إبراهيم اليوسف : سرديات مفتوحة على التحول : ثورات الربيع العربي تفرزأدبها الجديد

2012-06-18

كأنه مجرد حلم، أن أفتح عيني الآن، وأنظر ماحولي، لأجد تلك الأفواه التي كبلتها أصفاد الصمت، باتت تردد، على اتساعها، في ساحات التحرير، مالم تكن قادرة على التفوه به. الملايين من أبناء الوطن، باتوا يكسرون في أعماقهم، تلك الحواجزالتي كانت تمنعهم من نطق ما يدورفي مخيلاتهم

ومايرون أنه الحقيقة، وهوالحقيقة عينها،لاريب..!، كي تسقط بهذا سطوةالخوف، وصورعسسه، وشوكاتهم، وتقاريرهم، وسياطهم، وتخلع أبواب زنزاناتهم، و تهدم غرف التعذيب التي كانت تروم تحويل هذه الجموع، إلى  مجرد قطيع، ببغاوي، مصفق. بل إن أعظم من كل هذا وذاك، أن تجد صوراً، أوتماثيل كانت محروسة من قبل، بالرعب، بيدأنها باتت تتهاوى، لأنها كانت مرفوعة على دعامات الوهم"

مقطع من مخطوط روائي لأحد كتاب ساحات التحرير
 
لايزال الشريط الزماني، الذي بدأ منذ إشعال البوعزيزي شرارة ثورات الربيع العربي، وعلى غيرعلم منه، بما هوفاعل،لايتجاوزبضعة عشرشهراً-فحسب- حيث شهدت المنطقة، جملة تحولات هائلة، باتت بادية للعيان، على الأصعدة، كافة، لاسيما وأن عدداً من أركان إمبراطورية الرعب والاستبداد، قد اهتزَّت أمام أعين سكان المنطقة، بل وأبناء المعمورة، أجمعين، في الوقت الذي كانت تلك الآلة الرهيبة، راسخة، تهيء سبل الإيهام بجبروتها،يوماً بعد يوم، إلى أن يغدو الأمرشبه يقيني، في مخيال من يتلظون في محرقتها، على حساب أمنهم، ورغيفهم، وحلمهم، ومستقبلهم، بل وبات الأمرفي ثياب القدروالمصيرالمحتومين، وكأن لاخلاص منهماالبتة، ماأضفى بظلاله السوداء الأليمة، في ذهن من هم في  لجة المعاناة، لدفع ثمن ذلك غالياً، إلى الدرجة التي باتت الأجيال تترى،في هذه الدوامة: الجد،والابن، والحفيد، تتناسخ أوضاعهم في مايتعلق بنصيب كل منهم، في الهواء، والحرية، والعدالة، والكرامة، بل أن انحداراً رهيباً،بات يظهرمع استمراردورة الزمان، نحوالأسوأ، ومقياس ذلك أن السجن المركزي في هذا البلدأوذاك، بات يفرِّخ سجوناً، وإن الإحساس بالفاقة والحرمان، وشيوع الفساد بات يتحول إلى هاجس يومي، يرافق الحياة اليومية، لمجتمعات كثيرة، لاسيما وأن كسرآلة الرقابة الفظيعة، نتيجة التبدلات الكبرى، في مجال ثورات الاتصالات، كان بمثابة المرآة العاكسة لواقع شرائح القاع الاجتماعي، في مجتمعات باتت الهوة شديدة المفارقة بين طبقتين، إحداهما تملك كل شيء، والأخرى لاتملك أي شيء، في ظل غياب الطبقة الوسطى، التي يظل وجودها ضمانة أكيدة، في تلك المجتمعات،على إمكان الموازنة، بين أطراف المعادلة، وتخفيف حدَّة المواجهة بين الأطراف، بل وتخفيف صدمة الطبقة المعوزة، من خلال استفادتها من الطبقة القريبة عليها، ذات منظومة القيم والأخلاق، ولوعلى حساب عرقها،وكدها، باعتبارهاأسطون الوطن، وبانية صرحه، وأداة حمايته وتطوره.
