Dr. Sozdar mîdî : دراســــــــات في التاريخ الكُردي القــــــــديم ( الحلقة 34 )

إستراتيجية المغول والمقاومة الكُردية
إستراتجية الغزو المغولي:
مرّ أن الكاهن الشاماني الغريب الأطوار، زعم أن الأمير المغولي تِيمُوجين مختار من السماء (الله) لحكم العالم، وأَطلق عليه لقب جَنْگيزخان (ملك العالَم)، ومنذ ذلك الحين بدأ جَنْگيزخان مشروعه التوسّعي لتحقيق بُشرى الكاهن، واستكمل ابناه أُوكْتاي وتُولُوي وحفيده مَنْگُوقاآن تنفيذَ المشروع، وكان الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط من جملة أهداف ذلك المشروع.

وجدير بالذكر أن بعض زوجات جَنْگيزخان وزوجات أولاده وأحفاده كنّ مسيحيات من الطائفة النَّسْطُورية (السريانية)، وقام تعاون بين المغول وقيادات مسيحية في الشرق الأوسط وأوربا، ففي سنة (643 هـ/1245 م) أرسل البابا إنوسِنْت الرابع بِعثة إلى العاصمة المغولية قَرَه قُوروم، وأرسل بِعثة ثانية سنة (645 هـ/1247 م)، والتقى رئيس البعثة في تَبْريز بالقائد المغولي بايْجو. وفي سنة (650 هـ/1252 م) أرسل ملك فرنسا لويس التاسع بِعثة إلى مَنْگُوقاآن في قَرَه قُورُوم، وعادت حاملةً رسالة جوابية إلى لويس التاسع، وعُقِد حلفٌ بين الطرفين، وفي السنة نفسها أسرع هيتوم Hethoum ملك كيليكيا الأرمني إلى قَرَه قُوروم ، وألحّ على مَنْگُوقاآن للقيام بحملة مشترَكة ضد المسلمين( ).
وهكذا فقد وضع المغول شعوبَ غربي آسيا بين فكّي كمّاشة، وكانوا يتحركون ضمن خطّة سياسية وعسكرية بعيدة المدى، سلاحُهم الإستراتيجي جيشٌ غزير العدد، شديد الانضباط، مدرَّب على التلاؤم مع الظروف القتالية الصعبة، وكانت عقوبة كلُّ من يتهرّب  من الخدمة العسكرية هي الإعدام أمام المقاتلين. وكان جَنْگيزخان قد وضع في كتاب (ياسا) نظاماً صارماً يمنع الفوضى، ويفرض الانضباط، ويُشغل المغولَ بالغزوات لكسب أراض جديدة، وفي السِّلم كان عليهم ممارسة الصيد كتمرين عسكري، وكان المتهاون فيه يعاقَب بالموت. وعموماً كانت الغزوات هي الحرفة الأساسية للمغول، يدرّبون عليها صغارهم، فكان الطفل في التاسعة من العمر يُحسن ركوب الخيل، ويُجيد الرماية وفنون الفروسية( ).
وكان الترغيب في الغنائم سلاحاً إستراتيجياً آخر، يدفع المغولي إلى الاستماتة في الحرب، وقد جاء في قوانين كتاب (ياسا): "كلُّ الغنائم الحربية التي يَعثر عليها الجنديُّ في أثناء الغزو، مثلَ الأسرى والماشية والأغراض؛ كلُّها تؤول لذلك الجندي فقط، ويُمنَع قائدُه من مصادرتها، ولكن يصادرهُا عقاباً له أو إرهاباً"( ).  
