الكُرد أمَّة مسْلِمة

2014-07-25

توطئة:
إنّ التيارات الفكرية المتنوعة تسعى عبر التاريخ إلى أن تترك طابعها على المجتمع لتسهل قيادته والتحكم به عبر تفاصيل الحياة اليومية للناس، والمجتمع الكردي كان أرضاً خصبة لنمو هذه التيارات، منها ما وافق فطرة الله التي فطر الناس عليها ومنها ما كانت شاذة.
ولعل أخطر تلك التيارات ما جاءت لتلوم الكرد على اعتناقهم الإسلام، وتوجّه أصابع الاتهام لأعلام بارزين في التاريخ الكردي على أنهم السبب في عدم تنمية الوعي القومي وتأسيس كيان مستقل للكرد على غرار الشعوب الأخرى التي عاشت في المنطقة تحت ذات الظروف. كما يغالي البعض في سرد أحداث تاريخية لاضطهاد الكرد من قبل المسلمين دون أن يميزوا بين الدين الإسلامي كدين ومنهج سماوي، وبين حكام وقادة الدولة الإسلاميةفي مختلف المراحل. كما يتجاهلون الظروف والتغيرات الجيوسياسية والمعاهدات والاتفاقيات التي أُبرمت في العصر الحديث والتي تركت الأثر الحقيقي في الواقع الكردي. ويتخذ البعض لنفسه من السباب والتقريع سلاحاً للتهجم على الفكر الإسلامي مبرزاً بذلك ضعف منهجه العلمي ليكون الهدف هو فصل الكرد عن هويتهم الإسلامية.
لن نغوص في تفاصيل التاريخ الكردي كثيراً، بل سنقف عند محطات متفرقة ومنعطفات حاسمة تركت أثرها على الواقع الراهن لنبين تاريخ وكيفية دخول الكرد في الإسلام، وكيف عاشوا في ظلالحكمالإسلامي. ثم كيف كان حالهم إبان تقهقر الخلافة. وكيف بدأت صناعة الحدود... وما علاقة الإسلام بذلك.
1-الكرد على أبواب الإسلام:
 
العقائد الدينية التي كانت سائدة في مناطق سكن الكرد تجلّت خلال حكم الإمبراطورية الميدية بالامتثال للإيزدية (الأزداهية) المختلفة عن تعاليم زرادشت الذي يعتبره د. فرست مرعي في كتابه (الفتح الإسلامي لكردستان) نبياً فيلسوفاً إيرانياً ولد في منطقة الشيز بمقاطعة ميديا وعاش في العصر الميدي ما بين 583 – 660 ق.م. وزردشت كتب وصاياه (الآفيستا – الآوستا -الآبستاق) باللغة الميدية، تماماً كما كتب علماء الكرد نتاجاتهم الفكرية في ظل الدولة العربية باللغة العربية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الديانة الزردشتية ليست ديانة كردية في الأصل وإنما هي فارسية، تحورت فيما بعد إلى عبادة النار. وبقي الكرد متأثرين بهذه الديانة بعد انهيار دولتهم وخضوعهم للدولة الاخمينية الفارسية إلى جانب الإيزيدية (الأزداهية). وبعد انهيار الدولة الاخمينية عام 330 ق. انتشرت عبادة إله الشمس المنير (ميثرا) في مناطق واسعة من كردستان وتركت أثرها حتى في العهد الساساني،واتّسمت المعابد بنقش قرص الشمس عند بواباتها. وكان الكرد عرضة للديانات الوثنية مثالهم في ذلك مثال الشعوب الأخرى، وغاب الكيان السياسي لهم بخضوعهم للفرس من طرف وللرومان من طرف آخر، وكانت مناطقهم دائماً مسرحاً للصراعات بين هاتين الإمبراطوريتين وكانوا في الغالب من يدفعون ضريبة هذه الصراعات. وتفرقوا على شكل مجموعات قبلية خاضعة للإمبراطورية الساسانية الفارسية.
