جان كورد : سوريا في المنزلق الخطير

2015-04-12

منذ اندلاع الصراع الدموي السوري، أي بعد دخول الثورة السورية السلمية مرحلة الدفاع عن الوجود في وجه الحملة العسكرية التي سعى بها النظام إلى اخماد مطلب الشعب السوري الأساسي (رحيل النظام)، فإن الوحدة الوطنية لسوريا في خطر التمزّق وتماسك نسيجها معرّض للانتكاس والاضطراب، ليس بسبب السياسات المتعارضة بين القوى السياسية للبلاد فحسب،
وإنما بسبب الفتنة الطائفية والمذهبية التي هبت رياحها على البلاد والتي بشحنها التنافر الطائفي بين قطبين كبيرين متناقضين جوهرياً في الإسلام السياسي، القطبين العريقين: السني والشيعي، وهذا ليس بجديد في سوريا وإنما منذ أن تحوّل النظام السياسي للبلاد في أيادي فئةٍ من العسكريين المغامرين إلى أداةٍ لفرض نظرةٍ طائفية معينة على غالبية الشعب بأسره، وهذا ما عمّق الشرخ الحادث بين مكوناتٍ أساسيةمن مكوناته الدينية والطائفية والقومية،إذ لا يخفى أن نظام حافظ الأسد الذي ينحدر من الطائفة العلوية،وهي تشكّل أقلية طائفية، قد تأسس على أكتاف أبناء هذه الطائفة وبناتها وبالتالي وضع خيرات البلاد ومؤسساتها في خدمة مجموعته العسكرية المتسلطة على القوات المسلحة وقوات الأمن وأجهزة الدولة ومراكزها الأساسية، وهي مجموعة قادتها من ذات الطائفة ومصالحها متشابكة مع مصالح الطائفة، في حين تم تحويل سائر الشعب السوري إلى قطيعٍ من الأغنام لحلبه وأكل لحمه وبيع صوفه بذرائع مختلفة، منها أن البلاد تمر بمرحلة الانتقال إلى الاشتراكية وتحتاج إلى تسخير كافة طبقات الشعب وطاقاته لإنجاز التحوّل، وأن سوريا دولة "ممانعة" و"مجابهة" يلزم أن تساندها الدول العربية للوقوف في وجه العدوان الإسرائيلي، وأن "العروبة" أسمى من التفكير في التحارب الطائفي، الديني، الرجعي، الذي سيعيد البلاد إلى قرونٍ سحيقة. 
وعليه، فإن حرب النظام الأسدي بدت لبعض السوريين وكأنها حرب قوةٍ "تقدمية" ضد "الرجعية" التي تدعمها دول عربية معينة، وهي حرب نظامٍ "ممانع" ضد الإمبريالية والصهيونية، حيث تعمل هاتان القوتان الكبيرتان في العالم على إحداث الشغب في البلدان العربية، فما حدث في تونس وليبيا واليمن ومصر ليس  "ثورات الشعوب العربية" ولا "الربيع العربي"، وإنما سعيٌ  أمريكي – أوروبي  مدعوم من الرجعية العربية لإحباط ما أنجزته النظم العربية  "الثورية"، ومنها "سوريا الأسد" من السيادة الوطنية والاستقلال، وما يجري في سوريا "العربية" لا يخرج من هذا الإطار، بل إن بعض المثقفين السوريين، ومنهم عربٌ وكورد ومن أبناء الأقليات جميعاً، من صار يعتبر المنشقين عن النظام هم "الأسوأ" من أدعياء التضامن مع الثورة، وهذا يعني -حسب رؤاهم هذه - أن على السوريين الوقوف مع هذا النظام الذي لم يدع جريمةً ضد الإنسانية إلاّ وارتكبها ولم يترك عائلةً سورية إلاّ وجلب لها الموت والدمار والذل والهوان.
