ابراهيم محمود : سؤال المثقف الكردي

2012-06-25

لا يمر يوم إلا ويكون هناك تصور مختلف ومستجدٌّ نوعاً ما عن المثقف وله،
رغم أن الاسم هو نفسه، ويعني ذلك أولاً وأخيراً، أن للمثقف عموماً،
مكاناً وزماناً، إنما أيضاً له مقوّمات وجوده الخاصة التي تكسِبه اسماً
وموقعاً وقيمة أثرية.

يعني ذلك أننا لو أردنا التعريف به، لخرجنا من التاريخ وهو يقودنا إليه،
لأن التعريف توقيف لحيوية الاسم، وهذا يتطلب منا الحذر عند القيام بأي
محاولة تعريفية. حسبنا أن نقول عن أن المثقف هو من يمكن تحديده في مكانة
معينة ولسان حال دور ما، سواء أكان هذا الدور يصله بجماعة أو طبقة أو
نفسه...، لنتمكن من مقاربته واعتباره من لحم ودم.

وبالتأكيد، فإن مجرد التذكير باسم المثقف لأي كان، أو سماع أحدهم يشير
إليه، حتى يجد نفسه في مواجهة صورة تعنيه، كما لو أن لدى كلٍّ منا حقاً
تعريفاً خاصاً به، وصورة محدَّدة عنه، لا بل والمثقف الذي يعتبره الأقرب
إليه من سواه1.

نعم،المثقف محكوم بتاريخه وبمفهومه ومستوى مجتمعه الثقافي والسياسي
والتربوي والاقتصادي ووعيه الديني، وفي ضوء ذلك يمكن وضع تاريخ للمثقف،
وكيف أنه مرَّ في مراحل، من كونه الكاتبَ أو الفقيه أو الأديب أو
المتنور، وهذا يشمل المثقف نفسه في تنوع تعريفاته بحسب المجتمع والتحديد
الفكري له...الخ2.

ولعل التحولات التي شهدها العالم في بداية الألفية الثالثة، وبصورة أكثر
تحديداً، ما شهدته وتشهده المنطقة العربية وفي سوريا راهناً من مخاضات
اجتماعية وسياسية وفكرية وحتى نفسية، تضعنا في مواجهة مثقف مغاير تماماً
لكل ما كان يتردد عنه حتى الأمس القريب، بالنسبة لوضع المثقف وأوهامه،
وصراعاته الرمزية مع غيره وحديثه عن نفسه3.

لكن يمكن القول في ضوء المعاش، أننا نتراوح بين تعريفين للمثقفين حتى
الآن: ذاك الذي يشده إلى طبقته، ونحن نوسّع في المفهوم، وهو التعريف
الأسهل، وذاك الذي يبقيه في مواجهة المجتمع والذي يرى، كما يعتقد، أكثر
مما يراه سواه.

أشير هنا إلى أن ادوارد سعيد استوقفه هذان التعريفان، الأول لغرامشي
الإيطالي" 1891-1937"، وقوله( كل الناس مثقفون، وبناء عليه يمكن للمرء أن
يقول: لكن لا يمارس كل الناس وظيفة المثقفين في المجتمع..)، وغرامشي يحدد
صنفين: صنف تقليدي، يشمل المعلمين ورجال الدين والإداريين( طبعاً بناء
عليه، يمكن أن نمد في تحديده، فنقول: هناك المهنيون في مجال الانترنت
والميديا الفضائية وغيرهما)، وصنف خاص يرتبط بطبقة معينة، يعبّر عن
توجهاتها وأهدافها.

والثاني لجوليان بندا الفرنسي"1867-1956"، والذي يعتبر المثقفين ( جماعة
صغيرة من ملوك وحكماء يتحلون بالموهبة الاستثنائية والحس الأخلاقي
العالمي وقَّفوا أنفسهم لبناء ضمير الإنسانية..)4.

ويبدو أن صاحب( الثقافة والامبريالية)، قد اختار الموقف الوسط، حين أوجد
لنفسه ذلك المثقف الذي سمَّاه بـ"الهاوي" كما في قوله( إنني أتكلم وأكتب
عن قضايا أوسع لأني كهاو ٍ، بكل ما للكلمة من معنى، تستحثني التزاماتي
التي تمتد خارج عملي المهني الضيق..)، وربما يتضح ذلك في قوله( على
المثقف أن يكون منهمكاً في نزاع مدى الحياة مع كل حراس الرؤية والنص
المقدسين، الذين نهبوا كثيراً والذين يدهم الغليظة لا تتحمل عدم التوافق
ولا التنوع بالتأكيد..)5.