ومع ظهور الإسلام وانتشار خبره بين الأمم نجد أمثلة حقيقية عن تعطش الناس للحقيقة ورغبتهم في معرفة ما هو أعظم وأجل من الوثنيات التي توارثوا عبادتها أباً عن جد. فيترك سلمان الفارسي قصر أبيه ويسير في رحلة طويلة بحثاً عن الحقيقة. ويرويالفقيه (ابن حجر العسقلاني) في كتابه (الإصابة في تميز الصحابة)، ج 1 ص 210 خبر الباحث الكردي عن الحق كافان أو (جابان الكردي) الذي ترك بلاده وهاجر إلى شبه الجزيرة العربية بعدما سمع ببزوغ شمس الإسلام هناك، وهو والد التابعي الجليل ميمون الكردي، وقد ذكره الألوسي في تفسيره أيضاً ج 26 ص 105. ويعود إسلام الصحابي الكردي جابان إلى العام 16 هـ الذي قام فيه القعقاع بن عمرو بفتح حلوان الواقعة في جنوب كردستان.
وبدأ دخول الكرد في الإسلام أفواجاً عندما طرق الصحابي الجليل عياض بن غنم أبواب العراق وشمالها الكردي، واستطاع التوغل إلى عمق كردستان ليصل بفتوحاته إلى جزيرة بوتان في أوائل عهد أمير المؤمنين الخليفة العادل عمر بن الخطابوبالتحديد سنة 18ﻫ.أسلم وآمن الكرد مع وصول أولى الطلائع من إخوانهم المجاهدين من العرب الذين خرجوا من ديارهم بقلب سليم، لنشر الإسلام وتعاليمه السامية وإخراج إخوانهم من استعباد العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. وبهذا تخلص الكرد من الحكم الفارسي الجائر،وانضووا تحتراية الإسلام في دولة الخلافة الإسلامية.
إن الكرد اعتنقوا الإسلام، بعد أن اقتنعوا به ديناً جاء ليساوي بين الأعراق والقوميات، بحيث لا يكون الفضل لأحد على آخر إلا بمقدار تقواه وتقربه إلى الباري عز وجل. وبعد أن رأوا فيه ديناً يخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن ظلم الساسانيين واستعبادهم لهم، إلى فضاء الحرية والمساواة مع كل من ينتمي إلى الدائرة البشرية عموماً والإسلامية خصوصاً. مع الإشارة إلى أن مناطق الكرد المركزية أبدت مقاومة لجيوش الفتح الإسلامي فالطبري يروي تولي عتبة بن فرقد ولاية الموصل على الحرب والخراج سنة 17 هـ وقيامه بفتح المنطقة الواقعة ما بين الموصل وأذربيجان.
لكن وبشكل عام فإن غالبية المناطق الكردية فُتحت بدون حرب. ولم يحدث صدام كردي إسلامي إلا في تلك المعارك التي كان فيها الكرد جزءاً من جيوش الفرس. وفي عام 21 هـ كانت غالبية المناطق الكردية قد أسلمت. ووجد الكرد في الإسلام ساحة لاكتشاف ذاتهم والتخلص من الاضطهاد الذي ذاقوه من الدهاقنة الفرس وتعقيدات رجال الدين المجوس الذين روجوا لتعاليم زرادشت والطقوس المرافقة التي لم تكن تتوافق مع طبيعة الكرد. إن إسلام الكرد فتح أمامهم آفاقاً جديدة في الرقي والتطور والتواصل مع الشعوب المجاورة لهم وأفسح الإسلام لهم المجال ليخرجوا من عزلتهم في الجبال ويشاركوا في النهضة ويواكبوها ويتركوا في الحضارة الإسلامية بصماتهم الخالدة. 
