Sozdar Mîdî (Dr. E. Xelîl) سلسلة: نحو مشروع كُردستاني استراتيجي ( الحلقة 19) المشاريع الفتوحاتية.. والحالة الكُردية

2014-07-26

إن عبور الكُرد إلى القرن الواحد والعشرين بوطن مجزَّأ ومحتلّ، وبلا دولة كُردستانية مستقلة، حالة مثيرة للاستغراب بلا ريب، وهي نتاج ثلاثة عوامل رئيسة: العامل الذاتي، والعامل الإقليمي، والعالم الدولي. وسبق أنْ حلّلناالعامل الذاتي، ووضّحنا دوره في إضعاف الوعي القومي الكُردي، وعدم قيام الدولة الكُردية، ونبحث الآن في العامل الإقليمي، تُرى كيف ساهم في إنتاج الحالة الكُردية الغريية؟
مشاريع الفتح في غربي آسيا:
التاريخ البشري في جزء كبير منه صراعٌعلى الجغرافيا، تلك حقيقة لا ريب فيها، وكان موقع كُردستان الجيوسياسي بلاءً على الكُرد، فهي تقع بين أربعة بحار: بحر قَزْوِين، والبحر الأسود، والخليج السومري، والبحر الأبيض المتوسط. وبين أربع مناطق قارية: آريانا شرقاً، والأناضول وشرقي المتوسّط غرباً، والقوقاز شمالاً، وميزوپوتاميا جنوباً، وجعلها هذا الموقع صيداً ثميناً للدول التي قامت في غربي آسيا، وخاصّة تلك الدول التي قادتهاذهنيات غَزَوِية إمبراطورية.
ولا ننسَ الثلاثي (بيئات- ثقافات- سياسات)، فهومهمّ لتفسير التاريخ البشري عامّة، وتفسيرِ الحالة الكُردية خاصّة، ومن سوء حظّ الكُردأنهم ابتُلوا بثلاثةمشاريع فتوحاتية في غربي آسيا، أنتجتهاثقافات تكوّنت في بيئات فقيرة قاسية، وأنتجت تلك المشاريعُسياسات شديدةَ الخطورة على الأمّة الكُردية، وما يزال القسم الأكبر من تلك السياسات يُمارَس فعلاً. والمشاريعالفتوحاتية الثلاثة هي:
 
أولاً- المشروعالفُارسي:منذ القرن (8 ق.م) جاور الفرسُأسلافَنافي جنوبي جبال زاغروس، قالالمؤرخ وِل ديورانت: "وهذا الإقليم يكاد يكون كلُّه صحراوات وجبالاً، أنهارُه قليلة، معرَّضةٌ للبرد القارس والحرّ الجافّ اللافح، ولذلك لم يكن فيه من الخيرات ما يكفي سكّانه...، إلا إذا استعانوا بما قد يأتيهم من خارج بلادهم عن طريق التجارة والفتح"( ).وقال المؤرخهارْڤي پورْتر: "وكان نحوُ نصف البلاد صَحارى لا تَصلح لشيء، والباقي تُرَبٌ [قِفار]بين الجبال، عدا ريف [ساحل] البحر، فإنه كان ضيّقاً شديدَ الحر، غير أنّ بعضَه يَصلح للحراثة. أمّا الأراضي الجبلية."( ).
إن فقر بلاد فارس بالموارد ولّدعند الفرسثقافةَ الغزو ومشاريعالاحتلال، وكان الكُرد أوّل الضحايا؛ لأن معظم مراكز الحضارة والثروة حينذاك كانت تقع في ميزوپوتاميا وسوريا ومصر وغربي الأناضول، ولوصول الفرس إليها كان لا بدّ من احتلالكُردستان أولاً، وهذا ما فعله الملك الفارسي كورش الثاني سنة (550 ق.م).
 