وكان السلاح الإستراتيجي الثالث هو إرهاب القيادات والشعوب، وكان المغول يبطشون بكل من يقاومهم، وقد وضع جَنْگيزخان أسس الإرهاب، حتى إنه لمّا أبدى ابنه الأكبر جُوجي امتعاضه من إسرافه في تدمير المدن وسفك الدماء، أمر بدسّ السمّ له. وعدا تدمير المدن، والسلب والنهب، وانتهاك الأعراض، كان القائد المغولي يفرض على كل مقاتل أن يأتي بعدد معيّن من رؤوس الأعداء، وتُكوَّم تلك الرؤوس على شكل هرم ضخم تكون فيه الوجوه إلى الخارج.
أوضاع غربي آسيا سياسياً:
إن إستراتيجية المغول التوسعية فرضت عليهم احتلال كُردستان، وكان حتماً على كُردستان أيضاً أن تدفع ثمن موقعها الجيوستراتيجي، وإلا فكيف يمكن للمغول أن يتقدّموا من الشرق للسيطرة على بغداد، والقضاء على دولة الخلافة، ثم التقدّم نحو الأناضول وسوريا وسواحل شرقي البحر الأبيض المتوسط؟
وحينذاك كانت منطقة غربي آسيا تمرّ بفترة ضعف سياسي هائل، فدولة الخلافة العبّاسية، التي يُفترَض فيها أن تكون حامية شعوب المنطقة، كانت في الواقع نَمِراً من ورق، وكان الهمُّ الأكبر للخليفة المُستعصِم بالله هو تخزين الأموال، واقتناء الجواري والانشغال بالملذّات. أمّا سلاجقة الأناضول الأتراك فكانوا منقسمين على أنفسهم، وكانوا أضعف من أن يقاوموا جيوش المغول المرعبة( ).
والحقيقة أن الدولة الأيوبية كانت قد حملت عبءَ الدفاع عن مصر وغربي آسيا منذ أن صار صلاح الدين سلطاناً سنة (570 ه/1174 م). لكن حينما وصل المغول إلى غربي آسيا حوالي سنة (628 ه/1230 م)، وبدأوا بغزو المنطقة على نحو أوسع، وخاصة كُردستان الجنوبية والشمالية، بين سنتي (629 – 658 ه/1231 – 1256 م)؛ حينذاك كانت الدولة الأيوبية قد ضعفت بسبب الصراعات بين أمراء الأسرة الأيوبية على السلطة، وقد أعاد لها السلطان الكامل ثم ابنه السلطان الصالح نجم الدين أيوب بعض هيبتها، لكن إلى حين.
وبحسب التحالف بين المغول وبابا الڤاتيكان وملك فرنسا لويس التاسع، قام لويس التاسع بحملة لاحتلال مصر، ووصل على رأس حملته إلى دِمياط على الساحل المصري في أوائل سنة (647 هـ/1249 م)، وأصبحت مهمّة السلطان الصالح الأولى- مع أنه كان مريضاً- هي الدفاع عن مصر، لأن مصر بقيادة الأيوبيين كانت حامية شعوب غربي آسيا، وباحتلالها كانت خطّة لويس التاسع هي الانتقال إلى احتلال فلسطين، واستعادة القدس.
وتوفّي السلطان الصالح سنة (647 هـ/ 1249 م) والحرب مستمرّة، وكان تَوْران شاه- الابن الوحيد للسلطان الصالح- والياً على شمالي كُردستان، فتولّى السلطنة في مصر، وهزم لويس التاسع وأخذه أسيراً. وكان من أخطاء والده الكبرى أنه أبعد القادة الكُرد عن المناصب القيادية، وسلّمها إلى مماليكه الترك. فحاول تَوران شاه إعادة القادة الكرد إلى الواجهة، وأحسّ المماليك بالخطر، فتآمروا عليه بقيادة المملوك قُطْز والمملوك بِيبَرس، وهاجموه وهو على مائدة الطعام سنة (648هـ/ 1250م) ثم قتلوه، وبدأت الصراعات بينهم على السلطة( ).
