خالد جميل محمد : الفيدرالية بين مفهوم الاتحاد وذهنية التقسيم

2016-04-04

تكاد معظم الأبحاث والدراسات السياسية والقانونية تُجمع على أن الفيدرالية بصفتها مفهوماً سياسياً، تعادلها كلمة (الاتحاد) في اللغة العربية، ليكون أحدُ اللفظين معادلاً معجمياً واصطلاحياً ومرادفاً لغوياً للآخَر، بل يمكن أن يُستخدَم أحدُهما بدلاً من الآخَر ليؤدي الدَّلالاتِ نفسها دونما خلط أو التباس. لكنَّ إشكالية الخلط والالتباس انبثقت من مساعي بعض الباحثين والدارسين والساسة العربِ في تحوير معنى المفردة إلى خلاف ما وُضِعتْ له، كـردّة فعلٍ على ما نادى به الكورد في العراق سابقاً وفي سوريا حالياً. 
 
الفيدرالية التي هي (الاتحادُ) وفق ما يريده الكوردُ، في ضوء التعريفات العديدة والمتنوعة للفيدرالية، تعني (استقلالَ الوحداتِ الدستورية) ضمن إطار (الدولة الفيدرالية/ الاتحادية)،  لكنها صارت تعني في كتابات كثيرين من الكُتاب والساسة العرب (التقسيمَ). وتكتظ الصحف العربية بكتابات لا تكتفي بتصحيف مفهوم (الفيدرالية/ الاتحاد) ومسخه، رغم معرفة الدلالات الحقيقية لهذا المفهوم، بل تنحو كتاباتٌ منها منحى (تخوين) الآخَر / الكوردي المطالـبِ بــ(الفيدرالية/ الاتحاد) بوصفها صورةً من صور الحلّ لتراكماتِ عقود من سنين القهر والاستبداد التي لاقتها المكوّنات الإثنية أو الطائفية في ظلِّ مركزية الحكم والسلطة والقرار، وما يلازمها من عنف وقمع للحريات وانتهاكٍ لحقوق الإنسان والشعوب والطوائف في مختلف مجالات الحياة السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، العلمية، الأدبية والتربوية.
 
الكتابات العربية التي ينظر أصحابها إلى (الفيدرالية/ الاتحاد) على أنها/ أنه (تقسيم) لا ترى في (فيدرالية) الدول الفيدرالية الأُخرى تقسيماً، بل تأخذها نماذج لمثالٍ راقٍ في النظام السياسي، في تجارب دول وشعوبٍ أثبتت نجاحها في ظل النظام الفيدرالي، لكن تلك الكتابات ترى في مطالبة الشعب الكورديِّ بالفيدرالية ضرباً من التقسيم والانفصال وأحياناً تراه ضرباً من (الخيانة الوطنية!).
 
الفيدرالية المقصودة في هذا السياق، هي التي يطالب بها الكوردُ السوريون، لأنْ تَـكون نظاماً سياسياً يضمن لهم العيش ضمن (الدولة السورية الاتحادية) المنشودة، في أمن وأمان واطمئنان وسِلْمٍ واستقرار، بعيداً عن الصراعات المستدامة التي تخلقها أو تختلقها الأنظمة المركزية والمستفيدون منها. وتقوم هذه الفيدرالية على مبدأ التعايش في سوريا فيدرالية لامركزية تصون وتحفظ حقوق المكونات كلِّها دونما تمييز أو قهر أو استبداد. وهذي الفيدرالية المقصودةُ كوردياً ليست تقسيماً أو انفصالاً كما تميل تلك الكتابات إلى تأويلها وفق تصوراتٍ ومصالح تخدم النظام المركزي على حساب الأقاليم والمكونات الجِهوية الأُخرى.
 
بعد أعوام من التدمير والتقتيل وغرسِ روح الانتقام وترسيخِ الشروخ بين مختلف مكوّنات الشعب السوري وطوائفه المتعددة، فإن الفيدرالية في سوريا لن تكون حَـكراً على الكورد دون سِواهم، بل يراها الكورد أنها الحلُّ الأمثلُ لمشكلاتٍ يتعذّر حلُّها بأي سُلطة مركزية جديدة، وبأي ضربٍ من ضروب العنف والقوة التي أثبتت عدمَ جدواها طوال خمسة أعوامٍ من سفك الدماء والتهجير والفوضى وتحويل سوريا إلى ميدانٍ لمساومات القوى العظمى، بل على مدى عقود من انتهاكات متنوعة الأشكال بحق الكورد في هذا البلد. ومن هنا تبدو الفيدرالية، وفق الرؤية الكوردية الراهنة، أنجعَ نظامٍ يمكن أن يَصونَ الواقعَ والمستقبلَ السوريَّينِ من حالة الاقتتال والتناحر والصراعات المزمنة.
 
