د . محمود عباس : ماذا فعل المربع الأمني بغربي كردستان؟ الجزء الثالث عشر

2015-06-10

 بعد نيل فرنسا مراميها من إحياء خويبون، وتهميشها بعد فترة قصيرة، حاولت إنهائها، بطرق متنوعة، فأبعدت رؤساء العشائر الكردية عن مصلحة فرنسا، وضيقت بشكل واضح على المثقفين منهم، وأبرزت دور البعض المرتبط بأجندات مراكزها الأمنية العسكرية دون السياسية في المنطقة، كما قامت فرنسا وبمساندة فروعها تلك،
بالاستيلاء على ممتلكات البعض من أغوات الكرد ورؤساء العشائر على طول الحدود مع الدولة الطورانية، لتعزيز نفوذ الطائفة المسيحية في المنطقة، مثلما فعلتها تركيا بتكوين حركة المريدين، فحدث تضيق متعمد على التحرك الكردي، وهمش البُعد القومي الكردي في سوريا، تحت مفهوم  الجمهورية السورية، وأهملت القضية الكردية عموما، فبقيت محصورة ضمن شريحة ضيقة، حتى أن ظهور البعض من الشخصيات الكردية فيما بعد، عند تشكيل البرلمان السوري، على الساحة السياسية في دمشق كانت محسوبة على القوة الوطنية السورية، مع طغيان البعد الإسلامي على الكرد، وغياب كلي لكيان يمثلهم أو منظمات سياسية تضمهم، على الأقل في الواقع السياسي السوري الفرنسي، ولم تطرح هذه الشريحة يوما، رغم وجود فئة معتبرة في المجلسين التشريعي والتنفيذي، في المحافل السياسية والدبلوماسية، شفهيا أو رسميا أو كتابيا، القضية الكردية ولا مطلبا لإقامة كيان كردي على الحكومة الفرنسية الفعلية في دمشق، ولم تطرح مثل هذه في أي مؤسسة من المؤسسات السياسية للدولة السورية أثناء الانتداب الفرنسي، ولا توجد وثيقة رسمية تثبت عكس المذكور، وكانت الإدارة في المنطقة الكردية عسكرية أمنية، حتى نهاية العقد الأخير من الحكم الفرنسي.
 
  تتالت أساليب سيطرة المراكز العسكرية الفرنسية على المنطقة الكردية، دون حدوث أي تغيير ملموس، في الفترات اللاحقة، والمعروفة بالمراحل الوطنية، ولا تغيير في البيئة التي فرضتها على الواقع السياسي القومي والديموغرافي لسوريا، رافقتها نسيان القضية الكردية، من قبل الكرد المتنفذين، وتهميش مخطط من قبل العنصر العربي في الحكم،  مع تزايد متدرج نحو إنماء الوعي القومي العروبي، وطمس للكيان الجغرافي – الديمغرافي الكردي المدرج مع سوريا بموجب اتفاقيتي سايكس بيكو وأنقرة، ولم ينتبه إليها حينذاك القيادات الكردية المثقفة سياسيا، لضعف وعيهم القومي ، وسهل عدم نموه لاحقاً، سيطرة الأغلبية العربية شبه المطلقة المعنية بعروبة سوريا دون أي شيء آخر، رافقتها هشاشة الوعي النضالي لحركة الشريحة الكردية الضعيفة أصلا لقضيتها، كما وواجهوا حصارا سياسيا-اقتصاديا عليها.
 
 استفادت الحكومات السورية المتعاقبة بعد الاستقلال من خبرة فرنسا في التعامل مع القضية الكردية، بدءاً من الحكومات الوطنية ومرورا بالناصرية ووصولا إلى بشار الأسد. والفترات الأولى من تشكيل الجمهورية السورية تعد بداية الصراع، بين الكرد والسلطات السورية، علما أن الوعي القومي الكردي، في العقود الأولى من تكوين سوريا، تغلفت بضبابية ، أي تيه الكرد؛ بين الدين والوطنية، وهي مرحلة عدم نضوج الوعي القومي الكردي، والمؤثرة في المراحل اللاحقة من مسيرة النضال الكردي في جنوب غرب كردستان، مقابل النضوج الذي كانت تتحلى بها الحركة العروبية في سوريا، وتبينت ذلك من خلال كتاب ومفكرين عروبيون، أمثال ساطع الحصري برطانته والذي كان عضوا طورانيا في الاتحاد والترقي التركي، وزكي الأرسوزي، والشرائح الأولى التي قامت بتشكيل الحركات السياسية القومية، كالبعث، أو الاشتراكي العربي، وضباط  متعصبين قوميا استلموا الحكم لأبعادهم القومية دون الوطنية.
 
