(Dr. Ehmed Xelîl) دراســــات في ا لتاريخ الكُردي القـــديم ( الحلقة 59 ) هكذا دافع الكُرد عن مكّة والمدينة (الجزء الثاني)

2014-10-26

الهجوم الفرنجي على الحجاز:
في سنة 578هـ/ 1182م توجّه صلاح الدين من مصر إلى بلاد الشام، ليهاجم الفرنج ويضيّق الخناق عليهم ويكون قريباً من الخطوط الأمامية، وفي السنة ذاتها أقدم أَرْناط Reynald على تنفيذ مشروع خطير آخر؛ هو السيطرة على البحر الأحمر، وغزو المدينة ومكّة؛ ولعلّ من المفيد أن نتذكّر هنا أنّ القوافل التجارية المتنقّلة على "طريق البخور" كانت تتحرّك بحراً عبر البحر الأحمر،
وبرّاً عبر الطريق الرابط بين مكّة والمدينة، ولاشك في أنّ سيطرة الفرنج على هذين المسارين كان يعني خنق الدولة الأيّوبية من الناحية الاقتصادية.
بدأ أرناط بتنفيذ خطّته تلك بالاستيلاء على أَيْلَة (العَقَبَة حالياً)، ذلك المركز المهمّ على خليج العَقَبَة، كي يمنع تهديد صلاح الدين لحِصن الشُّوبَك وللمناطق الفرنجية في وادي عَرَبَة (في جنوبي الأردنّ)، ولمّا كان من المتعذَّر على الفرنج الاحتفاظ بأَيْلَة دون السيطرة على جزيرة القلعة (جزيرة فِرْعَون) المواجهة لها في خليج العَقبة، شرع أرناط في بناء عدّة سفن، وحُملت أجزاؤها مفكَّكة على ظهور الجمال إلى خليج العَقَبة، وأُعيد تركيبها هناك.
ولمّا انتهى تركيب السفن استولى بعضُ مقاتلي الفرنج على جزيرة القلعة، وأغار بعضُهم الآخر على الموانئ المصرية الصغيرة في البحر الأحمر، مثل ميناء عَيْـذاب المواجه لمينـاء جُـدَّة في الحجاز، ولا يخفى قصر المسافة بين جُـدَّة ومكّة، وهناك نهب الفرنج بضع سفن تجارية من جُدَّة واليمن والهند. قال المَقْرِيزي: "فقَتلوا وأَسروا، وأحرقوا في بحر القُـلْزُم [الأحمر] نحـو ستّة عشر مركباً، وأخـذوا بعَيْذاب مركباً يأتي بالحُجّاج من جُدّة، وأَخـذوا في الأسْر قافلةً كبيرة من الحجّاج فيما بين قُوص وعَيْذاب، وقَتلوا الجميع، وأخذوا مركبَين فيهما بضائع جـاءت من اليمن، وأخذوا أطعمة كثيرة من الساحل كانت مُعَدّة لمِيرة الحَرَمَين، وأحدثوا حوادث لم يسمع الإسلام بمثلها".
ولم يكتف أرناط بذلك، بل نقل نشاطه العدواني إلى شاطئ الحجاز، وعندئذٍ-حسبما ذكر ابن واصِل- "عَظُم البلاء، وأَعْضَل [صَعُب] الدّاء، وأشرف أهل المدينة النَّبويّة منهم على خطر عظيم". ودهش المسلمون لتلك الجرأة؛ إذ لم يسبق أن وصل فرنجي إلى ذلك الموضـع، وأكّد المَقْريزي أنّ الفرنج صاروا على مسيرة يوم من المدينة المنوَّرة (حوالي 45 كم)، ويتّفق أبو شامة مع المَقْريزي في روايته، إذ ذكر أنّ الفرنج: "نزلوا على ساحل الحَوْراء قرب يَنْبُع، حيث أغـاروا على القوافل، وتعهّد بعضُ الخونة من البدو إرشادَهم إلى داخلية البلاد".
وأورد كلٌّ من أبي شـامة وابن واصِل رسالةً للقاضي الفاضل، مستشار صلاح الدين، يُفهم منها أنّ الفرنج استهدفوا من تلك العملية أمرين:
• الأول: قَطْعُ طريق الحاج، وتهديد المسلمين في واحدة من أبرز مقدّساتهم.
• الثاني: الاستيلاء على عَدَن في اليمن جنوباً، بعد السيطرة على أَيْلَة شمالاً، وإغلاق البحر الأحمر في وجه الأيّوبيين، واحتكار تجارة الشرق والمحيط الهندي.
ولم يسكت الأيّوبيون على التهديد الفرنجي للحَرَمين (مكّة والمدينة)، وسرعان ما بادر الملك العادل، أخو صلاح الدين ونائبه في مصر، إلى إعداد أسطول قويّ في البحر الأحمر، بقيادة الحاجب حسام الدين لؤلؤ. وبدأ حسام الدِّين بحصار أَيْلَة، وظفر بسفن الإفرنج، فحرقها وأَسر مَن فيها، ثم تعقّب بقيّةَ السفن الفرنجية عند عَيْذاب وشواطئ الحجـاز، وكان الجزء الأكبر من تلك السفن موجوداً في ساحل الحَوْراء، فداهمها حُسام الدِّين، واستولى عليها ودمّرها، بعـد أن أطلق سَراح من فيها من التجّار المأسورين، أمّا الفرنج فأُخـذوا على حين غِرّة، فتركوا بعض السفن، ولاذوا بالجبال، ولم يدعهم حُسام الدِّين يفلتون، وإنما طاردهم بين الجـبال، حتى أسرهم جميعاً في  شباط/ فبراير 1183م.
 