حيث إن الهاوي هو من تجتذبه الجهات كافة، ولا يلتزم وظيفياً بجهة ضداً
على أخرى، إخلاصاً لحقيقة تعم الجهات كافة، وكون العمل المهني ارتباط
بالمؤسسة ونوع من التبعية لها مهما خفَّت وطأتها نفسياً واجتماعياً.

إن كلاً من غرامشي وبندا، ينتمي إلى الربع الأول تقريباً من القرن
العشرين، وها هو ادوارد سعيد، يوسع مفهوم غرامشي للمثقف ليشمل لا المجتمع
المحدد وحده، إنما المجتمع الإنساني عموماً دون أن ينسى انتماءه
المجتمعي، وفي الوقت نفسه ينزِل بمفهوم بندا إلى الأرض ليكسبه حضوراً
تاريخياً أكثر في مواجهة الوقائع والأمثلة الحية، وهو معاصرنا.

ولعل الذي يثيره في تصوّره للمثقف يستشرف بنا آفاقاً واسعة، يمكن لأي منا
أن يجد نفسه بقدر ما يجد الآخر بجانبه مشاركاً إياه في مصيره على مستوى
منطقته أو مدينته أو بلده وما هو أبعد من ذلك، حيث الشعور بالعالمية
يتعمق.

أجدني هنا، وفي الحال في نطاق الحديث عن ( سؤال المثقف الكردي)، ولماذا
هذا التحديد تماماً؟

أولاً، لأنه بقدر ما يكون كردياً، وينتمي إلى مجتمع يشار إليه، بقدر ما
يجد نفسه وسط تنوع اثني وثقافي ولغوي وتاريخي وفولكلوري..الخ، وهذا يحتّم
عليه ضرورة أخذ العلم بهذه التركيبة التي من شأنها تأصيل موقعه كمثقف
يخلص للحقيقة على مستوى المجتمع.

ثانياً، لأنه بقدر ما يجد نفسه في موقعه، صاحب وظيفة، أو منتمياً إلى
جماعة إيديولوجية، إلا أن اعتباره مثقفاً، وخاصة في الظرف الراهن، يتطلب
منه الخروج إلى الفضاء الأرحب، طالما أن ثمة مجتمعاً كاملاً يتشكل في
وجدانه ويواجهه.

في ضوء هذا المثار حتى الآن، لا نكون إزاء إشكالية المثقف عموماً والكردي
منه خصوصاً، وإنما إزاء عدم وجود ذلك المثقف الذي يتمكن من التعبير عن
الحقيقة  باعتباره حراً ويتحلى بشجاعة المواجهة لكل ما يفتّت مجتمعه،
لحظة النظر في بنية المجتمع فيكون الكردي أكثر من كونه كردياً، إذا أريدَ
للكردية أن تتفعل في تربتها التاريخية والثقافية، حيث إن الذي يُتحدَّث
عنه على أنه المثقف، وما يدور على ألسنة كثيرين هنا وهناك، ليس أكثر من
كلام عام، لا يستند إلى وقائع، بقدر ما أنه بعيدٌ كلياً عما يجري في محيط
ثقافي وعالمي، وللكردي كمثقف ٍ دراما تعمل على السطح أكثر من العمق..

سؤال المثقف الكردي والحاجز الديناميتي

إن أهم مفهوم يمثَّل فيه في وسطنا الكردي، وينكَّل به هو المثقف. وسؤاله
يسمّي روحه الدامية هنا. لنفصل في القول:

لقد نشِرت عشرات المقالات بالعربية وبالكردية في مواقع انترنتية كردية
مختلفة( ولاتي مه- عفرين- ولاتي..الخ)، تحمل عناوين لافتة عن المثقف
عموماً والكردي منه خصوصاً، في ضوء الأحداث العاصفة التي نعيشها منذ خمسة
عشر شهراً.

إنها تفصح عن مدى انشغال كتّابها بما يجري، إنما أيضاً عن شعور بمسئولية
ما، وبشكل خاص في غمرة الحراك السياسي السوري والكردي تحديداً،حيث تُذكَر
الأحزاب الكردية ونوعية صلاتها بالكتاب الكرد والمجتمع وذلك على خلفية
تأسيس( المجلس الوطني الكردي)، وما ينطوي عليه الاسم من مفارقة التسمية
جهة حقيقة ومصداقية التمثيل الجغرافي والثقافي والسياسي معاً، وقائمة
الردود عليه تفصح عن ذلك.