2-الكرد في العصور الوسطى
 
يجمع الكثير من الباحثين والمؤرخين على أن الكرد رحبّوا بالإسلام وامتثلوا له وتفانوا في سبيل إعلاء رايته، فغالبية القبائل الكردية كانت من أقوى المدافعين عن الدين، وأصبحت مقدرات الكرد العسكرية مكرّسة لخدمة الإسلام.  ويعود السبب في هذا الترحيب والتفاني إلى أن الإسلام لم ينزع منهم طابعهم القومي بل حافظ على كينونتهم ولغتهم وخصائصهم وأعطاهم الفرصة في ممارسة دورهم الفكري والثقافي وفتح أمامهم أبواب النهضة والتميز، ومن هذا المنطلق لم ير علماء الكرد أي تعارض بين كينونتهم القومية ولغتهم الأم وبين إيمانهم بالله تعالى ودورهم في الحضارة الإسلامية، واستمر الكرد في إخلاصهم للخلافة الإسلامية ففي العهد الأموي ساند الكرد دولة بني أمية في مواجهتها للحركة الشيعية الزيدية. وهنا لابد من التمييز بين سياسات الدولة الأموية وحكامها وبين المنهج الإسلامي، لأن كثيراً من المغالين يتمسكون ببعض ممارسات الأمراء وقادة الجيش الأموي ليتكلموا عن قمع إسلامي عربي طال القبائل الكردية. وإذا أردنا الإنصاف يمكن القول إن هذه الممارسات قد عانى منها العرب والكرد والترك وسواهم من الشعوب التي خضعت للخلافة الأموية، هذه الممارسات التي لم يكن الهدف منها إلا الذود عن حكم البيت الأموي. لكن على مستوى الشعوب فقد كانت العلاقة فيما بينها متينة تستمد قوتها من الرابط الديني الذي آلف بينهاعلى الدوام.
وفي فترة الخلافة العباسية كان للكرد دور بارز في الدفاع عن الدولة العباسية التي كانت تمثل لدى الكرد رمزاً للإسلام، وظل الكرد جنوداً أوفياء في جيش الخليفة حتى بدأت أيام تدهور الخلافة في العصر البويهي (334 – 447 هـ) عندما بدأت الأمم الأخرى بتشكيل كياناتها المستقلة عن جسم الدولة العباسية فإن الكرد قاموا بتأسيس إماراتهم كالدولة الدوستكية والشدادية والمروانية التي كانت ترتبط برمز الخلافة في بغداد.
وحتى في الفترة التي تلت الخلافة العباسية والتي انقسمت فيها الدولة الإسلامية على نفسها وشهدت العديد من الفتن والمنعطفات الحاسمة ساهم العلماء الكرد في نشر فكر الإصلاح وبناء جيل جديد ملتزم بتعاليم الدين، جيل فوق الانتماءات الصغيرة والعقد الشعوبية التي كانت من آثار الضغط والاستبداد من قبل بعض الخلفاء الذين أساؤوا الحكم وانحرفوا عن النهج الإسلامي. هذا الجيل الجديد الذي أسس له علماء الدين من أمثال الحسن البصري وإبراهيم بن الأدهم وعبدالقادر الكيلاني وأبو حامد الغزالي وجاكير الكرديوماجد الكردي. عبر سنوات من التعليم والجهد والمثابرة ساعدهم في ذلك انتشار المدارس الإصلاحية في بلاد المسلمين أتت أكلها وفجرت النهضة الجديدة للإسلام وظهرت الدولة الإسلامية بطابعها الراشدي وضمت في كنفاتها العرب والكرد والترك والتركمان وسواهم، ولعل الاسم اللامع في فترة النهضة هذه هو الناصر صلاح الدين الأيوبي الكردي الذي أقام دولة مهيبة أثارت حفيظة الصليبيين. وإذا كان البعض ينتقد القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي في أنه لم يسعَ لإقامة كيان مستقل للكرد، فإننا نقول له أنك تريد من صلاح الدين الأيوبي الذي سبق عهدك بقرون أن يفكر بتفكيرك الحزبي القومي المستجد، كما يمكننا القول أيضاً أن القائد صلاح الدين الأيوبي أسس دولةً بطابع كردي أسماها الدولة الأيوبية، فالدول كانت تأخذ اسم الأسرة الحاكمة على غرار الدولة الأموية والعباسية والفاطمية غيرها، وقادة جيش صلاح الدين كانوا كرداً، فرطها أولاده من بعده بخلافاتهم، فانتهت كما انتهت من قبلها الدولة الدوستكية والشدادية والمروانية. وتلك حقبة قد انتهت فلا نفع في تقصير النظر والرجوع إلى التاريخ بعين غير عيننا وأفكار مستوحاة من الاستشراق الذي يكيد بنا. 