(صلاح الدين الأيّوبي)
وكان موسم الحجّ قد اقترب، فأرسل حُسام الدين أسيرَين من الفرنج إلى مِنى بمكة حيث قتلا، وأرسل بقيّة الأسرى إلى مصر، فأمر صلاح الدين بقتلهم، ليكونوا عِبرة لكل من تحدّثه نفسه بالاعتداء على المقدّسات في الحجاز، وتمّ قتلهم فعلاً بعد استعراضهم في شوارع القاهرة والإسكندرية وغيرهما من المدن الكبرى. أما أرناط نفسه فأقسم صلاح الدين ألاّ يغفر له فعلته هذه، ونذر أن يقتله بيده.
أسرُ أرناط وعقـابه:
قرّر صلاح الدين أن ينفّذ ما عزم عليه من معاقبة أرناط على جرائمه الكبرى، فانصبّ اهتمامه الأكبر على قلعة الكَرَك، معقل أرناط، وكانت قويّة التحصين، فحاصرها سنة 1183م، لكنه لم ينجح في السيطرة عليها، لا سيّما أنّ ملك القدس أسرع بقواته لنجدة أرناط.
لكنّ صلاح الدين لم يصرف النظر عن حِصن الكَرَك، خاصة وأنّ أرناط كان يستغلّ ذاك الحصن لتهديد طرق القوافل بين مصر والشام والحجاز، لذلك خرج صلاح الدين من دمشق مرّة أخرى في صيف سنة 1184م لمحاصرة حِصن الكَرَك، وكان قـد استعدّ هذه المرّة استعداداً قوياً، فأحضر المَنْجَنِيقات وآلات الحصـار القوية، ولما أوشك على الظفر بها تدخّلت مملكة بيت المقدس مرّة أخـرى، وأفسدت علـيه خطته، فاضطرّ إلى الانسحاب.
واضطرّ الفرنج إلى عقد هدنة مع صلاح الدين مدّتها أربع سنوات (1185-1189م)، ورغم أنّ أرناط كان قد طلب الأمـان من صلاح الدين عقب حملته الفاشلة في البحر الأحمر- وكان ممّن وافق على الهدنة- فإنه لم يستطع الكفّ عن السلب والنهب، فانقضّ فجأةً على قافلة للمسلمين ضخمة، فيها أمتعة وأموال كثيرة، متّجهة من القاهرة إلى دمشق، أواخر سنة 1186م وأوائل سنة 1187م، وكانت القافلة بما فيها من نفائس وثروات قد أطمعته، فلم يعبأ بالعهود والمواثيق، وسلب كلّ ما مع حامية القافلة والمسافرين من مال وسلاح ودوابّ، ثم ألقى بهم أسارى في حِصن الكرك، وعذّبهم أبشع عذاب.
التزم صلاح الدين الصبر كعادته، فأرسل إلى أرناط يقبّح أعماله، ويهدّده ما لم يُطلق سَراح الأسرى والأموال، لكنّ أرناط أصمّ أذنيه، وأصرّ على فعلته، بل قال لرسل صلاح الدين هازئاً: "قولوا لمحمّد يخلّصكم"! وما استطاع صـلاح الدين أن يكظم غيظـه إزاء عَجْرَفة أرناط، فأقسم أن ينتقم منه، "ونَذَر دمَه، وأعطى اللهَ عهداً إن ظفر به أن يَستبيح مُهْجَته"، ثم قام بحركة تعبوية شاملة مادياً ومعنوياً، قال ابن الأثير: 
"كتب صلاح الدين إلى جميع البلاد يستنفر الناسَ للجهاد، وكتب إلى الموصل وديار الجزيرة وإرْبِل وغيرها من بلاد الشرق، وإلى مصر وسائر بلاد الشام، يدعوهم إلى الجهاد، ويحثّهم عليه، ويأمرهم بالتجهز له بغاية الإمكان".
بعد أن حشد صلاح الدين القـوات الكُردية والتركية والعربية هاجم المواقـع الفرنجية، وأنزل بها ضربات موجعة، وتوّج هجمـاته بتحقيق النصر الحاسم في معركة حِطِّين (ستأتي أحداثها لاحقاً)، فمزّق قواتهم الضاربة، وأسر قادتهم وكثيرين من فرسانهم كما سنرى لاحقاً.
 
