Dr. Sozdar mîdî: دراســــــــات في التاريخ الكُردي القــــــــديم ( الحلقة 33 )

فظائع الغزو المغولي في كُردستان
المغول في شمال وغربي كُردستان:
حينما كان جلال الدين خُوارِزم شاه يتنقّل في كُردستان من منطقة إلى أخرى والمغول يطاردونه، كان هو والمغول يعيثون في كُردستان فسـاداً وتدميراً حيثما حلّوا وارتحلوا، قال ابن الأثير في أحداث سنة (628 هـ):

"لمّا انهزم جلال الدين من التَّتَر [التتار/المغول] إلى آمَد، نهب التَّتَرُ سَواد [ضواحي] آمَد وأَرْزَن [مدبنة قرب خِلاط] ومَيّافارقين [فارْقِين]، وقصدوا مدينة إسْعِرد [سِيرْت]، فقاتلهم أهلُها، فبَذل لهم التترُ الأمانَ، فوثِقوا منهم واستسلموا، فلمّا تمكّن التترُ منهم وَضَعوا فيهم السيف، وقتلوهم حتى كادوا يأتون عليهم [يبيدونهم]، فلم يَسْلَمْ منهم إلاّ مَن اختفى، وقليلٌ ما هم"( ).
وأضاف ابن الأثير بشأن الغزو المغولي لكُردستان:
"ثم ساروا منها إلى طَنْزَة [مدينة تابعة لجزيرة بوُتان/ابن عُمر]، ففعلوا فيها كذلك… فوصلوا مارْدِين فنهبوا ما وجدوا من بلدها… ثم وصلوا إلى نِصِيبين الجزيرة، فأقاموا عليها بعضَ نهار، ونهبوا سَوادها، وقتلوا مَن ظَفِروا به، وغُلِّقت أبوابُها، فعـادوا عنها، ومضوا إلى سِنْجار، ووصلوا إلى الجبال من أعمـال [توابع] سِنْجار، فنهبوها، ودخلوا الخـابور، فوصلوا إلى عَرابان، فنهبوا وقتلوا وعادوا"( ).
وقال ابن الأثير واصفاً ما لقيه الكُرد من أذى المغول وبطشهم حينما كانوا يطاردون جلال الدين وجنده: "ومضى طائفة منهم [المغول] إلى نِصيبين الروم، وهي على الفرات، وهي من أعمـال آمَـد، فنهبوها وقتلوا فيـها، ثم عـادوا إلى آمَد، ثم إلى بَدْليس، فتحصّن أهلُهـا بالقلعة وبالجبال، فقتلوا فيها يسيراً [قليلاً] وأحرقوا المدينة... ثم ساروا من بَدْليس إلى خِلاط، فحصروا مدينةً من أعمـال خِلاط يقـال لها باكِرى [باگِرَى]، وهي من أحصن البلاد، فمَلَكوها عَنْوة، وقتلوا كلَّ مَن بهـا، وقصدوا مدينة أَرْجِيش من أعمـال خِـلاط، وهي مدينـة عظيمة، ففعلوا كذلك"( ).
وفي سنة (650 هـ) أغار المغول على بلاد الجزيرة، حتى بلغوا حَرّان والرُّها (أُورفه)، ونهبوا دياربكر ومَيّافارقين. وفي سنة (639 هـ/1241 م) احتلّوا أَرْزَن الروم في شمالي كُردستان، وقتلوا منها خلقاً كثيراً( ).
المغول في شرق وجنوبي كُردستان:
لم يقتصر الغزو المغولي على شمالي كُردستان، بل كان لشرق وجنوبي كُردستان أيضاً نصيب كبير من التدمير، ويذكر ابن الأثير في هذا الصدد أن في سنة (628 هـ) "وصل طائفة من التَّتر من أذربيجان إلى أعمال إربل، فقتلوا من على طريقهم من التركمان الإيوانية والأكراد الجُوزَقان وغيرهم؛ إلى أن دخلوا بلد إرْبِل، فنهبوا القرى، وقتلوا مَن ظَفِروا به من أهل تلك الأعمال، وعملوا الأعمال الشنيعة التي لم يُسْمَع بمثلها من غيرهم"( ).