بدهي،على ضوء مثل هذه التحولات العظمى، المشارإليها أعلاه، أننا أصبحناعلى حين غرة، إزاء سقوط صوى هائلة، كانت لها هيبتها، وسطوتها، المفروضة بالناروالحديد، بيدأنها باتت في مهب رياح التغييرالعظمى التي شهدتها المنطقة، وبات لامنجى من الخروج  من دائرة هبوبها، وهوما ينعكس على طريقة أفكار، كل من هم في إطارالمكان، أياًكان موقعه، حاكماً أم محكوماً، الأمرالذي يسهم في توليد منظومة وعي جديد، له أصوله، ومكوناته، المبنية-أساساً-على حالة صنعتها الجماهيرالشعبية، من"الغلابة"،المغلوبة على أمرها،وهي القاعدة الأوسع، ليكون-في التالي-ثمة فرزبين الأقلية الناهبة، المستفيدة، وهي البطانة الفاسدة، والأكثرية المنهوبة، التي ترتبط مصلحتها بقضايا الأمة،والوطن، واستراتيجات المستقبل المأمول، المستقبل الذي أصبح، قاب قوسين وأدنى.و إن مفاتيح الولوج إلى عوالمه، توافرت بين أيدي، بعض صناع الثورات، وهم صناعها، بيد أن الحصول عليها، لما يزل في مرحلة المخاض لدى آخرين، لايزالون يدفعون ضريبتهم، أغلى، مادام أن آلة الاستبداد التي تؤخرانطلاق الثورات المواجهة لها، باتت تستفيد من أخطاء السابقة عليها، فانصرفت إلى زيادة عمرها، ليكون ذلك على حساب ابتلاع طاحونة الأرواح والدماء المزيد من الضحايا السائرين، بثقة عالية، وروح عارمة، مؤمنين بالخلاص الأكيد.
وإنه لمن المعروف، أن الانتلجنسيا-بشكل عام- تغيرموقعها،في خضم هذه الثورات، إذ باتت تتفاعل مع جملة معطيات جديدة، هي استعادة لبعض الركائز الفكرية التي تراكم عليها الغبار، وغدت وكأنها، في حكم النسيِّ المنسيِّ، بيد أنها صارت في موقع التطبيق، بفضل  الجماهيرالثائرة، التي لم تنطلق إلا من جحيم معاناتها، غيرمستندة-البتة-إلا على أخطوطة اكتشافاتها الخاصة، وإن كانت هذه الاكتشافات، ليست في معزل عن أرومتها النظرية،وديالكتيك التاريخ.
ولاشكَّ في أن الإبداع عموماً، والإبداع الأدبي منه،على وجه الخصوص، يدخلان في إطارالجزء الفاعل،في الإنتلجنسيا السابق ذكرها، حيث إن المبدع في مجالاتهما، بات أمام مصفوفة قناعات، ومعطيات، لم تعد أسيرة النظريات، و مجلدات الكتب،المغبرَّة، المنسية، بل صارت في حيزالترجمة الواقعية، إذ مالت كفة ذلك المبدع الذي لم يزل خيوط الارتباط بينه وشبكة هذه المنظومة الفكرية، وبات أحوج إلى المصالحة مع كل هذه المستجدات التي هي-في الأصل-ليست غريبة عنه، بيد أن المبدع الذي كان يجد نفسه،على النقيض من تلك الرؤى،غدا إزاء خيارات صعبة، لابد تبني ما هومتوائم منها مع الواقع حتى يستطيع خطابه الارتقاء إلى الحالة الجديدة.
حقيقة، لقد أصبح الربيع العربي، بماحمله من مفاجآت مذهلة، للعالم أسره، ملهماً للمبدعين، في المجالات الإبداعية، كافة، ليس بمن حدثت هذه التطورات الكبرى في بلدانهم، أوالذين لماتزل هي قيد الإنجاز عندهم، وإن كانت مهمة الثورات، لاتنتهي ب"سقوط نظم ما"، لأن مهمات الثورة، مستمرة، بل إن هذه الثورات، تؤثرعلى مستوى عالمي، في المبدعين، إلى تلك الدرجة التي يمكن أن يكتب أحدهم، وهوفي أي جزء عن العالم عن طفل سوري، يذبح من الوريد إلى الوريد، لأن من شأن ثورة الاتصالات أن تزيل المسافات، بين بلدان العالم، وتجعل ما يحدث في أقصى العالم، وكأنه يجري في أي بيت من بيوتات الكرة الأرضية الصغيرة.