وأهم ما يمكن ذكره في هذه الفترة وبعيداً عن الأحداث التاريخية هو أن الأمة الكردية واكبت بالفعل الحضارة وأسهمت فيها خير إسهام في حين كان الغرب غارقاً في حروبه الدينية والطائفية وتسيل الدماء هناك أنهاراً ونورد بعض الأسماء التي اشتهرت في التاريخ الإسلامي من أمثال:
- الدينوري عالم النبات المتوفي سنة 282 هـ 
- ابن الأثير الجزري من جزيرة بوتان وهم ثلاثة أخوة أحدهم فقيه محدث توفي سنة 606 هـ وثانيهم مؤرخ وصاحب الكامل في التاريخ توفي سنة 639 هـ وثالثهم كاتب أديب التحق بخدمة صلاح الدين وتوفي سنة 637 هـ.
- الشهرزوري الفقيه والمُفَسر والمُحَدِّث المتوفى سنة 643
- شيخ الإسلام ابن تيمية المفسر وصاحب الفتاوى المتوفى سنة 728 هـ.
- ابن خلكان المؤرخ والقاضي المولود في هولير وصاحب وفيات الأعيان المتوفى سنة 681 هـ.
- أبو الفداء صاحب حماة المتوفى سنة 732 هـ.
- الفارقي المؤرخ المتوفى سنة 577 هـ
- بديع الزمان الجرزي أعظم الميكانيكيين في التاريخ الإسلامي المتوفى سنة 1206م.
وهذه الأسماء أوردناها على سبيل الذكر لا الحصر، ولنشيرإلى انخراط الكرد في مؤسسة الفكر والإبداع التي ميّزت التاريخ الإسلامي في العصور الوسطى.
وإذا أراد البعض اتهام صلاح الدين الأيوبي بتنصله من القومية الكردية فلمَ لا يوجه الاتهام عينه إلى كوكبة العلماء الكرد. وإذا سكت أحدهم عن الحق الكردي في إقامة دولته المستقلة، فلمَ سكت الآخرون. وإذا كانت الأمة الكردية في التاريخ الإسلامي كانت تعاني من التمييز العنصري والطائفي وكبت الحقوق الإنسانية التي شرعها الإسلام فلماذا سكت عنها علماؤنا؟ لماذا سكت عنها شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الذي لم يخش في الله لومة لائم، ولم يتوان عن قول كلمة حق عند سلطان جائر، وتعرض للسجن مرات عديدة، بل إنه مات سجيناً؟ 
ألا ندرك حقيقة الديموغرافيا التي سادت في التاريخ الإسلامي، والروابط المتينة بين الشعوب وانصرافهم عن التقوقع في أقفاص صغيرة إلى الذود عن كيان الأمة الإسلامية التي كانت لهم حضناً وكانت لهم مأمناً دائماً في وجه الطمع الفارسي والصليبي.لقد كان الكرد شعباً مخلصاً بحق ومتفانياً في الحفاظ على كيان الأمة الإسلامية، لم يغزُ الكرد أرضاً أخرى، ولم يقهروا أي شعب مجاور، بل كانوا على الدوام متمتعين بأخلاق حسن الجوار مع العرب والترك والتركمان والسريان وسواهم.
وفي فترة الحكم العثماني بقيت المنطقة الكردية محتفظة بخصوصيتها،وكان الكرد جنوداً أوفياء في الجيش العثماني، بل كانوا وقودا في رحى الحروب مع الصفويين وغيرهم، وكانت الإمارات الكردية موزعة على حدود الدولة العثمانية وكان الإسلام بريئاً من كل ما جرى بعد ذلك.
 
3-الثورات الكردية
 
في أواخر الحكم العثماني تنامى لدى الكرد شعور بالاضطهاد والغبن وبأنهم أمة مستأجرة لصالح الأمم الأخرى وشبابُها جنودٌ في خدمة الإمبراطوريات التي استنفذت مقدرات الكرد، ويبدو ذلك جلياً في أشعار أحمد خاني في القرن السابع عشر إذ يقول نادباً في ملحمة مم وزين(1): " لقد حار فكري في حكمة الله إذ جعل الكرد في هذه الدنيا محرومين، محكومين، مستعبدين بالجملة... إنهم دروعٌ لهؤلاء الفرس والترك في الجهات الأربع، لإن الطرفين قد جعلا من الكرد هدفاً لسهام القضاء، لذلك فهم أشتاتٌ متفرقون، دائمو العصيان والشقاق على بعضهم. لو كان لنا اتفاق لدخل في طاعتنا الروم والعجم والعرب برمتهم."