وإضافةً إلى الصراع بين الخلافة العبّاسية والدولة الخُوارِزمية، كان ثمة صراع بين الخلافة العبّاسية والطائفة الإسماعيلية في شمالي إيران، والإسماعيلية شيعة من أتباع الإمام السابع إسماعيل بن جعفر الصادق، ويسمّون في المصادر العربية (الحَشّاشين، المَلاحِدَة)، وكانت تلك ثغرة أخرى مكّنت المغول من اجتياح غربي آسيا؛ إذ كان شيخ الإسماعيلية الحَسَن بن الصَّبّاح قد استولى على قلعة (أَلَمُوت) سنة (483 هـ)، واتخذها قاعدةً ينطلق منها أتباعه لاغتيال الشخصيات الكبيرة في الشرق الأوسط، ومن أولى الشخصيات التي اغتالوها الوزير السلجوقي نِظام المُلْك سنة (485 هـ)، وحاولوا أكثر من مرة اغتيال السلطان صلاح الدين، لكنه نجا( ).
ونتيجةً لما قام به الحشّاشون من فساد وبطش وإرهاب، وعجْز الدولة عن القضاء عليهم، توجّه شمس الدين أحمد الكافي القَزْوِيني قاضي قَزوين، بأمرٍ من الخليفة العبّاسي المستعصِم بالله ( وهو ابن الخليفة المستنصر بالله، ابن الخليفة الظاهر بأمر الله، ابن الخليفة الناصر لدين الله)، إلى إمبراطور المغول مَنْگُوقاآن، حفيد جَنگيزخان، طالباً منه القضاء على الحشاشين "الملاحدة"، فهاجم هولاكو قلاعهم وأزال حكمهم سنة (654 هـ)، وكان حكمهم قد بدأ سنة (477 هـ)( ).
إن استعانة الخليفة المستعصم بإمبراطور المغول مَنْگُوقاآن ضد الشيعة الإسماعيلية، تذكّر بالدعوة التي وجّهها جدّه الخليفة الناصر لدين الله إلى جَنْگِيزخان جدّ مَنْگُوقاآن؛ لمساعدته على التصدّي للسلطان خُوارِزم شاه الذي اعتنق المذهب الشيعي، ونافسه في الهيمنة على الشرق الأوسط، غير آخذَين بالحسبان ما ستدفع شعوب المنطقة من مآس ودمار ثمن تلك الصفقة السياسية.
ثم انتهز المغول الفرصة، فكلّف الخانُ الأكبر مَنْگُوقاآن أخاه هُولاگُو بغزو غربي آسيا ثانيةً، وأوصاه قائلاً:
"وأمّا مَن يعصيك فأغرقْه في الذِّلّة والمَهانة؛ مع نسائه وأبنائه وأقاربه وكلِّ ما يتعلق به، وابدأْ بإقليم قُوهِسْتان [إقليم الجبال في شرق وجنوبي كُردستان]، فخرّب القلاعَ والحصون، فإذا فرَغتَ من هذه المَهمّة فتوجّهْ إلى العراق، وأَزِلْ من طريقك اللُّورَ والأكرادَ الذين يقطعون الطرق على سالكيه، وإذا بادر خليفةُ بغداد بتقديم فروض الطاعة فلا تتعرّضْ له مطلقاً، أمّا إذا تكبّر وعصى فألحقْه بالآخرين من الهالكين"( ).
إذاً كان إقليم الجبال (شرق وجنوبي كردستان) جغرافيا مهمّة بالنسبة إلى المشروع المغولي التوسّعي، وكان الكُرد - واللُّور فرع منهم- يُعتبَرون من الأعداء الخطرين على المشروع المغولي، وكان من المهمّ أن يُقضَى عليهم، وكان المغول محكومين جيوستراتيجياً بالهيمنة على كُردستان المقسّمة حالياً بين إيران والعراق وتركيا، كي يتمكّنوا من إحكام قبضتهم على غربي آسيا، ويسيطروا على مراكز القـوى السياسية الرئيسة فيـها، ولا سيّما الخلافة العباسية في بغداد.