لقد تصدى السردلمعالجة، موضوعة ثورات المنطقة، على حد سواء، وإن بمستويات مختلفة، بدءاً من القصة القصيرة جداً"ق.ق.ج" ومروراً بالقصة القصيرة، بل والمقال الأدبي، والنص المسرحي، إلى جانب الرواية. ولقد احتضنت بعض خشبات المسرح عروضاً مسرحية، تناولت ثورات ربيع المنطقة، وإن كان بشيء من الانفعالية، ماكان يدفع للجوء إلى السنوغرافيا، في بعض منها،للهيمنة على ثغرات مباشرة تناول الحدث، أوغيرها.
  ولعلّ الرواية والقصة-كجنسين أدبيين-تعدَّان من الفنون الإبداعية التي تتأثربالواقع، وتكون صدى اللحظة الزمانية، بالإضافة إلى الشعر، بيدأن تناولهما للحدث في لحظة سيرورته، يتوقف على عوامل،عدة، تتعلق بكيفية تلقي الكاتب، لصدمة، التغييرات الجذرية، التي تمت، وتتم، بل إن الأمرليذهب أبعد من ذلك، في ما لودققنا، في جوانب الأخطوطة النظرية، التي لامسنا،في ما سبق، بعض جوانبها، حيث أننا، أمام ثلاثة نماذج من الأدباء:أحدهااستطاع التفاعل مع الحدث،وجدانياً، فور بدء"ساعة الصفر"من قبل ثورات المنطقة،عامة، والثورة التي يمتُّ إليها، بصلة جغرافية،محلياً، وثانيها أنموذج تطلبت مصلحته، مناوأة الحدث، وثالثها أنموذج وقف على الحياد، أوبين بين، لاعتبارات متعددة، لا مجال للتفصيل في خوض شروحاتها.
وإذا كانت هناك من أسباب، تجعل الرواية والقصة فنين، يتأخران عن مواكبة أي حدث، بشكل عام، وحدث الثورة، بشكل خاص،فإن ذلك يعود إلى أن القصيدة، تفاعلت على نحولحظي، بالثورة، متماوجة مع خط سيرها، لتشكل ضميرالثورة، إلى جانب أدوات إبداعية أخرى:الأغنية، الموسيقا، اللوحة، المسرح، الرَّقص، وإن كانت الرواية تختلف عن القصة، لاحتياجها إلى زمن كتابة،ناهيك عن شرارة إبداع النص الشعري، قد يأتي عفوياً، بيدأن الإبداعين القصصي والروائي، يحتاجان إلى مددكافية، لما تفرضه أدوات المختبرالإبداعي، لدى كل منهما على حدة.
برز في مرحلة مابعد"الشرارة البوعزيزية"، أن  مبدعين كثيرين، راحوا يزعم كل منهم، أنه تنبأ بالربيع العربي، ويحيل بعد ذلك إلى عمله الإبداعي الذي يذكرفيه مصطلح الثورة، بحسب المفردة الإبداعية المتبعة لديه، أوانزياحاتها، من مطر، أولون الدم، أو أشعة الشمس، وزوال الليل، ويكاد هنا، لايوجد مبدع أصيل، لم يدع في أدبه للثورة، ولم يتناول في إبداعه، إدانة الدكتاتوريات، بل وما أكثرتلك الإبداعات التي راحت تصورسقوط آلة الظلم، ويكاد لايوجد أحد ممن عانوا من القمع والعنف،إلا وحلم بغد ،يكون فيه إنسانه حراًكريماً أبياً.