كل هاتيك المقالات تصلنا بالواقع من زوايا مختلفة، وتعبّر عن شعور كتابها
بنوع من الغبن إزاء التعامل معهم كثيراً من قبَل الذين يتصدرون الواجهة
السياسية كردياً، وبشكل خاص في ضوء تشكيل المجلس الموسوم.

دون الدخول في سجال مع المقوّم الثقافي للمجلس، وحرصاً على سلامة المشار
إليه في العنوان، يمكن التحرك في ضوء ما أريد إبرازَه بصدد المثقف الكردي
باعتباره سؤالاً يُطرح بعيداً عن الجواب الفعلي، أو هو في حكم المؤجَّل،
لأن السؤال يتشكل في الواقع الذي يذكرنا بأجواء( الامبراطور عارياً) قصة
الدانمركي اندرسن الشهيرة، حيث الامبراطور يقابله السياسي، والنسّاج
المحتال يقابله المثقف المزيف أو الانتهازي.

لماذا سؤال المثقف الكردي إذاً ؟ لأن عبارة( المثقف)، و( المثقف الكردي)
تفصح عن مدى التضليل في المُعطى الثقافي.

لنتوقف هنا:

ثمة حديث متكرر، ولا أكثر من تكراره في الوسط الكردي، السياسي الحزبي منه
غالباً، ومن في صفه أو تخومه، وبعيداً عنه وهو أقرب ما يكون إلى رد
الفعل، عن المثقف، وبلغة الجمع، دون أي إحاطة بحقيقة المثقف ومتطلبات
وجوده، وما يعكسه هذا التوجه المعمَّم تقريباً من استهتار بالاسم ومكانة
الاسم وفعل الاسم..

يتحدث السياسي عن المثقفين وكأنهم موجودون، سلباً أو إيجاباً، دون أن
يكلّف نفسه عناء التروّي فيما يصدره من أحكام، بقدر ما يستسهل الداخل في
الرد أو المعلّق أو المعقب، آخذاً كلامه بنوع من المصداقية، أو أحياناً،
تأتي لغة الكتابة حاملة كماً هائلاً من الأحكام بالمقابل، واعتباطية، أي
المزيد من إنشائيات القول دون أي تحليل. نحن هنا أمام حالتين:

يوجد مثقف

لا يوجد مثقف

في الحالة الأولى، كيف يمكن الحديث عن المثقف، وليس لديه ذلك الباع
الطويل من تقاليد الممارسة والكتابة، حيث التصدّي للأخطاء، ولأي كان،
وباستقلالية تُري مدى الوضوح والشجاعة في المجابهة ووعي الحرية؟

هنا، أريد مثالاً- ولو واحداً، يشير إلى هذا المثقف المتنور، المستقل،
والذي يجد نفسه في خضم المتابعة لحيثيات الأحداث والمقارنة التاريخية
والتربوية والسياسية فيما بينها ومن هم قائمون بها أو معنيون بها.

قد يكون هذا الكلام مبالغاً فيه، ولكن الواقع المعقد" واقعنا نحن" ولكن
نعيشه في تركيبه الاثني والاجتماعي والثقافي، حيث يُستسهَل فيه الكلام
وتقويم هذا أو ذاك دون استناد إلى أرضية ثقافية تراعي هذا التركيب، سوى
أن القاسم المشترك الأكبر هو سياسي ومن النوع غير السوي، واقع لا يعطى
الاهتمام اللازم تسمية وتحليلاً أو ثراء مقومات. إن السياسة عندنا ليست
فن الممكن، كما يبدو، إنما فن استثارة الآخرين من جانب واحد.

إن أقرب مثال لدينا، هو أن التاريخ السياسي الكردي، وفي سوريا، لم يفرز
سوى مثال يتيم، لم يتشكل كما ينبغي، هو الدكتور نورالدين ظاظا. إن خروجه
الاضطراري من سوريا، وفي نجاته الفعلية بجلده، يمثّل مأساة الكردي
كردياً، وهي الحالة التي عبّرت عن أن ميلاد الكاتب المستقل، والمثقف
تحديداً، لم يحن بعد، لأن ذلك من شأنه فتح أكثر من باب، وتسمية الأخطاء
المرتكبة من قبل هذا الطرف أو ذاك، وتحديداً من مَن هم أولو الأمر، وأكاد
أجزم في القول، أن جملة الانشقاقات" أم هي إبداعات محتفى ً بها؟" في
الجسم السياسي الكردي السوري، على مدى أكثر من نصف قرن، سببها التكتم على
أخطاء تراكمت، والحيلولة دون ظهور من يكون في موقع المثقف، حتى من نوع
مختزل: حزبي، يسمّي أخطاء حاصلة قبل استفحالها، وتداركها قبل أن تصبح
قاتلة، ولتكون السيطرة الحزبية وامتداداتها السياسية ورعب الأحكام
المطلقة على كل من يفكّر مختلفاً ويكتب بعيداً عنها، عامل كبح لكل محاولة
ثقافية مغايرة، أو فليتحمل المهيَّأ لأن يكون مثقفاً كل ما شأنه تعريضه
لأشكال التنكيل والعزل والتعتيم وحتى التهديد المبطن حتى اللحظة، رغم
متغيرات الواقع، وهو خيار مريع حقاً!