إن تدخّل حفنة عناصر من الإرهابيين العرب في صفوف الثورة السورية في بداية اندلاعها كان كافياً لوصم "الربيع السوري" بالتحرّك الإرهابي من قبل أبواق النظام وعملائه في الداخل والخارج، ومن هؤلاء الإرهابيين من كان قابعاً في معتقلات النظام منذ سنواتٍ عديدة، فإذا به يقود منظماتٍ مرعبة في أطراف دمشق من دون أن يعلم أحدٌ من قادة الثورة كيف خرج هؤلاء من السجون ووصلوا إلى ساحات القتال، وقرعت طبول "الحرب على الإرهاب" بقوة، بمساعدةٍ مالية وعسكرية روسية – إيرانية، وعن طريق الإعلام، لإظهار ثورة الشعب السوري كحراك "إرهابي" مدعوم من الرجعية والإمبريالية، في حين أن مواقف "الجامعة العربية" التي تسيطر عليها القوى "الرجعية" العربية كانت حتى في فترة الكفاح السلمي غير داعمة للثورة السورية، بل مخزية حسبما تحدث عنها المراقبون السياسيون وفضحها المتظاهرون السوريون، ولم تتراجع عنها "الجامعة" إلاّ بعد أن أوغل النظام في جرائمه ضد الإنسانية إلى حدٍ لم يعد السكوت عنه مقبولاً من أحد. وأما بالنسبة للإمبريالية التي تقود زمامها الولايات المتحدة الأمريكية فإنها ترفض حتى اليوم تحقيق مطلب الشعب السوري (إسقاط النظام)، وتدعو إلى حلولٍ يستفيد النظام من استمرار الكلام عنها في المؤتمرات الدولية وفي مجلس الأمن في سعيه من أجل إجهاض ثورة الشعب السوري باستخدام شتى أنواع السلاح والإرهاب والتعذيب الوحشي والتدمير، ومنه السلاح الكيميائي الممنوع دولياً وغاز الكلور وإلقاء آلاف البراميل المتفجرة على المدن السورية. أما إسرائيل التي كانت متهمة بوقوفها وراء هذه الثورة فقد كشفت السنوات الأربع الماضية أنها مع "بقاء النظام الأسدي" الضعيف المترنح لأنها ببساطة لا تريد ظهور نظامٍ مدعومٍ من الشعب السوري وقوي ومحارب على جبهتها الشمالية، وهذا عين العقل من وجهة نظر استراتيجية، على الرغم من خطورة ذلك لأن إيران المطالبة بإزالة إسرائيل من خريطة العالم تزداد ببقاء الأسد قوةً وفعاليةً على الأرض السورية خلف هذه الجبهة الشمالية.
لقد تحولت سوريا خلال عمر هذه الثورة إلى ساحة معركة حامية الوطيس بين سائر المنظمات الإرهابية "السنية" في العالم ومن معها من المسلمين الجدد الأوروبيين وبين سائر المنظمات التي لا تقل إرهاباً عنها من القوى والمجموعات والمنظمات الشيعية التابعة للحرس الثوري الإيراني، ومنها حزب الله اللبناني وبعض المجاميع الطائفية العراقية الدموية و"الشبيحة" الطائفية للنظام، وقد أدّى الدعم المالي والعسكري الكبير لنظام الأسد من قبل روسيا وإيران وكوريا الشمالية والصين إلى تحوّل الصراع بين جبهتي القتال من صراعٍ داخلي سوري على السلطة إلى صراعٍ عالمي، لم يعد الهدف منه "إسقاط النظام" أو "إبقاؤه" فحسب، وإنما السيطرة الخارجية على سوريا من قبل هذه الجبهة الدولية والأخرى. ومثلما هو الوضع في أوكرانيا خطيرٌ بسبب موقعها الجيوسياسي بين دول الاتحاد الأوروبي وروسيا، فإن موقع سوريا على الحدود مع إسرائيل خطيرٌ أيضاً وهذا ما يعرقل سيطرة أي طرفٍ من طرفي النزاع الذي صار "دوليا" على دمشق. 
فمن المسؤول عن دخول سوريا في هذا المنزلق الخطير؟
إن طرح هكذا سؤال الآن لن يؤدي إلى حلٍ سياسي أو عسكري، فالحل السياسي لم يعد بيد النظام أو بيد "الائتلاف" الوطني السوري، والحل العسكري ليس بيد قوات النظام أو بيد "الجيش السوري الحر"، فالمعركة لم تعد سورية، وإنما تشابكت عناصرها وكثرت أسباب استمرارها وقلت حتى الآن فرص إيجاد حلٍ لها أو حتى إحداث "هدنة" شاملة فيها، ولكن معلومٌ للقاصي والداني أن تعنت النظام وتمسكه بموقف اللامبالاة بمطلب الشعب السوري الأساسي (رحيل الأسد) هو أخطر الأسباب وراء استفحال الأزمة.