  استغلت السلطات العروبية السورية المتعاقبة هذا الواقع، ليس فقط في الفترات المتأخرة، بل منذ انتهاء الانتداب الفرنسي، وفي بدايات سيطرتها على مقاليد السلطة، تمكنت من التعتيم على القضية الكردية ونضاله القومي والتي بالكاد بدأت تظهر. عمل أغلبهم على بعدين: تعريب سوريا بمطلقه، فكرا وهوية. وتحفيز الصراع الطبقي الاجتماعي بين الكرد، الذي خلقه الحزب الشيوعي في المنطقة الكردية بشكل أوسع من جميع المناطق السورية الأخرى، وكانت الخطوات العملية في هذا المنحى مدمرة للمجتمع الكردي ونضاله القومي، أدت إلى جملة من المصاعب، منها قتل الثقة بالذات، وتفتيت المجتمع، وتغيير وجهة النضال، وتسهيل عملية إهمال المنطقة الكردية اقتصاديا وبنية تحتية وثقافيا، وسهولة السيطرة على الحركة السياسية في حال بروزها.
 
  عند ظهور مثقفين سياسيين كرد برؤية واضحة واعية للنضال القومي، والمتأخرة زمنيا مقارنة بالموجة العروبية في سوريا، حوربوا من جهتين، السلطات العروبية والشيوعيين، وكان طغيان موجات النظرية الشيوعية، بمفاهيمها الأممية هائجة، ألقت بظلالها المعتمة على القضية الكردية بطرق لا تقل عن تعتيم السلطات العروبية التالية لها، علما أنها في بدايات ظهورها دغدغت المشاعر القومية للكرد لجلب المجتمع إليها، وتنشط الوعي القومي نتيجة لذلك، وحظي بحاضنة كردية واسعة. طمرت الموجة الفكرية للنظرية، فيما بعد النضال القومي وغيرت مساره، وحصرته ضمن المجتمع الكردي، ونقلته من نضال ضد السلطات المغتصبة لكردستان، إلى صراع كردي –كردي، تحت غطاء المفهوم الطبقي. تأثرت بها أغلبية الحركة الكردية السياسية، وكانت من أحد العوامل الرئيسة في الانشقاق الأول ضمن الحزب المتشكل حديثاً، وبتحريض خارجي، وتنافسا الحزبين الكرديين المنقسمين، في أدبياتهم، على من يتبنى الصراع الطبقي كنضال رئيسي، على حساب الصراع مع السلطة، وتباها بإضافة كلمة اليساري وفيما بعد الاشتراكية على اسم الحزب، وكان جل هم أغلبية الكادر الحزبي محاربة الإقطاعي الكردي، وظهرت في النقاشات السياسية أسماء غريبة ك(الكولاك) على سبيل المثال والذي لم يتطابق والواقع الاجتماعي الفلاحي الكردي.
 
   كان لانزياحات هذين الحزبين الدور الكبير في تشتيت الوعي الكردي، وعلى مدى عقود، ما بين النضال القومي والطبقي. وسيطر الصراع الوهمي هذا على المجتمع، وحفزوهم على محاربة البعض، الفلاح ضد الإقطاعي (رغم غياب الشريحة الإقطاعية في المجتمع الكردي حسب مفهوم النظرية الشيوعية والواقع الأوروبي، وكل من شاهد أو درس البنية الإقطاعية، الاجتماعية –الاقتصادية، السائدة حينذاك في المجتمع المبني عليه ماركس ولينين نظريتهم سيدرك هذه الحقيقة) كما وظهر الصراع بين شرائح من الفلاحين، وكل ذلك بغياب الطبقة العاملة الكردية، المنعدمة، لعدم وجود أي تطور اقتصادي، وغياب القطاع الصناعي في المنطقة الكردية، ولا تزال آثار هذا الخطأ الفكري والنضالي بادية على المجتمع الكردي وواضحة بين الحركتين الثقافية والسياسية حتى يومنا هذا، ومن السهل نسيان مواجهة السلطة عند إدراج الصراع الطبقي الاجتماعي بين الكرد. وللأسف لا ينتبه الكردي إلى أحابيل السلطات الشمولية المستعمرة لكردستان، كتكتيكهم بتبديل الصراع الحزبي مكان الطبقي، بعد بلوغ مآربه في الفترة الأخيرة، والقضاء على زعماء العشائر الكردية وتشتيت المجتمع الكردي...
 
يتبع...
 
 
 
د. محمود عباس
 
الولايات المتحدة الأمريكية
 
mamokurda@gmail.com
 
1\6\2015