المقاومة الكُردية ضد الغزو المغولي:
إذاً، يمكن القول بأن منطقة غربي آسيا- إبّان الغزو المغولي- كانت تفتقر إلى دولة قوية تقود شعوب المنطقة لردّ المغول، ومع أن المماليك الترك اغتصبوا السلطة من الأيوبيين، لكن بقيت مناطق شمالي وغربي كُردستان، وحلب، وحماه، وحمص، ودمشق تحت حكم بعض أمراء الأسرة الأيوبية (يسمّون ملوكاً)، غير أن هؤلاء كانوا يعملون بشكل منفرد، ولم يوحّدوا صفوفهم، لمواجهة الغزو، فتغلّب عليهم المغول واحداً بعد الآخر. وفيما يلي مثالان على مقاومة الكُرد للمغول.
1- مقاومة مدينة مَيّافارْقين: بعد سيطرة المغول على أربيل، وجّه هولاگو جيشاً بقيادة ثلاثة من كبار قادته، هم يَشْمُوت وإيلْكا نُويان وسُونْتاي، لاحتلال مَيّافارْقِين (فارْقِين)، وكان حاكمها هو الملك الكامل الأيّوبي (محمد بن شهاب الدين غازي، وهو غير السلطان الكامل)، وكان يحكم مناطق واسعة من شمالي كُردستان ومنطقة الجزيرة (شمال شرقي سوريا حالياً). فلما اقتربوا من مَيّافارْقِين، أرسلوا إلى الملك الكامل رسالة يهدّدونه بالويل، ويدعونه إلى الاستسلام والطاعة، فكان ردّ الملك الكامل هو الرفض المطلَق، وكتب يقول: "إنني لن أنخدعَ بكلامكم المَعسول، ولن أخشى جيشَ المغول، وسأضرب بالسيف ما دمتُ حيّاً"( ).
وشرع الملك الكامل يقوّي عزائم شعبه، ويدعوهم إلى المقاومة، وطمأنهم قائلاً: "سوف لا أبخل عليكم بالذهب والفضّة والغَلاّت الموجودة في المخازن، وسأُوثِر بها كلَّها المحتاجين، فإني-بحمد الله- لستُ كالمُستعصِم عبداً للدينار والدِّرهم، الذي طرح برأسه وبمُلك بغداد بسبب بُخله وشُحِّه"( ).
وتضامن سكان مَيّافارْقِين مع الملك الكامل، وتصدّوا للهجوم المغولي، وكانت فِرَق عسكرية أرمنية ومسيحية شرقية أخرى قد شاركت في حصار المدينة مع المغول، وكذلك فعل بدر الدين لؤلؤ حاكم الموصل الأرمني الأصل. واستمرّ الحصار سنتين، أظهر فيها الكُرد شجاعة منقطعة النظير، مقتدين في ذلك بملكهم الذي قدّم للمعركة كلّ ما يملك.
وكان بين المقاتلين الكُرد فارسان دوّخا المغول ببسالتهما وإتقانهما الرماية، وأدهشاهم وأوقعا بهم أفدح الخسائر، واضطر هولاگو إلى إرسال مدد جديد بقيادة الأمير أرقيو للمشاركة في الحصار. وطال الحصار، وتهدّمت الأسوار من شدة ضرب المنجنيقات، ونَفِدت المُؤَن وجاع الناس في المدينة، فأكلوا المَيتةَ والكلابَ والقطط والفئران، واشتدّت الأزْمـة فأكل الأحياءُ الأمواتَ، وهلك أكثر سكان المدينة، ولم تنهض الإمـارات الأخرى لنجـدة مَيّافارْقِين، فسقطت في أيدي المغول( ).
ودخل المغول مَيّافارْقِين، فوجدوا جميع سُكَّانها موتى، ما عدا سبعين شخصاً نصف أحياء، أما الملك الكامل فقبض عليه المغول، واقتيد إلى هولاگو الذي كان غاضباً عليه بشدّة؛ لأنّ الملك الكامل ذهب إلى دمشق عندما هاجم هولاگو بغداد، وقال للملك الناصر الأيوبي حاكم دمشق: "إنّ المصلحة تقضي بأن نذهب بجيش جرّار لمَدد الخليفة". لكنّ الناصر لم يأخذ برأيه( ).