أكاد أجزم هنا في القول، إن حزباً، أي حزب، وباعتباره ينتمي إلى عالم
المدينة، والمدينة لا يمثّلها حزب واحد، أو شخص واحد، إن لم تكن له قاعدة
ثقافية حزبية، ومرجعيات ثقافية من الخارج مختلفة في توجهاتها السياسية
والفكرية ليس أهلاً لأن يكون حزباً، وهذا الحزب غير موجود حتى الآن، حيث
الذهنية البطريركية هي السائدة في القمة، وعقلية الأبناء الذين يعبّرون
عن مواقفهم إزاء أي مستجد، باعتبارهم آباء في مرتبة أدنى، في أحكامهم قبل
تحليلاتهم، من خلال تعاملهم مع من هم في " الخارج" وهم معاً في المجتمع
الواحد نفسه .

إن المفارقة اللافتة هنا، أن الأحداث التي شهدناها في سوريا، وفي سياقها
الكردي، منذ12 آذار 2004، لم تشهد تأريخاً فاعلاً لمَا جرى ويجري من قبل
كتاب ينتمون إلى أحزابنا الكردية، حتى بالنسبة لمن يزعم أن لا صلة له بما
هو حزبي في تنظيراته، إنما يتحرك بأثريات الخميرة التحزبية، كما لو أن
أولي أمر الأحزاب على علم بفداحة الدائر في وسطهم، وأن أكثر الذين
يذيّلون مقالات بأسمائهم هم رموز هذه الأحزاب في المجمل، تعبيراً عن
حقيقة يتمثلها ممثل الحزب الأوحد: إنه الزعيم ومتقن فن الكلام وليس سواه،
كما لو أنه على دراية كاملة بخطورة الكلام، ولكن ما يغفل عنه، إلى درجة
الاستغباء للآخر مهما بلغ من الوعي وتنوَّر، هو أن هذا الكلام ينقلب عليه
حين يسمّيه وحده، حيث الحزب أكبر منه، وأن حزبه ليس الوحيد في البلد:
المدينة، فثمة آخرون من حقهم أن يتكلموا وأن يعبّروا عما يجري مختلفاً،
وهذا يولّد الصّدام الذي يسببه تصلُّب السائد.

نعم، إن المثقف الفعلي" المأخوذ بنشوة الحرية الواعية، إن تذكرنا كنط،
وحديثاً إريك فروم، وحديثاً ادوارد سعيد طبعاً" هم بمثابة صمّام أمان في
مجتمعه، كما هو دور الطبقة الوسطى في المجتمع، ومن باب التقريب، إن عدم
وجوده كارثي، ولأن الذي يتحرك في موقع المثقف، ومن يتهيأ لأن يكونه كمثقف
فعلي، أي يسهم في إنتاج ثقافة، يجد نفسه محروماً من حقه في تمثيل مجتمعه
على مستوى ما يطمح إليه، يجد نفسه مندفعاً إلى الكلام. إنه يتكلم كونه
يحترق بنار أهله بدايةً، ولأنه يرفض الصمت، يتكلم لأنه لا يريد أن يسكت
عن أخطاء حاصلة وتحصل، مستعيداً بطريقة ما، دور شهرزاد، وفي موقع مختلف،
حيث إنه يتكلم ليُعلَم بأمره، وليعلِم مقابله: السياسي أو المناوئ له،
أنه يتقن فن الكلام ليل نهار، ليمنع الموت من بلوغه، ولكن كلام المثقف في
الواقع يأتي لمصلحة السياسي قبل المثقف، باعتباره يمثّل طرفاً، أو
أفراداً لهم توجه عقائدي، إذ يحرّره من عقدة الأنوية الزعاماتية، ومن
فرديته الطاغية، وبالتالي يمهد لحياة تجعل الاثنين في وئام مثمر، وكون
المثقف يفصح عن تاريخه الطويل من لحظة كونه شاعراً وساحر جماعة وكاهناً،
حيث انشغاله بما هو ثقافي يمنحه هذا الحق6.