وقبل ذلك كان المغول قد اصطدموا بالكُرد في غربي إربيل في جنوبي كُردستان سنة (629 هـ/1231م)، وحول إربيل نفسها سنة (633 هـ/1235م)، واجتاحوها سنة (634 هـ/1236م)، وارتكبوا فيها الفظائع، ووصلوا إلى خانِقين سنة (635 هـ/1237 م)، وهزموا فيها جيوشَ الخليفة المُستنصِر بالله (ت 640 هـ).
وفي سنة (640 هـ)، انتصر المغول على سلطان سلاجقة الروم غِياث الدين كَيْخَسْرو بنواحي أَرْزَنْگان (أَرْزَنْجان) في شمالي كُردستان، وانتشروا في بقاع آسيا الصغرى يقتلون وينهبون، وصار العراق مطوّقاً من الشرق والشمال. وفي سنة (641 هـ) غزا المغـول أطرافَ بلاد الشـام، ووصلوا إلى قرى حلب. وفي سنة (642 هـ) تقدّموا من هَمَذان نحو العراق، فوصلوا إلى خانِقين، واقتربوا من بَعْقُوبا. وفي سنة (647 هـ) هاجم المغول فجأة أبواب خانِقِـين، ووصلوا إلى نواحي بغـداد( ).
وفي سنة (655 هـ)، انطلق هُولاگُو من ضواحي قَزوين، وأرسل القائد بايْجُو نحو شمالي كُردستان وبلاد الروم وبلاد الشام، ونزل مع كبار الأمراء "في هَمَذان بالقرب من خانَه آباد؛ التي هي عبارة عن مرعى من كُردستان، وصار يشتغل بترتيب الجيش وتجهيزه"( ).
ثم تقدّم هُولاگُو غرباً في السنة نفسها، وبلغ دِينَوَر (في شرقي كُردستان) قاصداً بغداد، ثم رجع إلى هَمَذان، وأرسل رسالة إلى الخليفة العباسي المُستعصِم بالله يتهدّده ويتوعّده، لأنه لم يرسل جيشاً يساعد المغول في القضاء على الإسماعيليين (الحشّاشين)( ). لكنّ الخليفة المُستعصِم كان غارقاً في أوهامه، وتؤكد طريقة تعامله مع الخطر المغولي عن سَذاجة سياسية بالغة، كما تؤكد عجزه عن تقدير قوته الحقيقية إزاء قوة المغول، فكتب إلى هُولاگُو يقول مهدّداً:
"ألا لِيعلم الأمـيرُ أنه من الشرق إلى الغرب، ومن الملوك إلى الشَّحّـاذين، ومن الشيوخ إلى الشباب، ممّن يؤمنون بالله ويعملون بالدين، كلُّهم عبيدُ هذا البَلاط وجنودٌ لي، إنني حينما أشير بجمْع الشَّتات، سأبدأ بحسْم الأمور في إيران، ثم أتوجّه منها إلى بلاد تَوْران، وأضعُ كلَّ شخص في موضعه"( ).
واقترح الوزير مُؤيِّد الدِّين العَلْقَمي (كان شيعياً) على الخليفة المستعصِم أن يرسل الهدايا الثمينة إلى هُولاگُو لاسترضائه، قبل أن يهاجم العاصمة بغداد، فقال له المُستعصٍم: "لا تخشَ القضـاءَ المُقبل، ولا تَقُلْ خُرافة [ما هو خرافي]، فإنّ بيني وبين هُولاگُو وأخيـه مَنگُوقاآن صداقةً وأُلفة، لا عَـداوةٌ وقَطيعة، وحيث إنني صديق لهما فلا بدّ أنهما أيضاً يكونان صديقَين ومواليَين لي"( ).
جنوبي كُردستان مدخل لاحتلال بغداد:
في سنة (655 هـ) نفسها قرّر هُولاگُو احتلال بغداد، فشنّ الهجوم عليها من محورين اثنين يقعان في كُردستان:
- المحور الأول: محور الموصل- إربيل- بغداد، قال ابن الأثير: "فأمر [هُولاگُو] بأن تتحرك جيوش جَرْماغون وبايْجو نُويان اللذَين كانت معاقلهما في بلاد الروم، وأن تسير على المَيمنة إلى الموصل عن طريق إربل، ثم تعبرَ جسرَ الموصل، وتُعسكرَ في الجانب الغربي من بغداد" من طريق شَهْرَزُور ودَقُوقا( ).