(ملك القدس الفرنجي غاي لوزجينان)
سيق الملك غاي لُوزْجِنان Guy de Lusignan ملك بيت المقدس، وأرناط صاحب الكرك، وجيرار دي رِيدْفُورْت Gerard de Ridefort قائد الداويّة وغيرهم من قادة الفرنج، إلى صلاح الدين في خيمته، فاستقبلهم استقبالاً حسناً، وأجلس الملك جاي الذي كاد يَهلك من العطش إلى جانبه، وقدّم له شراباً مُثَلَّجاً، فشرب الملك منه، وأعطى ما تبقّى لأرناط فشرب، وعندئذٍ غضب صلاح الدين، وقال: "إنّ هذا الملعون لم يَشرب الماء بإذني فيناله أماني".
والتفت صلاح الدين إلى أرناط يعدّد له خياناته وجرائمه ويؤنّبه على استخفافه بالمواثيق والعهود، قائلاً له: "كم تَحلف وتَنْكُث؟!" لكنّ أرناط لم يتخلّ عن غروره، وأجاب على السلطان بعجرفة، فضربه صلاح الدين أرناط بكَمَنْجاة (سيف قصير) وفاءً بنذره الذي كان قطعه سابقاً، وأكمل الحرس قتله.
المراجع:
ـ أخبار (الدفاع عن مكة والمدينة) مقتبسة من المراجع التالية:
- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1997، 10/20 – 26. 
- جيمس رِسْتون (الابن): مقاتلون في سبيل الله، تعريب الدكتور رضوان السيّد، مكتبة العُبَيْكان، الرياض- السعودية، الطبعة الأولى، 2002، ص 45 – 47.
- الذَّهبي: تاريخ الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1993، 47/356 – 357.  
- أبو شامة: عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1997، 1/266، 3/134. 
- ابن شَدّاد: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1994، 1/129 – 130. 
- العماد الأصفهاني: البرق الشامي، مؤسسة عبد الحميد شومان، عمّان – الأردن، الطبعة الأولى، 1987، 5/69 – 71.
- أبو الفداء: المختصَر في أخبار البشر، المطبعة الحسينية المصرية، الطبعة الأولى، بلا، 3/72.
 
24 – 10 – 2014
توضيح: هذه الدراسة جزء من كتابنا (تاريخ الكُرد في العهود الإسلامية) مع التعديل والإضافة.
sozdarmidi@outlook.com