إن ذلك لا يمنع من الحديث عن انغواء المثقف بذاته كما ذكرتُ سابقاً،
باعتباره الساحر المأخوذ بسحره، وحتى بعقدة الظهور، بنوع من المنافسة مع
السياسي أو الحزبي، وثمة أخطاء تتناسل صحبة هذا التصور حيث يجد نفسه
الواحد والكل، الأنا والآخر، حيث تتشكل لعبة الكلمات دون أن تجد خاتمة
لها، والذين يضيّقون عليه الحصار لهم دور في تنامي هذه الحالة، ولكن ذلك-
ومن أجل الجميع- لا يمنع من الإصغاء إليه7.

إن تجاهل المثقف هو نوع من الاعتراف به، ولكنه الاعتراف الذي يصعّد
بالمواجهة وتوتير لغة الكلام أكثر، إلى درجة أن المسافة الفاصلة بين
الاثنين تشهد المزيد من التوتر مع الأيام، إن الحق في الكلام يتجاوز
صاحبه: المثقف، لحظة الاهتمام به، حيث إن الإصغاء إليه قد، أقول قد، يحثه
على التروي أكثر، والاهتمام بالحقيقة بسوية أكثر.

وفي ضوء الراهن، فإن المعتبر حزبياً كردياً أو سياسياً كردياً، قد وسّع
ساحة الخصومة بينه وبين الذي يعتبره مثقفاً، ومناوئاً له، انطلاقاً من
موقعه الذي يريده محرَّراً باسمه، كما لو أن مجرد الاقتراب من المثقف
تهديد له، ولعله فطن فيما يتفكره، طالما أن تاريخه مثقَل بأخطاء تتراكم
وهي في تنام ٍ حتى كتابة هذه الكلمة، وكل ذلك يمثّل اعترافاً ضمنياً
بجدوى كلام المثقف، ولكن إرادته في اللاتغيير، تحول دون الانفتاح، وبنوع
من السادية والمازوشية معاً: السادية في إقصاء المختلف، والمازوشية، في
إلزام نفسه أن تستمر على هواها، حتى وهي تعذّبه في القطيعية المتداولة
هذه.

الأول سعيد بقطيعه، لكنه لا ينظر إلى رحابة السهل الممتد أمامه، والثاني
تكون سعادته في الوقت الذي يتمكن من ملامسة حقيقة وطرحها، وإيجاد الآذان
الصاغية دون وجود صلة مباشرة بينهما، وهي سعادة يفتقدها الكردي كثيراً،
لأن النزعة القطيعية لا تتطلب منه سوى النظر في الأرض، بالمعنى الضيق، أي
المؤطر جداً، واتباع حركة العصا وتلويحاتها الناهرة وصيحة الراعي:هششش..!

ولا بد أن استمراره في موقعه مقنَّع، ومبرَّر وسط مجموعة من المعتبرين
كتاباً وحتى باسم المثقفين المقربين: مداحين ومصفقين ومتحلقين حوله،
ومعبّرين عما يبتغي هو، وكل ذلك يترجم مدى تأصل النزعة الأبوية القاتلة
فيه، ولعل هذا الصنف والمستشري في وسطنا ثقافياً، يجد ضالته في حالة
التبئيس التي نعيشها، ولأن ثمة قبولاً له، كونه يضحّل فعل الثقافة، بقدر
ما يشوه مفهوم المثقف بالذات ويحُول دون ظهور الحقيقي منه، وهذا يدغدغ
مشاعر الحزبي أو السياسي، بما أن هذا الطحلب الثقافي يغطي الماء الراكد،
وكأن الأخير هو الطحلب، وأرى أن خطر هذا الصنف على المثقف يكاد يبز خطر
السياسي أو الحزبي، لأنه يتمثل المثقف زيفاً دون عناء جهد وهو متقلب،
ويزكّي الآخر: السياسي أو الحزبي، ليستمر في موقعه الخطأ، وخصوصاً حين
يضيق المقام كثيراً بالمثقف المتنور وهو قيد التشكيل، والذي يكون أكبر من
نسَبه الفئوي والاثني والحزبي.

في الحالة الثانية( حالة عدم وجود مثقف)، وهي الملموسة، ومن السهل العثور
على " أبطالها" المعتبرين ورموزها وحماتها ومفتيّيها، حيث إنهم أبعد ما
يكونون عن عالم الثقافة بالمعنى الفاعل للكلمة، في ضوء ما تقدَّم حتى
الآن، وما في ذلك من متناقضات مبنى ومعنىً.