مطالبة الكورد بالفيدرالية تعكسُ تصوراتهم عن كونها حلاً جامعاً مانعاً لأغلب المشكلات التي نجمت عن سياسات القهر التي طالت السوريين عامة والكورد بصورة خاصة، حيث يهدف الكورد السوريون من خلال النظام الفيدراليِّ، إلى إثبات خصوصيتهم وهُويَّتهم بصفتهم جزءاً من الشعب الكوردي الذي قسَّمته سياساتُ الدول الكبرى وفق اتفاقات معلومةٍ، ويتطلعون إلى حماية أنفسهم من عمليات الصهر والمحو والتنكر والإقصاء المتَّبعة بحقهم، ليطمئنوا إلى سلامة مستقبلهم، ويستعيدوا ما افتقدوه في ظلِّ أنظمة ومعارضات تكاد تختلف على أشياء كثيرة، إلا في ما يتعلق بالكورد وحقوقهم (في سوريا لامركزية، فيدرالية/ اتحادية).
 
يرى الكورد أن الفيدرالية لا تعني المحوَ الكلّيَّ لسلطة المركز، بل تعني التوفيق بين اللامركزية والمركزية والحدّ من كلٍّ منهما، وفق دستور فيدرالي/ اتحادي واضح النصِّ، لا يحتمل الـتأويلات والتخريجات، ولا يخضع لمزاجيات طرفٍ دون آخر، كما لا يكون قابلاً للتغيير إلا من قِبل هيئة تشريعية عليا تكون فوق كل السلطات. وليست الفيدرالية المنشودة كوردياً، خروجاً عن/على وحدة البلاد، بل إنها ترسيخٌ لحالة (الاتحاد) في إطار دستور يحدد للمركز سلطاته كما يحدد للأقاليم أيضاً سلطاتها ضمن الاتحاد السياسي الجامع (غيرِ المُفَـرِّق). وليست الفيدرالية الكوردية تنازلاً/ نزولاً للسلطة المركزية عن مقامها، بل هي توزيع للسلطات بين الأقاليم والمركز، ولا تعني نزعاً لسلطات المركز بقدر ما تعني مشاركة الكورد وغيرِهم في صياغة طبيعة هذه السلطات وتحديدها وفق نصوص دستورية اتحادية لامركزية، إلا أن (الفيدرالية) التي يطرحها الكورد، أياً كان نوع تلك الفيدرالية، لا تزال تأخذ تأويلاتٍ في كتاباتٍ عربية تنحو بها هنا وهناك لإبعادها عن كُنهها ومضمونها السياسي والقانوني الحقيقي.
 
ما يريده الكورد في (النظام الفيدرالي) هو الحدُّ من انتهاكات الحقوق ومن الممارسات التعسفية التي ظلَّ المركز يلجأ إليها بحقهم خاصةً. كما أن المعارضة السورية، الداخلية والخارجية، المتشددة والمعتدلة، في معظم توجهاتها وممارساتها وخطاباتها، أثبتت أنها تـتـفق مع النظام السوري الحالي في النقطة المتعلقة بالفيدرالية/ الفيدراليات المنشودة كوردياً، سواءٌ من جهة الأطراف الكوردية التي تدخل ضمن صفوف المعارضة السورية أو الأطراف الكوردية التي تقف في صفِّ النظام، أو التي تقف في مواجهة المعارضة والنظام معاً أو التي تقف على الحياد من الجميع. 
 
الفيدرالية / الفيدراليات التي يفهمها الكورد السوريون (اتحاداً) وضرباً من الاستقلال الذاتي لكلٍّ من الوحدات الدستورية أو الأقاليم الداخلة في إطار (الدولة الفيدرالية/ الاتحادية) المقصودة، يرفضها النظام السوري وترفضها المعارضة على حدٍّ سواء، حيث تراها ذهنية كلٍّ من النظام ومعارضته أنها (تقسيمٌ) يريده الكورد لبلدٍ يدركون عواقب السعي إلى تقسيمه أو الانفصالِ عنه في المرحلة الراهنة، في سياق الأزمات الإقليمية والدولية القائمة.