د . محمود عباس : بوتين يتناسى الاقتصاد

2016-01-14

 يؤكد أغلب المحللين السياسيين على أن القوة العسكرية الروسية، وعنجهية بوتين، السبب الرئيس في استمرارية الصراع السوري، وعدم زوال بشار الأسد حتى الأن، ومساندة إيران له، قبل تخاذل الدول الكبرى والمفرزة كأصدقاء للشعب السوري، والتي لا تعكس خلفيات روسيا الاقتصادية ولا قوة اقتصادها، مثلما يسندون ظهور المنظمات التكفيرية الإسلامية في سوريا والعراق إلى قادة المذهبين الوهابي والشيعي معا. ونادرا ما يبينون السلبيات الناتجة في الحالتين، ومتناسين أنه:
 
 في الأولى، البنية التحتية التي تدعم القوة العسكرية الروسية أضعف من أن تتمكن من الاستمرار أو على الأقل مواجهة النزيف الحاصل في قوتها الاقتصادية، ومن مخزونها الوطني، أو من ثرواتها، المبنية عليها الدخل القومي الروسي العام، والتي تأخذ منها التصاعد العسكري قوته، علماً أن الميزانية المفرزة لهذا القطاع رغم ضخامتها بالنسبة للدخل القومي الروسي، هشة مقارنة باقتصاد الدول الكبرى العالمية الأخرى وخاصة أمريكا. فنفقات روسيا على السلاح رغم تصاعدها البوتيني في عام 2015 لم تتجاوز 83 مليار دولار، وكانت بنسبة 21% من إجمالي نفقات الميزانية العامة الروسية، و5% من الدخل القومي العام، علماً أنها تقترب من النسبة الأمريكية، لكن وحسب الأرقام، البون واسع، ففي أمريكا بلغت 600 مليار دولار عام 2013، أي تتجاوز ما تصرفه روسيا على تحديث السلاح على مدى عشر سنوات، وهذا ما ذكره بوتين في إحدى تصريحاته.
 
  وفي الثانية، أن الثقافة الدينية التي تراكمت منذ اجتياحات القبائل العربية تحت غطاء نشر الإسلام على المنطقة، كانت مشوهة وموبوءة منذ البدايات، فأنتجت الصراع المذهبي-القومي التاريخي بين الفرس والعرب، ونزعة الهيمنة على العالم الإسلامي ما بين خادم الحرمين وأئمة ولاية الفقيه، وهو صراع سياسي إسلامي يعود إلى فترة الاختلافات الأولية التي بدأت منذ سقيفة بني ساعدة، وتوسعت في الفتنة الكبرى، ومن ثم الحرب الأهلية الإسلامية الأولى التي أثارتها زوجة الرسول عائشة مع صديقها في الطفولة طلحة وزوج أختها الزبير بن العوام، مع علي بن أبي طالب، وما يجري هو امتداد لتلك الحقبة ولم تخمد منذ أربعة عشرة قرن.
 
روسيا ليست بالقوة العسكرية السوفيتية في فترة الحرب الباردة كمقارنة نوعية حسب الزمن والتطور التكنلوجي، كما وهي دون السوية الاقتصادية ذاتها، ومواجهته الغرب مستندا إلى التحركات الدبلوماسية الحادة، والاستراتيجية الأمريكية الليبرالية التي انتهجتها الإدارات الأمريكية الديمقراطية، والاستناد على التبجح بدون عمل على قوة القطب الواحد الذي استندت عليها الإدارات الجمهورية وبشكل خاص جورج بوش الأبن، وإبراز التطور العسكري في بعض المجالات أو كما ينوه بشكل غير مباشر إلى التفوق الذي سيحصل في بدايات العشرين القادمة، لا يغيب عنه وعن الغرب أيضا الضعف الاقتصادي بل والتراجع الذي يحدث فيه، كما ولا يغيب عنه وعن خبراء روسيا والعالم الغربي أن أي تطور عسكري في روسيا يرافقه حتما تطور مماثل في الطرف الأخر، والإثارة والتفوق الذي يظهر في المناطق الساخنة والأروقة الدبلوماسية تستند على الإدارات السياسية التي تحكم في الطرفين، وقد حدث مثل هذا الصراع الحاد في فترة رئيس الاتحاد السوفييتي يوري أندروبوف(1914-1984)م بعد موت ليونيد بريجنيف(1906-1982)، وبشكل عام فالدخل الوطني الروسي في عام 2015 لم يتجاوز 2 تريليون دولار وهي دون الاقتصاد الإيطالي خاصة بعد تراجع أسعار النفط والغاز، ولا شك هنا لا تدرس البنية التحتية للاقتصاد، في الوقت الذي تتجاوز فيه الدخل القومي الأمريكي 17 تريليون دولار، بدون أن ننسى أن هناك فرق بين منابع الدخل في الدولتين، فروسيا تستند في كثيره على القطاع العام والذي لا يزال يسيطر، رغم التخصص، على أكثر من 85% من الثروة الوطنية، الصناعات بكل قطاعاتها والزراعة وغيرها، في الوقت الذي تعتمد أمريكا على الضرائب فقط، وللمقارنة فإن ميزانية البنتاغون  تقترب من 40% من ميزانية روسيا كاملة، وتبلغ في فترات سيطرة الحزب الجمهوري إلى حدود 800 مليار دولار، وأحيانا قرابة التريليون، وتنكمش في فترات الديمقراطيين.
 
لا شك أن السيد بوتين يدرك هذه الحقائق، وعليه نبه في بعض أحاديثه إلى التفوق الأمريكي العسكري، ومثلها إلى درجات تراجع الاقتصاد الروسي في واقع الحروب التي يخوضها حديثاً، إلى جانب الحصار الأمريكي الأوروبي، وتدهور أسعار النفط المقصودة والمخططة والمؤثرة على الاقتصاد الروسي. ولا نتحدث هنا عن الحصار الروسي بدوره على تركيا وهي عملية جدلية في الواقع الاقتصادي، وقد كتبنا عنه بحثا في السابق.
 