إن قول أحدهم في وسط حزبي أو سياسي كردي راهن خاصة" لا يوجد مثقف"،
وأحياناً في التهكم المتمثل في عبارة( المثقفون أضحوكة مجتمعهم لما بينهم
من خصومات ومنازعات)، طبعاً كتغطية على أخطائه أو أخطاء من يتحدث باسمه،
هو قول مطعون في ذاته وفي الصميم، باعتباره اعترافاً يقوم على عقم الحزبي
أو السياسي الكردي، وعدم تقبله لوجود مثقف، ليس منافساً له، إنما له دور
يتجاوزه وينير عالمه نفسه معاً، ولكنه اعتراف ينطوي على لؤم أهلي أو
تكتلي، أو تحزبي، إذ إن القول بعدم وجود المثقف استهانة بحقيقته، كما لو
أنه يشير إلى أن المثقف الوحيد هو الذي يعنيه الحزب وحده فقط.

لكن للمسألة هذه ذيولاً هي الأخرى، وهي أن إلغاء الاعتراف بوجود مثقف،
نوع من الدعاوى السياسية والحزبية الرخيصة كردياً، لضم كل شيء إلى الحزب
وممثّله، وفتح في المجال واسعاً لمن يتحدثون بلسانه باعتباره أصفياءه، أو
مثقفيه، وهم ليسوا أكثر من بيادق شطرنج، رغم أن للشطرنج قواعد عالمية لا
يمكن خرقها، ولكنها بيادق تتبع أهواء اللاعب وصعوبة التكيف مع القواعد،
وبالنسبة لنا، تكون الرغبة فاعل عمَى تاريخي، وكأن السائد جملة خروقات
تترى.

في الحالة الثانية هذه، تكمن الطامة الكبرى، في كون المردّد لها، غير آخذ
بعين الاعتبار، ما يترتب على قوله من نتائج وخيمة، تودي به، أو تنقله من
خطأ لخطأ أكبر، باعتباره المتكلم والمصغي، أو بصفته الحقيقةَ العملية
والنظرية.

وإذا كان هذا القول، يعني أن ليس من أحد خارج دائرة الحزبي أو السياسي
الكردي وما هو أو من هو مقرّب إليه ومنه، فهو السير صوب الهاوية، وليكون
الجاري في واد ٍ، وما يقال ويتردد في الرواق الحزبي الضيق في واد آخر ٍ،
ولعل الجاري يسمّي في بؤس مسمّاه ما كان معاشاً في العقود الزمنية
المنصرمة كردياً، عبر أمكنة أو مراكز تسمّي السياسي أو الحزبي الكردي
الفئوي أكثر، وتقدّم مَن برسم المثقف على سرير بروكروستي.

راهناً، كما نوَّهت، يمكن ملاحظة هذه الأدواء، حيث يستأثر الحزبي أو
السياسي الكردي بكل شيء عملياً، بقدر ما يبرر لكل هفوة أو غلطة يقع فيها
من خلال زعم جسامة التحديات، وتأتي التصريحات السياسية، أو عبر طروحات لا
تولي الواقع السوري المعقد ذلك الحد الأدنى من الاهتمام، من ناحية تحمل
مسئوليات لا تعنيه وحده، لأنه ليس الوحيد، إنما ثمة آخرون، لا ينبغي
تجاهلهم لحظة التفكير في أي شيء، في موقعه العربي أو السرياني أو
الأرمني" على مستوى منطقتنا"، على الأقل لتكون لغة السياسة أكثر نجاعة،
والحوار يكون متواصلاً، ولكن الاستمرار في الخط الأحادي الجانب، لا يخلو
من عواقب، كما في التخبط الذي يسهل وعيه، في الشعارات التي تحملها يافطات
وتزخر بمتناقضات شتى في اليوم الواحد.

أكثر من ذلك، إن السير في الزابوق السياسي أو الحزبي الكردي، ليس أكثر من
اختزال مريع لواقع الحال، إذ إن المجتمع ليس عبارة عن جينة سياسية أو
حزبية فقط، إنه مجموعة مقومات ثقافية وتاريخية واقتصادية وتربوية وفنية
وسياسية معاً، والأخذ بها جميعاً يمثّل ضرباً من ضروب الأمان النظري
والعملي، وتجنباً للوقوع في أخطاء لا تحتمَل نتائجها.

في التقابل، يبرز السياسي الكردي زاحفاً صوب المدينة، مستسيغاً السكن
فيها، لكنه في خانة ريفية، ويحمل داخله أزقة القرية، دون المدينة
وشوارعها، رغم أن ولادته حزبياً ذات مؤثّر مديني، ولكنه يخدع نفسه مرتين:
حين يتصرف بهيئة المديني دون أن تفارقه عصا الراعي، وفي جيبه قلم يقطّع
في الكتابة، ولسانه يتلعثم لأنه يقود القطيع المسيس، وحين يلغي التنوع في
المدينة، وهو وهم يترتب على انخداعه في الحالة السالفة، بينما المثقف فهو
ربيب المدينة أساساً، وقلمه سيال، مهما أفصحنا عن بعض بقايا مؤثرات قروية
لديه.