وهذه الكلمات تصف حالتين اثنتين كان الكرد يعاني منهما: الأولى حالة الضجر والنفور من الخضوع للفرس والترك والرغبة في أخذ زمام الأمور. والثانية هي حالة الشقاق الداخلي وعدم الوفاق التي ستترك أثرها في الثورات المتعاقبة ضد الحكم العثماني وفيما بعده.
وصف الرحالة التركي أوليا جلبي حال الكرد في أواخر الحكم العثماني بأنهم يقطنون مناطق شاسعة لا ينازعهم عليها أحد والأمراء الكرد في هذه المناطق يميلون إلى الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية.
بدأت تباشير الثورات الكردية بالفعل وقام العديد من الأمراء والشيوخ بثورات عديدة ضد الحكم العثماني مثل: ثورة عبد الرحمن باشا أمير بابان عام 1806 دامت هذه الثورة ثلاثة أعوام وانتهت نتيجة تكاتف القبائل الكردية مع القوات العثمانية. ثورة بدرخان بك 1821 أمير جزيرة بوطان التي جوبهت من الكرد أنفسهم، بعدها تم حشد القبائل وإعلان الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية على يد المير محمد الراوندوزي أمير سوران عام 1826 ودام الاستقلال عشرين سنة والحق القوات العثمانية هزائم عديدة فلجأ السلطان إلى إصدار فتوى مفادها أن كل الذين يقاتلون جيوش السلطان هم كفار، ما أدى إلى تزعزع حاضنته الشعبية وتشتت اتباعه، ثم انتهاء ثورته، وقتل المير الراوندوزي بيد أحد الكرد. وبرزت ملامح قومية جديدة في الخطاب الكردي متأثرة حقاً بالقومية الأوربية التي أخذت تغزو المنطقة وتجلى هذا الخطاب القومي في رسالة الشيخ عبيد الله نهري الشمديناني عام 1880 الموجهة للقنصل البريطاني والتي جاء فيها "إن الأمة الكردية أمة مستقلة... إننا نريد أن نأخذ بزمام الأمور بأيدينا" ومن الملفت أيضاً أنه قتل أيضاً بيد كردية! والثورات الأخرى مثل ثورة الشيخ عبد السلام البرزنجي والشيخ محمود الحفيد وحتى ثورة الشيخ سعيد بيران يمكن القول:إن الكرد ساهموا في قمعها.  
هذه الثورات التي قامت تعبيراً عن الشعور الكردي بضرورة امتلاك الذات بعد تمزق الكيان والحاضنة الواسعة وانفراد الأمم الأخرى بقرارات مصيرها وطغيان الفكر القومي لديها قادها في غالب الأحيان أمراء أو مشايخ ما يعني أن الإسلام لم يكن عائقاً أمام القومية الكردية كشعب مستقل بل إن الراية الأولى للدفاع عن الحقوق الكردية حملها رموز الإسلام لدى الكرد.وظلت في يدهم إلى أن جاءت الأحزاب الجديدة التي صنعت الشرخ بين القومية وبين الدين واعتبرت الدين عائقاً أمام حصول الكرد على غايتهم.
 
(1) ديوانأحمدخاني (مموزين) – ترجمةوتحقيقجاندوست 1995
 
نستقرئ من تسلسل أحداث الثورات وتفاصيلها ضلوع الكرد في مجابهة بعضهم البعض، الأمر الذي أشار إليه أحمد خاني مبكراً (هم أشتات متفرقون دائمو العصيان والشقاق)، فهذه الثورات دُحرت نتيجة عاملين اثنين: ضعف التسلح لدى الثوار الكرد، والانقسامات داخل المجتمع القبلي الكردي.  