- المحور الثاني: محور كِرْمَنشاه– حُلْوان– خانِقين– بغداد، وذكر رشيد الدين الهَمَذاني أنه في أوائل شهر مُحَرَّم سنة (655 هـ)، سار هُولاگُو بالجيوش عن طريق كِرمَنشاه وحُلوان، وكان معه كبارُ الأمراء، وعندما بلغ مدينةَ أَسَد آباد أوفد رسولاً يدعو الخليفةَ مرة أخرى للحضور، فكان الخليفة يماطل ويتعلّل. وتحرّك المغول من هناك إلى جبال الكُرد، ونزلوا بكِرمَنشاه، وقاموا بالقتل والسلب، وعسكر هُولاگُو بجنوده على شاطئ نهر حُلْوان (أَلْوَنْد) في التاسع من شهر ذي الحِجّة سنة (655 هـ)، وفي تلك الأثناء استولى القائد المغولي كَيتُوبُوقا على كثير من بلاد لُورستان (موطن الكُرد اللُّور= اللُّرّ) ( ).
وفي سنة (656 هـ/1258 م)، احتل المغولُ بغداد، وأعملوا فيها الدمارَ والسلب والنهب وسفك الدماء وانتهاك الأعراض، وقتلوا الخليفة المُستعصِم بالله بطريقة مُهينة، إذ أمر هُولاگُو بإدخاله في كيس، وشرع الجنود المغول يرفسونه بالأقدام حتى مات، وتمّ للمغول ذلك بعد أن احتلوا كُردستان الجنوبية والوسطى( ).
وبينما كان هُولاگُو يعمل لاحتلال بغـداد، كلّفَ القائدَ أَرْقِيُو نُويان بفتح قلعة إربيل، فحاصر أَرْقِيُو القلعةَ مدة، واستعان بصديقهم بدر الدين لؤلؤ والي الموصل (أرمني من مماليك السَّلاجقة)، فأمدّهم بالجنود، قال رشيد الدين الهَمَذاني:
"وذات ليلة نزل أهل القلعة، وشَنّوا غارةً ليلية على المغول، وقتلوا كلَّ مَن وجدوه، وأشعلوا النـارَ في المَجانيق وأحرقوها، وعـادوا إلى القلعة، فلما عجز أَرْقِيُو استدعى بدرَ الدين لؤلؤ وتشاور معه، فقال بدر الدين لؤلؤ: التدبيرُ هو أن تَدَع هـذا العملَ حتى الصّيف؛ لأنّ الأكراد يَفِرّون من الحَر ويلجأون إلى الجبال، أمّا الآن فالجوُّ مُعتدِل، وعندهم ذخائرُ وافرة، والقلعةُ في غاية الإحكام، فلا يتيسّر فتحُها إلا بالحيلة والتدبير"( ).
واقتنع أرقيو بخطّة بدر الدين، فأخذ بها، وفي الصيف هاجم المغول قلعةَ أربيل ففتحوها، وسلّموها إلى بدر الدين لؤلؤ، فهدّم أسوارها.
وفي سنة (657 هـ/1259 م) سار هُولاگُو في قلب جيوشه من أذربيجان متوجّهاً إلى بلاد الكُرد، فكانت طريقه على خِلاط وجبال هَكّار الكُردية، فقتل كل مَن لقيَه من الكُرد، ووصل إلى ديار بكر (آمَد)، وفتح الجزيرة، ووجّه ابنه يَشْمُوت لحصار مَيّافارقين( ).
هكذا- وباختصار- كان الغزو المغولي لكُردستان.
لكن كيف واجه الكُرد هذا الغزو؟
ذلك هو موضوعنا القادم.
الدراسة مقتبسة من كتابنا (تاريخ الكُرد في الحضارة الإسلامية) مع إضافات جديدة
13 – 1 - 2014
المراجع:



ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.