  في ظل السلطات الدكتاتورية، تنعدم المقارنات الاقتصادية، ولا تعيل أهمية على الحصارات وانعكاسات وتأثيراتها على الشارع وعلى حياة الإنسان العادي، فالشعب لا قيمة معنوية أو إنسانية له عند الطاغية، وخير مثال، كوريا الشمالية، والاتحاد السوفيتي ومن كان في فلكها سابقا، وسوريا في العقود السابقة، وما يجري الأن ضمنها. فالأوضاع الاقتصادية أو المعيشية أو دمار البنية التحتية جراء الحروب أو الصراعات الاقتصادية لا تثير أمثال فلاديمير بوتين أو بشار الأسد ولا تحرك فيهم شعور إنساني، مثلما لا تثير في المنظمات الإسلامية التكفيرية الأصولية ومن ورائهم من الدول أحساس بالمسؤولية، وعليه فإن بوتين سيركز على التسلح وتطويره على حساب مصالح الشعب، ليعيد مجد الروسي إلى سوية الاتحاد السوفيتي، ومنها أحياء مرحلة القطبين والتي حتى اللحظة لا تعيرها الولايات المتحدة وأوروبا أهمية كبرى.
 
بوتين طاغية، يخدع شعبه قبل أن يخدع بشار الأسد، رغم أنه يقدم الجميل للشعب السوري بضرب المنظمات التكفيرية والأصولية من جهة، ويقتلهم بدم بارد من جهة أخرى كما قتل الشعب الشيشاني، ينقذ المجتمع من آفة المنظمات التكفيرية الإسلامية، لكن بطرق إجرامية لا قيمة للشعب الأمن عنده، يدمر ويقتل مثلما يبتغيه الدكتاتور بشار الأسد وأئمة ولاية الفقيه، يفاقم في جرائمه بقدر ما تسكت عليها الدول الكبرى وأمريكا على رأسهم.  أنه مرض نفسي، يغطونه بالوطنية والدفاع عنه، ويفرضونه على الشعب، بالقوة أو بالخدع الإعلامية، لتلتم حولهم الجماهير، والغريب ولكثرة الانتهازيون المحاطون بهم يصدقون ذاتهم ويؤمنون بأن الشعب تدعمهم عن قناعة وليست بالرهبة.
 
 سيستمر بوتين في دعمه لسلطة بشار الأسد، وسيتدخل في معظم البقع الساخنة، رغم تأثيراتها السلبية على أغلب المجالات الاجتماعية للشعب والقطاعات الاقتصادية في الدولة، تحت عدة مفاهيم تطرحها سلطته، وذلك تحت ضغط التراجع الاقتصادي بعد الازدهار المرافق لبداية القرن الواحد والعشرين، ومع غياب الرأي العام والذي لا يمكن تقييمه أصلا، ككل السلطات الشمولية التي تنعدم فيها المؤشرات ومعرفة أراء الشعب، لأن العامة تفرض عليها متابعة ما يقال ويطرح عليها إعلام السلطة، وسوف تكون خسارته اقتصادية وبتدرج ومغلفة برؤيته، ولن يسمح للشارع ليكون المؤشر.
 
  وما يتوقع للواقع السوري حصرا، هو أن سلطة بشار الأسد سوف يزول، وقد يسبق زوال المنظمات التكفيرية أو كلاهما معا، والتركيز يتصاعد على التكفيريين من الجهتين، مع ذلك لا يمكن أن تستمر سلطة غارقة بهذا الحجم من التدمير والكم من القتل للشعب السوري، في الحكومة، فجميع المفاهيم والقواعد والدساتير الوطنية والدولية ترفضه، حتى ولو كانت سلطة بوتين وأئمة ولاية الفقيه تسنده لمصالح ذاتية اقتصادية سياسية وطائفية، ولا بد أن بوتين يعي هذه الجدلية في الصراع بين الشعب والدكتاتور، ومنتبه إلى أن وراء كل هذا الدمار بشار الأسد وسلطته، ويدرك أن الشعب السوري سوف لن يقبله وسلطته المستمدة قوتها من طائفة، أصبحت مرفوضة من الشعب، مثل المنظمات التكفيرية كداعش والنصرة.
 
  بوتين سوف يصر على عقد المؤتمرات، وتنقية المعارضة السورية السياسية والعسكرية حسب رؤيته، وأمريكا لها في هذا رأي مشابه، وجنيف 3 لن يأتي بنتائج مهمة، والدولتين يستغلان عامل الوقت لتصفية الطرفين، لكن الزمن الأمريكي أقصر، على خلفية نهاية إدارة أوباما، وعلى الأغلب سيكون هناك حل آني، لكنها ستؤدي إلى ظهور صراعات جديدة، وعامل الصراع السعودي الإيراني العلني، ستعكس على عملية تشكيل الحكومة المؤقتة المزعمة تكوينها، والتي ستكون على مقاس روسيا وسلطة بشار الأسد وربما ستقبلها قسم من المعارضة، لكن النهاية لا تزال بعيدة، وبوتين يبحث عن هيمنة عسكرية قبل أن تكون مصالح اقتصادية، وهذه هي طبيعة السلطات الدكتاتورية، بعكس الدول الإقليمية الكبرى، والتي تضع الشرق كجزء من مناطق نفوذها الاقتصادي.   
 
د. محمود عباس
 
الولايات المتحدة الأمريكية
 
mamokurda@gmail.com
 
7-1-2016