إن ولاء الكردي لقبيلته كان مقدماً على ولائه للأمة، والمجتمع الكردي بطبيعته مبني على أساسٍ قبلي، والثورات التاريخية التي قادها الأمراء والمشايخ الكرد كانت تنبع من إطار قبلي، ولم يكن مرحباً بها في أغلب الأحيان من قبل قبائل كردية أخرى، عداك عن الطوائف والملل والنحل الكردية التي تزيد التشتت تشتتاً والانقسام انقساماً. في هذه الأثناء كانت الأقلام الأوربية ترسم حدود المستقبل.
صناعة الحدود
 
مع انتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية سعت المنظمات الكردية بالتقرب من بريطانيا وفرنسا القوتين الجديدتين في المنطقة، ومع النداءات القومية التي ظهرت هنا وهناك بدا القلق الكردي جلياً على مصيره، وبرزت عائلة بدرخان كرائدة للقومية الكردية وسفيرة للكرد لدى الجهات الدولية لضمان حقوق الكرد في التقسيمات الجديدة التي ستطال المنطقة بعد هزيمة الرجل المريض. ومن الجدير ذكره هنا أن إحدى المنظمات القومية الكردية والتي كانت تدعى " استخلاصي كردستان" كان يديرها عبد القادر ابن الشيخ عبيد الله وكان مقرباً من السلطان العثماني وكان يعارض بقوة مفهوم دولة كردية مستقلة، بل كان يرى من الضرورة والشرف أن يقف الكرد إلى جانب إخوانهم الترك في تلك الظروف العصيبة.
قدمت لجنة كينغ كرين تقريراً حول إقامة دولة كردية توضع تحت انتداب الولايات المتحدة التي برزت أطماعها بشكل خجول.
في عام 1920 تم التوقيع على معاهدة سيفر التي وضعت خطة لإقامة حكم ذاتي للكرد يفضي إلى دولة مستقلة. والمنطقة الجغرافية التي تم تحديدها بموجب هذه المعاهدة لم تكن تشمل كل مناطق الكرد، فقد استبعدت كرد سوريا وروسيا، وكانت المصالح الدولية جلية في ذلك. بينما كانت الوعود البريطانية معسولة للكرد. لكن رسم الحدود بموجب اتفاقية سايكس بيكو شتت الوجود الكردي إلى عدة أجزاء كما شتت التكتل العربي أيضاً.
سحبت معاهدة سيفر لصالح معاهدة لوزان 1924 بتدخل من مصطفى كمال أتاتورك. ولم يذكر في هذه الاتفاقية أي شيء يخص الكرد. وضاعت جهود المنظمات الكردية أدراج الرياح، ولدغ القادة الكرد من النفاق البريطاني، وتحول العمل السياسي الكردي إلى عمل عسكري وعادت الثورات للاندلاع من جديد.
لم تفلح ثورة الشيخ سعيد بيران 1925 في الوصول إلى أهدافها، ومن الجدير الإشارة إلى أهداف هذه الثورة التي قادها شيخ نقشبندي طاعن في السن، فبالإضافة إلى أنها كانت تهدف إلى اكتساب وانتزاع الحقوق الكردية من الدولة التركية القومية المستحدثة، فإنها كانت دينية الطابع أيضاً ترمي إلى إعادة الخلافة التي بددها أتاتورك، وبرز ذلك جلياً بتنصيبه ابن السلطان عبدالحميد خليفة للمسلمين في آمد (ديار بكر).أما الثورات التي قامت في العراق فقد قادها أيضا مشايخ كرد من أمثال الشيخ عبد السلام والشيخ أحمد والشيخ محمود الحفيد، ثم الملا مصطفى البرزاني.
وخلاصة القول هنا أن الدولة الكردية التي كانت في طريقها للاستقلال قد مزّقها الذئب البريطاني. والأوراق التي كانت تخصّ الكرد طُويت وخُبئت في الأدراج حفاظاً على المصالح الدولية، ورغبة الحلفاء في إقامة دولة كردية طمرها النفط. أما الإسلام فقد كان مجسداً في شخص بيران، وفي شخص عبد السلام ومحمود الحفيد وسعيد النورسي وسواهم. فهل هؤلاء كانوا أعداء إقامة الدولة الكردية؟ وهل كانوا السبب في فشل استقلال كردستان؟
فأين تذهبون؟
 
تسابقت الكتل القومية الكردية إلى إنشاء الأحزاب التي سيعبِّرون من خلالها عن مطالب الكرد، وكانت هذه الأحزاب منذ ظهورها أحزاباً يسارية تخالف الفطرة والعقيدة الكردية، وبدأت تعمل وفق الأفكار اليسارية التي غزت المنطقة والتي تصدى لها الملا البرزاني في حينه. لكنها استشرت في الجسد الكردي وتفشت فيه بسرعة وذلك بسبب الربط بين هذه الأفكار وبين المطالب القومية الكردية. وخلخلت هذه الأفكار بنية المجتمع الكردي ووضعته أمام الانفصام أكثر من مرة، وأرادت بعض هذه الأحزاب أن تقنع الكردي أن السبب في ضياع حقوقه هو الإسلام.