 وهناك أكثرمن حالة، يطرح فيها صاحبه نفسه" صاحب أول روايات الربيع العربي*، ومن ذلك ما كتبه الكاتب الموريتاني أ حمد فال ولد الدين في روايته" في ضيافة كتائب القذافي"، تناول فيها سجنه  على أيدي هذه الكتائب، وقد جاءت روايته، بطريقة مختلفة،لغة، وبناء. ولعل اشتغاله، في مجال الصحافة، وراءصياغة أحداث الرواية، حيث يصوروضعه، وبعض السجناء،ومعاناتهم، جاء في الرواية"لاتتحركوا..أيديكم إلى الأعلى...لاتحرك يديك أيها الكلب..اسكت..دور..دور"..! . ولقد طرحت هذه الرواية، مسألة جديدة، إلى جانب تناوله حدثاً كبيراً-وهوثورات المنطقة-حيث اقترح بناء شكلياً،ولغة شعرية، وإن من خلال المفردة، المجلجلة، المدويِّة.
كما تأتي رواية"إبراهيم الكوني" فرسان الأحلام القتيلة"**والتي كتبهاً،بعيداً عن أجواء"التيه والصحراء"التي كانت تهيمن على رواياته، ليركزعلى ظهورعلى فئات وشرائح اجتماعية،باتت تتصدرالساحة، في عددمن الدول التي ظهرت فيها الثورات العربية، ولم يكن لها من أثر، من قبل،في مواجهة آلة الظلم في بلدانهم، ويستشهد الروائي،بمقولة أحد رموزالثورة الفرنسية وهي إن من يجني ثمارالثورة هم أسفل السفلة"*، وهي تقدم أولى رؤية نقدية لمن يستغل هذه الثورات، دون أن يدفع أية ضريبة، ولعل الأمثلة-من حولنا-كثيرةحقاً..!.
كما نجد، أن القصة القصيرة، ستكون أكثر حظوة، من خلال مواكبتها للتحولات الهائلة، التي تجري،إذ أنه يكاد لايخلو مهرجان قصصي، إلا وتتم فيه قراءة، قصة، أوقصص، تتناول هذه التحولات، ومواكبة مايجري، ولومن قبيل إدانة دوامة العنف التي تحرق الأخضر، واليابس،في آن واحد، من قبل أعداءالحرية من المتشبثين بعروشهم، وإن كان ذلك على حساب حرق أوطانهم، وهلاك شعوبهم، ولقد كانت المبادرة الرسمية في جمع نتاجات الشباب الجديد، ممن هم دون سن الثلاثين، إعلان المعهد الدانماركي في دمشق إلى مسابقة أدبية، ضمت القصة والشعر، وذلك بعد مرورمجردأشهر،على انطلاقة هذه الثورات، وقد تمَّت  طباعتها في كتاب بعنوان" صفاء يوم جديد" باللغتين العربية والدانماركية، وشارك فيه كتاب من سوريا ومصروالأردن وموريتانيا.  
وأخيراً،لابدَّ من القول: إنه إذا كان لابدَّ لبعض الأشكال الإبداعية، أن تحسم أشكالها الفنية، وهي تواكب ثورات الربيع العربي، فإن الرواية، تحتاج إلى بعض من الوقت، لأنها تحتاج المزيد من الوقت، للاشتغال على أدواتها الإبداعية، وإن كانت القصة القصيرة، بل والقصيرة جداًأكثراستجابة، كما الشعر، والأنشودة، لتناول سؤال الثورة.
إن هذه الثورات، التي تترك دويَّها، وصداها، من خلال ضريبة الدم العالية،عبرطابعها السلمي الذي تواجهه آلة الاستبداد بالعنف، إذ تضع حياة أمم، وشعوب هائلة، على طريق جديدة،طالما حلمت بها،لأنهاتوصلها،إلى تحقيق وترجمةحلمها الإنساني، بعيداً عن العسف الممارس بحقها، فهي توجد معادلها،الإبداعي،العام، ومن بينه السرد، أحدأشكال الإبداع الإنساني العظيم.  
 
 
*لسنا،هنا،في سياق، تحديد أسبقية كتابة أي اسم لهذا النوع من السرد، أوذاك، لانصرافنا، إلى تناول السياق السردي العام،كحاضن لفعل الثورة.
*محمدبوخزاز"إبراهيم الكوني يصدررواية تتناول"الربيع العربي"
صدرت رواية الكوني ضمن سلسلة مطبوعات مجلة دبي الثقافية
*داربيركوفود-إعداد خالد خليفة-2012