الأول، السياسي الكردي، مهووس بالشعارات، تتجاوب مع ضربات العصا
وحركاتها، موصول بشدة إلى ممرات ضيقة غير آمنة، بينما المثقف فيهوى
التأمل، وتسعده مجاورة الحقيقة الكبرى، وعدوه اللدود هو العصا ذات
العقَد..

والأول يهمه الكردي، بقدر ما يبرز تركيزه عليه دون الكشف اللازم عن موقع
الكردي إلى جانب آخرين يشاركونه في تقاسم المصائر المجتمعية، بينما
المثقف فهو رغم كونه كردياً، يبقى مادّاً بنظره وبصيرته إلى الجهات كافة،
فيكون الكردي وسوى الكردي محط اهتماماته، إلى جانب القضايا الكبرى: قضية
المرأة والتربية والثقافة والسياسة في تنوعها.

يكون السياسي مفتوناً بالحساب غالباً، بينما المثقف فبالهندسة، إلى درجة
أن السياسي نفسه موضوع من موضوعاته..

وبالتالي فإن السياسي هو الذي يعمل وفق مخطط أو برنامج يتبعه، فهو مأخوذ
به، بينما المثقف، أي مثقف هنا، وليس الكردي هو المعني بالذات، ففي
الحالة التي يستشعر دائماً أن ثمة ما ينقصه ليوسع مفهومه باضطراد، فيكون
أكثر من الهاوي الذي تقدَّم به ادوارد سعيد نفسه، كما لو أن ثمة مدينة
فاضلة ملهمة يسعى إليها باستماتة.

نعم، ثمة مثقفون كرد، ولو أن صفة المثقف لم تتبلور كما يجب طبعاً، إنهم
رهن الشروط الممكنة تاريخياً ومجتمعياً فقط، وضمن لائحة اعتبارات تستولد
مثقفيها كتنوع هنا، وحيث إن بنية الكتابات التي يمكن متابعتها انترنتياً،
وفيما هو جار هنا وهناك، تشير إلى الصراع الذي يعيشه أصحابها وتوقهم إلى
الاسم الذي يحثّهم على الكتابة: المثقف، وهم أصناف:

الصنف الذي تستهويه الكتابة في هذا المقام، لأنه يجد من يهتم به، بنوع من
 التسلية ولفت النظر إليه، وهو كثير.

وأقرب تشبيه له هو الأرنب، كونه يستسيغ التحرك في برّية غير متاحة لأي كان ببساطة.

الصنف الذي يقدّر دور المثقف، ولكن لذلك ثمناً، الأمر الذي يبقيه عبئاً
على الاسم، يعتّمد أكثر مما يضيء.

وأقرب تشبيه له هو الثعلب، الذي يحسَب على السباع طبعاً، ولكنه مطرود من
دائرتها فعلياً.

الصنف الآخر: الثالث، وهو الأقل بكثير، وهو يعمل بكل طاقته دونما نظر في
النتائج كرمى شرف الموقع.

وأقرب تشبيه له هو النمر الذي يسابق الريح ويتسلق الشجر وهو محل هيبة
ورهبة يكون، وهو مهدَّد من جهة الضباع..

وهذا يعني، ضرورة المزيد من بذل الجهود، والدخول في مجابهة لا يجب النظر
إلى الوراء من خلالها، إذ ليس أكثر تكلفة من عمل المثقف وهو مفتوح
الجبهات، متعددُها، نظراً إلى سمو الهدف، والحقيقة المجتمعية، وأن
الاستمرار في هذا الطريق الذي يستشرف عالماً أوسع مما هو قائم، وحده
الضامن لولادة المثقف، ونزع الاعتراف مع الزمن من المتشددين والمناوئين
له كردياً، حيث الموضوع يتركز على ذلك، وهذا يتطلب المزيد من المجابهة
بالمزيد من التروي في الكتابة وتوسيع دائرة الكلام وهو ليس أي كلام،
باعتبارها الأسلوب الأفضل لحمل مناوئه على الاعتراف به عاجلاً أو آجلاً.