سبق وأشرنا إلى أنّ ولاء الكردي لقبيلته كان مقدماً على ولائه للأمة. مع ولادة الأحزاب الكردية وتكاثرها نستطيع القول: إنّ ولاء الكردي لقبيلته تحوّل إلى ولاء لحزبه. فكما كانت الصراعات السابقة قبلية كذلك أصبحت الصراعات حزبية. وربما وقف هذا الولاء في وجه أي فرصة للنجاح في التاريخ المعاصر. وهناك أمثلة عديدة عن الصراع الكردي الكردي الذي جلب الهوان والآلام للشعب الكردي. هذا الصراع كان على الدوام بنتيجة التحزب وتشتت الرؤى والأهداف.
ولو أنّ هذه الأحزاب استفادت من الطبيعة الكردية المحافظةوتعلّق الكرد بدينهم، واحتواء القاعدة الشعبية على جليتها لكانت النتائج أفضل، ولاستطاع الكردي أن يعبّر عن نفسه بشكل أفضل، وطرح آماله وآلامه بقوة أكثر.
وغاب عن هذه الأحزاب سياسة حزب البعث في اجتثاث الطابع الديني عن الكرد عبر العديد من الممارسات التي احتوتها وثيقة محمد طلب هلال. وبالفعل واجهت المناطق الكردية فيما بعد مخططات عديدة رامية لإضعاف الصبغة الدينية لدى الكرد. تلك الصبغة التي كانت على الدوام الحاضنة التي تجمع الكرد بالشعوب المسلمة المجاورة. لقد ساهمت الأحزاب الكردية مع شديد الأسف في تنفيذ مخططات البعث بغير بقصد، بل صنعت حالة العزلة والتعصب والتقوقع، مساهمةً بذلك أيضاً في تمزيق الوشائج الثقافية بين الكرد وجيرانهم من العرب والترك والتركمان والسريان واآعشوريين. وما نريد قوله في الخاتمة:إنّ الإسلام بريءٌ من التهم التي توجّه إليه في أنه السبب في ضعف الكرد وعدم إقامة كيانهم المستقل، فالتاريخ خيرُ شاهدٍ على الأمر، والحضارة الكردية بلغت ذروتها في العصور الوسطى، وحفظ الإسلام كل الحقوق للكرد وسواهم، والكرد أمّة مسلمة شاء من شاء وأبى من أبى، والتيّارات التيتعاكس هذه الحقيقة لم تفلح حتى الآن ولن تفلح في مراميها. بينما تتمثل الرغبة الحقيقية في النجاح في امتثال الواقع وعدم مجانبة الحقيقة.والعمل على أساس الرغبة التي تتضمّنها ضمائر الشعوب، وبناء الإنسان السوّي المؤمن بأسباب وجوده، والعالم بحقوقه، والعارف كيفية استحصاله هذه الحقوق والمحافظة عليها. وتركيز الجهد في مد الجسور بين المكونات التي تتعايش جنباً إلى جنب بعيداً عن شرارات العصبية والتطرف، قريباً جداً من روح المحبة والإخاء. فأين تذهبون؟
 
المراجع:
- العسقلاني ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة.
- موريس هارفي وبلوج جورج، ترجمة راج آل محمد، لا أصدقاء سوى الجبال، لندن، 1991
- د. الكيلاني ماجد عرسان، هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس، فرجينيا، 1994
- د. مرعي فرست، الفتح الإسلامي لكردستان، 2011
- مجلة كلية العلوم الإنسانية العدد 2\15 المجلد الثامن، 2014