ثانياً-المشروع العربي:كان معظم بلاد العرب صحارى، تتقاتل فيها القبائل على الموارد الشحيحة، وفي القرن (7 م) ظهر النبيّ محمد، ووحّد العربتحتلواء الإسلام، وصارفتحُ البلدان فريضة دينية (الجهاد)لنشر الإسلام. وكان على الكُردمرّة أخرى أن يدفعوا ضريبة موقعكُردستان، ففي الجنوب بعد أن انتزع العرب ميزوپوتاميا من الفرس، كان عليهم فتحُكُردستان، للوصول إلى قلب الإمبراطوريةالفارسية والسيطرة عليها. وفي الشمال بعد أن انتزعوا سوريا من الروم، كان عليهم فتحُ شمالي كُردستان،للوصول إلى أرمينيا والقوقاز.
ثالثاً- المشروعالتُّركي:في القرن (11 م)، كان على الكُرددفعُ ضريبة موقع كُردستان مرة ثالثة، وهذه المرّة على يد البدو التُّركمان (السلاجقة)، القادمين من صحارى آسيا الوسطى، وقد دفعتهم بيئتهم الفقيرة القاسية إلى احتلال بلاد تتوافر فيها الموارد والثروات، فزحفوا غرباً، وفتحوا إيران، وكي يصلوا إلى ميزوپوتاميا (العراق)، كان عليهم فتحُكُردستان الشرقية والجنوبية، وكي يصلوا إلىغربي الأناضول وسوريا، كان عليهم فتحُكُردستان الشمالية والغربية.
نتائج مشاريع الفتح في كُردستان:
الحقيقة أن نتائج مشاريع الفتحجلبت على الكُرد وكُردستان نتائج كارثية،فبعد قضاء الفرس على مرجعيتناالسياسية (مملكة ميديا)، هيمنوا على ثرواتناوقدراتناالإدارية والعسكرية، وشَيطنوا مرجعيتَنا الدينية (دين يَزْدان)، وأحلّوا الزردشتيةَ محلّه بعد أن ألبسوها صبغةًفارسية، وبَشّعوا صورةَملكنا الميدي الأخير آزدَهاك الذي قاومهم بشجاعة، وصوّروه على أنه كان سفّاحاً يقتل الشباب، ويستخدم أدمغتهم دواءً لمرض خُرافي زَعموا أنه أُصيب به، وأصدر الملك قَمْبَيز بن كورش وصيّة أبدية إلى الفرس، للوقوف ضدّإعادة قيام مملكة ميديا مهما كلّف الأمر( ).
ومنذ ذلك الحين يقف الفرس ضدَّ أيّ وجود كُردي مستقل، وينكرون وجود الأمّة الكُردية،ويصرّون على أن الكُرد فرع منهم، وأن اللغة الكُردية لهجة فارسية، وأعاقوا تطوّرَ المجتمع الكُردي في جميع المجالات، وشتّتوا بعض القبائل الكُردية، وكيف يمكن-والحال هذه- للوعي القومي الكُردي أن يكتمل؟ وللدولة الكُردية أن تقام؟!
وفي عهود دولة الخلافة ساء وضعُالكُرد أيضاً، فعدا الأضرار الاقتصادية والسياسية التي حلّت بهم، اضطرّ كثيرون منهم إلى اعتناق الإسلام، خوفاً من القتل، أو فراراً من القهر ودفعِ الجِزية، وتحوّل الكُرد المسلمون إلى أعداء للكُرد غير المسلمين، واعتبروهم كفّاراً.وعدا هذا انقسم الكُرد المسلمون إلى سُنّة وشيعة متخاصمين، وأحياناًصار الكُرد المسلمون بلاءً على الكُرد غير المسلمين، وما لقيه الكُرد الأيزديون من بعض الكُردالمسلمين (غزو وقتل وسلب) دليل بارز على ذلك. 
 
وفي ظل دولةالخلافة، دُشِّنت حملةُتبشيع هائلة ضد الكُرد، فوُصِفوا بأنهمأشرار ولصوص، ومن سلالة الجِنّوالجواري المنافقات( ).وتخلّى معظم الكُرد عن أسمائهم الكُردية، واتّخذوا أسماءَ عربية، وهُمّشت اللغة الكُردية، وصار المقام الأول للغة العربية، باعتبارها لغةَ القرآن ولغةَ أهل الجنّة ولغةَالدولة.وطوال 14 قرناً لا نجد بين كل مئة مثقف كُردي ثلاثةً ألّفوا باللغة الكُردية، أو كتبوا في موضوعات تتعلّق بالتراث الكُردي، وكان من الطبيعي أن تَحدث قطيعة بين الكُرد المسلمين والكُرد السابقين على الإسلام (الكَفَرة!)، وأن تتعرّضَ الذاكرة الكُردية القومية للتفريغ، ويضعفَالوعي القومي ويتشتّتَ، ويصبح قيام الدولة الكُردية ضرباً من الأحلام.
 
وكان السلاجقة وأقرباؤهم العثمانيون ماهرين في ركوب موجة الجهاد، ووظّفوه ببراعة لفتح البلاد، واتّخذ السلطانُ العثماني لقبَ (غازي) أيْ (مجاهد)، وتحوّل التُّرك من قبائل بدوية متخلّفة إلى سادة إمبراطورية، وعدا الأضرار التي ألحقها الأتراك بالكُرداقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، فإن السلاجقة حينما غزوا كُردستان قضوا على الحكوماتوالدول الكُردية القائمة حينذاك (منها: الحكومة الرَّوادِيّة، والحكومة الشَّدادِيّة، والدولة الدُّوستِكِيّة)، ثمّ قضى العثمانيون على الإمارات الكُردية التي نشأت في فترة ضعف السلاجقة، وحُرم المجتمع الكُردي من التطوّر الطبيعيفي ظل سلطة كُردستانية وطنية، وتعطّل تطوّر الوعي القومي الكُردي، وحِيل دون قيام الدولة الكُردية.
 
وجملة القول أن مشاريع الفتح ألحقت أضراراً مادّية ومعنويةفادحة بالأمّة الكُردية، وانضافت هذه الأضرار إلى عامل القصور الذاتي، فساهمت في إيصال الكُرد، طوال 25 قرناً، إلى هذه الحال الغريبة العجيبة؛ أمّةٌذات تاريخ عريق، وصاحبة عدد كبير، وجغرافيا واسعة وموارد وافرة، ومع ذلك تعيش إلى الآن في وطن محتلّ ومجزّأ، وتعجز عن التوحّد وتأسيس دولة كُردستان المستقلة.
ومهما يكن فلا بدّ من تحرير كُردستان!
25 – 7 – 2014
sozdarmidi@outlook.com