نعم، لقد كان دون كيشوت يحارب طواحين الهواء، وصار مثالاً في السخرية
منه، لأنه لم يراع الواقع كما يجب، أي لم يلتزم بقواعد" الحشمة" والأعراف
في مجتمعه، ولمثقفنا عموماً والكردي خصوصاً، باعتباره لا يمثّل نفسه أو "
جماعته الاثنية وحدها"، مهمة مزدوجة في حربه على الأخطاء، وبالتالي، نسبة
لافتة من هذه الدونكيشوتية، لكنني أحب أن أطمئِن كل من يستهزئ من دون
دونكيشوت من هذا المنظور، أنه مثَّل حرباً على المأخوذين بالواقع في أدنى
مستوى من الحياة فيه، إنه سخرية الساخر بالذات، وأظن التاريخ يحتفي بدون
كيشوت باعتباره المنتصر وليس مَن هزئوا به.

خلاصة القول: ليس المراد هو الإيقاع بأحد لصالح آخر، لأننا أبعد ما نكون
عن مفهوم المعركة، وكيف يمكن لطرف أن ينال من آخر، إنما في الحد الأقصى،
كيف يمكن لكل الأطراف أن تتحرر من ضيق أفقها، ولكلٍّ موقعه، حيث إن الوطن
الذي نحرص عليه، أو نريد الحرص عليه، يتسع للجميع، إنما لحظة الاحتفاء
بولادة المثقف الذي نكون انتظرناه طويلاً.

سؤال المثقف الكردي إذاً معلَّق، وليس من جواب ناجز حوله، وكأن ولادته
رهن ما نعيش وما نطمح إليه، ونحققه من تغيير جوهري أو بنيوي بمستويات
شتى!

=========

إشارات

*- هذا المقال عبارة عن محاضرة ارتجلتها مساء السبت بتاريخ23-6/2012، في
مدينة قامشلي..

1-ينظر حول ذلك ما أثاره ادوارد سعيد، في : الآلهة التي تفشل دائماً،
ترجمة: حسام الدين خضور، دار التكوين، دمشق/ 2003، فصل( صور المثقف) على
الأقل، وعنوان الكتاب في الأساس، هو ( تمثيل المثقف)، وما أثاره قبل ذلك
عبدالله العروي في : أزمة المثقفين العرب تقليدية.. أم تاريخيانية؟
ترجمة: د. ذوقان قرقوط، المؤسسة العربية، بيروت، ط1/ 1978، ص 151، وما
بعد، ومواد الكتاب: الثقافة والمثقف في الوطن العربي" تأليف جماعي"،
منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1/ 1992....الخ.

2- ما يعرَف عنه بالكاتب اليوم في استقلالية معينة، ليس الذي كان في
الأمس، كما هو اسم الأديب( من الأدب)، حيث كان الجانب الأخلاقي بارزاً،
وهذا جانب جلي في مقدار التحول الطارئ على مفهوم الاسم، وهذا يشمل المثقف
بدقة أكثر، كما هو الممكن تتبعه في كتاب دومينيك أورفوا: المفكرون
الأحرار في الإسلام، ترجمة: د. جمال شحيّد، دار الساقي، بيروت، ط1/ 2008،
وما أثاره : د. علي أومليل، في كتابه: السلطة الثقافية والسلطة السياسية،
مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1/1996، ص 225، وما بعد، وما تعرَّض
له محمد الشيخ من منظور حداثي، في كتابه: المثقف والسلطة" دراسة في الفكر
الفلسفي الفرنسي المعاصر"، دار الطليعة، بيروت، ط1/ 1991...الخ.

3- أشير هنا، على الأقل، إلى ما أثاره علي حرب، في كتابه: أوهام النخبة،
أو: نقد المثقف، منشورات المركز الثقافي العربي، بيروت،ط1/ 1996،
وعبدالإله بلقزيز، في كتابه: نهاية الداعية" الممكن والممتنع في أدوار
المثقفين"، منشورات المركز الثقافي العربي، ط1/ 2000...الخ.

4- سعيد، ادوارد: في مصدره المذكور، ص17- 18..

5- المصدر نفسه، ص 104.

6- يمكن متابعة مفهوم المثقف تاريخياً، وصلة المثقف بالواقع ومتغيراته
ضمناً، من خلال كتاب تيري إيغلتون: فكرة الثقافة، ترجمة: ثائر ديب، دار
الحوار، اللاذقية،د.ت، صص11- 71.

7- حول ذاتيات المثقف، أو نرجسيته، مجدداً، يمكن تبين ما أثاره علي حرب
في كتابه المذكور،وكذلك بلقزيز في مصدره المذكور، حيث تتنوع حالات
النرجسة هذه، وتلك التي لها صلها بواقع ومجتمع والذين يحيطون به.