وقد عنّف هولاگو الملكَ الكامل، ثم أمر بتقطيعه إرْباً إرْباً، وكان المغول يضعون أعضاء جسده المقطوعة في فمه حتى هلك، وكان ذلك سنة (658 ه/1260 م)، ثم قطعوا رأسه وحملوه على رمح، وطافوا به في البلاد، حتى وصل دمشق، فعلَّقوه على باب الفَراديس، فأنزله الأهالي ودفنوه. وقتل المغول كلَّ من وجدوه في مَيّافارْقِين وهدّموها، وهذا يدل على شدة حنقهم على الملك الكامل وأهل مَيّافارْقِين، وكان الملك الكامل زاهداً عابداً، يحصل على رزقه من الحِياكة( ).
2- مقاومة ماردين:  بعد احتلال ميّافارقين غزا المغول ماردين، وكان حاكمها هو الملكُ السعيد الأيّوبي، فقرّر المقاومة، وحاصر المغول المدينةَ ثمانية أشهر، وقاوم السكّان ببسالة، ثم ظهر الغَلاء والقَحْط والوباء، فكان يموت في كل يوم خلقٌ كثير، ومرض الملكُ السعيد نفسه، فاقترح ابنُه مظفَّر الدين تسليمَ القلعة إلى المغول؛ كي ينجو السكان من بطشهم، فلم يفعل وأصرّ على المقاومة، فسقى الابنُ أباه دواء سامّاً فمات، وسلّم مظفَّر الدين المدينة للمغول( ).
وأثناء حصار مَيّافارقين استولى هولاگو على نِصيبين وحَرّان والرُّها، وأمر بقتل أهالي سَرُوج عن آخرهم، لأنهم قاوموه، ثم احتلّ مدينة بِيرَه (الأرجح أنها بِيرَه جِيك)، وعَبَر الفرات، وأغار على مَنْبِج، وسفك دماء كثيرين من سكانها.
وبعد أن سيطر المغول على شمال وغربي كُردستان، توغّلوا في سوريا، فتوجّه هولاگو إلى حلب وحاصرها، يعاونه أرمن كيليكيا وفرنج (صليبيون) أنطاكيا، وطلب المغول من حاكمها الأيّوبي تَوْران شـاه (غير السلطان تَوْران شاه) التسليمَ فرفض، فدكّوا حلب بالمنجنيق حتى اضطرّت إلى الاستسلام سنة (658هـ/ 1260 م)، فاستباحوها سبعة أيام قتلاً ونهباً وسبياً للنساء. وانتهز هِيتوم ملك أرمينيا الفرصة فأحرق الجامع الكبير، وأخذ جزءاً كبيراً من الغنـائم، وأعاد إليه المغول ما كان أخذه المسلمون من مناطق، وأعادوا إلى بُوهيمَنْد أمير أنطاكيا الفرنجي جميعَ الأراضي التي كان المسلمون قد استردّوها منه( ).
ثم احتل المغول حارِم، في شمال غربيّ سوريا، والمَعَرَّة وحَماه وحِمص، واستسلمت لهم دمشق سنة (658 هـ)، ووصلوا إلى غَزّة في فلسطين دون قتال، وكانوا يخطّطون للانقضاض على مصر، لكنهم دُحروا في معركة (عَين جالُوت) بفلسطين، على أيدي الجيش الذي ألحق الهزيمة بلويس التاسع، وبقيادة المماليك- تلامذة المدرسة العسكرية الأيوبية- سنة (658 هـ/1260 م)( ).
الدراسة مقتبسة من كتابنا (تاريخ الكُرد في الحضارة الإسلامية) مع إضافات جديدة
16 – 1 - 2014
المراجع:



ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.