إن التواجد العسكري الكثيف لإيران على الأرض السورية، ليس بدوافع سياسية فقط وإنما "طائفية" جداً، هو أحد أهم الأسباب لدخول سوريا في النفق المظلم، ولكن ها هي إيران التي تعتبر ثورتها الإسلامية "قمة ثورة التحرر العالمية" وكانت تصرخ الملايين من أتباعها في الشوارع والمزارع والمعامل صباح مساء " مرد بر أمريكا – الموت لأمريكا" تقبل بإهانةٍ وتنازلاتٍ لامثيل لها حتى في عهد الشاه العميل بتوقيعها على "الاتفاقية النووية" رغماً عن أنف خاميني وجرذانه في الشرق الأوسط، ويظهر تدخّل إيران في سوريا لأسباب طائفية بشكل فاضح، بدليل زجها ودعمها لسائر القوى والمنظمات والمجموعات الشيعية في العالم كله إلى جانب قواتها في سوريا، وبدليل أن حزب الله اللبناني قد زعم في بداية تدخله في الشأن السوري الداخلي أنه يهدف إلى "حماية المقدسات الشيعية" في سوريا، وليس القتال ضد شعبها الثائر، وتبيّن الوجه الطائفي الكالح للتدخل الإيراني مع الأيام بوضوح صارخ.  ولذا فإن الحكومة الإيرانية التي ليست سوى لعبة بأيادي ملالي (قم) هي المسؤولة أيضاً ومن وراءها من غلاة الطائفيين في إيران عن استمرار الانزلاق الدموي الخطير لسوريا نحو الهاوية. ثم تأتي دولٌ أخرى، إقليمية ودولية، تعتبر بعد إيران مساهمةً في الجريمة الكبرى ضد الإنسانية في سوريا، فهي التي عطلت كل السبل السياسية وأفسحت بذلك المجال أمام الإرهابيين من شتى الأنحاء ليتوافدوا على بلاد الشام ويغتصبوها من أبنائها الأحرار الذين أرادوها ثورةً من أجل حرية شعبهم وتطهير بلادهم من الفساد والنزعة الطائفية المقيتة والتخلّف والانحطاط السياسي. 
إن حدثين كبيرين في المنطقة يفرضان إطاراً جديداً للتحرّك الإيراني في المنطقة عموماً وفي سوريا خصوصاً، ألا وهما "عاصفة الحزم" العربية التي بدأت بالهبوب على اليمن، تعتبر تحوّلاً سريعاً وقوياً لدولٍ كانت تظنها إيران نائمة أو ضعيفة غير قادرة على التصدي، والحدث الثاني هو عدم تراجع الدول الخمس الكبيرة التي فرضت "الاتفاقية النووية" عليها رغماً عن أنف أكابر زعمائها المتعنتين وفي مقدمتهم خاميني الذي يبدو أن تجرّع السم مثل الخميني لدى الاتفاق مع العراق لوقف الحرب في وقتٍ سابق. وبالتالي فإن موقف إيران تجاه الدعم المطلق لنظام الأسد في ظروف استمرار الحصار الاقتصادي عليها سيتغّير، وهذا ستكون له تأثيرات سلبية على الموقف الروسي أيضاً، حيث العزلة السياسية والعقوبات الاقتصادية من طرف العالم الحر الديموقراطي على موسكو تضران بنظام بوتين ضرراً كبيراً، وهذا ما سيرغم روسيا على البحث عن حلٍ للأزمة السورية على أساس مقررات (جنيف 1) أو سحب أياديها من سوريا خطوةً خطوة. وهذا يعني أن نظام الأسد الذي يعتمد حتى الآن على دعم إيران وروسيا كلياً لن يتمكّن من الاستمرار في قتال الشعب السوري.
إلا أن الأوضاع على الأرض تتفاقم بسرعة، وتحولت سوريا إلى بحيرات منقطعة عن بعضها من الناحية العسكرية، حيث الغلبة هنا لمجاميع مسلحة معينة وهناك سيطرة لفصائل أخرى، متحاربة فيما بينها، وهذا سيفتت قوى البلاد البشرية ويعمّق من استفحال الطائفية وسيزيد سوريا مشاكل لا يمكن حلها، لا من قبل النظام و لا من قبل المعارضة، بدون دعمٍ عربي أو دولي كبير من مختلف النواحي، ومنها مشكلة التقسيم المناطقي بسبب تواجد السيطرات المسلحة المتعارضة، في مناطق مختلفة، ونظام الأسد يعلم أنه لن يستطيع في حال  إنقاذ عنقه من مقصلة الثورة ومن "المحكمة الدولية" بصدد اغتيال الشهيد رفيق الحريري،القيام بالواجبات الملقاة عليه من إعادة إعمار البلاد المدمّرة من قبله وإعادة توطين المشردين الذين هربوا نتيجة قصفه العشوائي للمدن، والعرب إن لم يساعدوه في ذلك فستتحوّل سوريا إلى "دولة فاشلة"، وواضح أن العرب لن يساعدوا نظام الأسد الذي حوّل عاصمة الأمويين إلى قلعة علوية – شيعية ضد السنة.
لذا، فإن سوريا في منزلقٍ خطير ما لم يتحرك العرب لإنقاذ شعبها وإعادة برمجة نظامها السياسي الفاشل، مثلما تحركوا صوب اليمن، ومن قبل بصدد لبنان من خلال اتفاقية الطائف الشهيرة.