان، كان من الممكن أن نبرّر هروبه من أصله الكُردي بخوفه من بطش الدولة التركية، لكن السيّد عزيز مقيم في أمريكا، وزوجته أمريكية، ولعله يحمل الجنسية الأمريكية، إذاً ما الذي دفعه إلى هذا الحماس الشديد لأن يكون تركياً؟ 
الدافع هو افتقار عزيز إلى الشعور بأنه كُردي، ومع أن هذا الشعور هو أبسط مظاهر الوعي القومي، إلا أنه أكثرها صلابة وحماية للشخصية الكُردية من الانسلاخ، وهو الذي ألحق الفشل بجميع سياسات المكر والتوحّش التي مارسها المحتلّون ضدّ الكُرد، وقد حاول محتلّو كردستان على الدوام القضاءَ على هذا الشعور لكنهم لم ينجحوا.
وإنني أكتب عن حالة السيّد عزيز سنجار، ليس للتشهير به، ولا للتحريض عليه، لا، أبداً، فعزيز سنجار فردٌ من أمّتنا، ومن واجبنا الحفاظ على كرامته، وهو يستحقّ الإشفاق بدل الاحتقار، إنه من مواليد 1946، وعاش طفولته وصِباه وشبابه في الفترة التي تلت فشلَ ثورة 1925 بقيادة سعيد پيران، وثورة آرارات (1926- 1930) بقيادة إحسان نوري باشا، وثورة دَرْسيم 1937 بقيادة سيّد رضا، وفي هذه الفترة مارست الدولة التركية أبشع سياسات القمع والصهر العنصري ضدّ الكُرد في شمال كُردستان، وأنتجت تلك السياسات عشرات الآلاف من الكُرد المنسلخين عن هويتهم، منهم السيّد عزيز سنجار.
والآن.. ما العمل؟
الكوارث التي صبّها المحتلّون على أمّتنا كثيرة، وأسوأها إيصالُ بعض الكُرد إلى هذه الحالة المخيفة؛ حالةِ الهزيمة التامة أمام القهر الفاشي، ورَفْعِ راية الاستسلام، والانسلاخِ من الهوية الكُردية، والاعتزازِ بالانتماء إلى محتلّي كُردستان.
وحينما يوصَل الكُرديُّ إلى هذه الحالة، لا تكون كُرديته فقط هي التي دُمّرت، بل تكون شخصيته وإنسانيته أيضاً مدمَّرة، ويصبح في حالة عَماء وانهيار شامل، وها أنتم ترون حالة عزيز سنجار، فمع أنه عالِم قدير في مجال وظائف الخلية، وفي دورها لمعالجة مرض السرطان، لكنه عجز عن اكتشاف الحالة السرطانية التي دسّها المُستعمِر التركي في شخصيته، نقصد (حالة الانسلاخ) من الهوية الكُردستانية.
والسؤال هو: كيف ينبغي التعامل مع المصاب بداء (الانسلاخ) القومي؟
إن اعتبار الإنسان حالة جامدة تفسيرٌ غير واقعي، فثمّة تحوّلات فيزيولوجية وشعورية وفكرية دائمة في كيان الإنسان، وأحياناً تكون التحوّلات هائلة، من النقيض إلى النقيض، وعلى ضوء هذه الحقيقة ينبغي أن نتعامل مع الكُردي المصاب بداء الانسلاخ. 
 أجل، من حقنا أن نغضب، بل يجب أن نغضب، لكن ليس على الكُردي المنسلِخ، إن الكُرديّ المنسلخ هو نفسه ضحيةُ جريمة، فهل نترك المجرم ونصبّ غضبنا على الضحية؟ لا، يجب أن نصبّ غضبنا على المحتلّ الذي ارتكب الجريمة وأنتج هذه الحالة الكارثية.
والغضب وحده لا يكفي، وإنما ينبغي أن نحوّله إلى كفاح ثقافي تنويري شامل، وإلى خطط  هادفة، وإلى قيم وطنية وقومية، لتعريف الكُرد عموماً بهويتهم المجيدة، ولإعادة ثقة الكُرد المنسلخين بأمّتهم، ولتطهير مجتمع كُردستان من داء الانسلاخ القومي المقيت.
ومهما يكن فلا بدّ من تحرير كُردستان!
الاثنين 12 – 10 - 2015