Dr. Sozdar mîdî دراســــــــات في التاريخ الكُردي القــــــــديم

( الحلقة 27 )
الشرق الأوسط قُبيل الدولة الأيّوبية
قيـادات شرق أوسطية:
تاريخ الشرق الأوسط، في العهود الإسلامية، نتاج جهود جميع شعوبها، وإن حقائق التاريخ لا تمنح الحق لأيّ شعب من شعوب هذه المنطقة بادّعاء أنه كان السيّد الأوحد فيها على الدوام، ففي كلّ مرحلة كان أحد تلك الشعوب يتولّى القيادة،

ويدافع عن الجغرافيا والسكان والهويّة، فكانت القيادة عربية في العهود الأولى من تاريخ الإسلام، ثم أصبحت دَيْلَمية بُوْيهية، ثم تركية سلجوقية، ثم كُردية أيوبية، ثم تركية مملوكية، ثم شركسية مملوكية، ثم تركية عثمانية؛ مع الأخذ في الحسبان أن التُّرك والشَّركس ليسوا من سكان منطقة الشرق الأوسط الأصليين، وإنما جاء الترك السلاجقة إليها من وسط آسيا في القرن (5 هـ/11 م)، واستُقدِم المماليكُ (المرتزقة) التركُ والشركسُ خلال العهد الأيوبي في القرن (6 هـ/12 م).
وجدير بالذكر أن الدولة الأيوبية تولّت استكمال تنفيذ إستراتيجية مقاومة الغزو الفرنجي للشرق الأوسط؛ تلك الإستراتيجية التي بدأت في العهد السلجوقي، ثم تصاعدت في العهد الأَتابَكي الزَّنكي، وذكرنا سابقاً أنّ كُردستان، أرضاً وشعباً وموارد، كانت تحتل موقعاً مهمّاً في صميم تلك الإستراتيجية، وقد أدركت الدولة الزنكية هذه الحقيقة، فبنت عليها خططها، وأحرزت انتصارات هامّة على الفرنج، وبمساهمة الجهود الكُردية تحوّلت من إمارة صغيرة في الموصل إلى سلطنة تمتد من الموصل إلى مصر ضمناً.
وكان الصراع الشرق أوسطي- الفرنجي في العهد الزنكي مقتصراً على كُردستان وبلاد الشام، أما في العهد الأيوبي فأصبح الصراع شاملاً، وامتدّت ساحته من جنوبي كُردستان وشماليها شرقاً إلى الحدود التونسية غرباً وجنوباً، مروراً ببلاد الشام (سوريا، لبنان، فلسطين، الأردن) ومصر، وكان من الطبيعي أن تصبح كُردستان أكثر أهمية في إستراتيجية الأيوبيين التحريرية، وفي البداية دعونا نُلقِ نظرة عاجلة على أوضاع الشرق الأوسط قُبيل قيام العهد الأيوبي.
أوضاع الشرق الأوسط قُبَيل العهد الأيوبي:
كان الشرق الأوسط، في نهاية القرن (5 هـ/11 م) ومطلع القرن (6 ه/12 م)، يفتقر إلى الوحدة السياسية، وكانت ثمّة مراكز قوى عديدة تتحكّم فيه، وتجرّه بين حين وآخر إلى الصراعات والحروب الداخلية، وأبرز تلك القوى السياسية هي:
1 ـ الخلافة العباسية: كان خلفاء بني العبّاس قد خسروا النفوذ القوي الذي عُرف به أجدادهم الأوائل؛ من أمثال أبي جعفر المنصور، وهارون الرشيد، والمأمون، والمُعتصِم بالله، وأصبحوا ألعوبة بين أيدي الوزراء والحجّاب ونساء قصر الخلافة، ورضوا من الحكم بالاسم، حتى إنّ أحد الشعراء قال في ذلك:
خليــفةٌ في قَفَصٍ بـين وَصِيفٍ وبُغـا
يقول مـا قـــالا لـه كمـا يقــــــــــول البَبَّغـا( )
مع العلم أن (وَصِيف، وبُغا) قائدان كبيران من المماليك (المرتزقة) الترك في الجيش العبّاسي، ونتيجةً لذلك خرجت غالبية أراضي الدولة من سلطة الخلافة، واقتصر نفوذها على بغداد والمناطق المحيطة بها، وكان النفوذ الحقيقي في أيدي ملوك البُوَيْهيين الدَّيلم، ثم في أيدي سلاطين السَّلاجقة الترك الذين حلّوا محلّ البُوَيهيين.
2 ـ السَلاجقـة: قبل أن يبسط التُّرك السلاجقة نفوذهم على الخلافة، وعلى أجزاء هامّة من بلدان شعوب الشرق الأوسط، كان البُوَيهيون هم الذين يقومون بهذا الدور في القرن (4 هـ/10 م)، وبنو بُوَيه أسرة دَيْلَمية شيعية الهوى (ثمّة ما يؤكد أن الدّيلَم كُرد من فرع زازا، وهذا الموضوع بحاجة إلى دراسة مستقلة)، وكان الخليفة العبّاسي السُّنّي القائمُ بأمر الله (ت 467 هـ) غير راض عن البُوَيهيين، فاستقدم التركَ السلاجقة السُّنّة واسـتقوى بهم، ودخل السلطان السلجوقي طُغْرُلْ بَگ بغداد سنة (447 ه/1055 م)، وتخلّص الخليفة من النفوذ البويهي، لكنه وقع تحت سيطرة السلاجقة( ).
وتوسّع النفوذ السَّلجوقي تدريجياً، وشمل معظم الأراضي الشرقية للخلافة، وتصدّى السلاجقة، ولا سيّما في أيام سلاطينهم الأقوياء (طُغْرُلْ بَگ، أَلْب أَرْسَلان، مَلِكْشاه)، لخطط الدولة البيزنطية في استرجاع المناطق التي كانت قد خسرتها، وفتحوا كثيراً من الأراضي التابعة للنفوذ البيزنطي في الأناضول، غير أنّ قوّة السلاجقة بدأت بالانحسار بعد وفاة السلطان مَلِكْشاه سنة (485 هـ)، وانقسموا على أنفسهم، ودَبّ التناحر فيما بينهم، وانتهى بهم الأمر إلى التعارك فالضعف مع نهاية القرن (5 هـ/11 م).
3 ـ الخلافـة الفاطمية: الفاطميون شيعة من المذهب الإسماعيلي الذي يعترف بالإمام السابع (إسماعيل بن جعفر الصادق)، وينتسب أئمّة الفاطميين إلى السيّدة فاطمة بنت النبيّ محمد من زوجها عليّ بن أبي طالب، وقد شكّكك بعض مؤرّخي السُّنّة في هذا النسب، ونسبوهم تارة إلى اليهود والمَجوس. وقد أقام الفاطميون دولتهم في شمالي إفريقيا بعيداً عن بغداد عاصمة الخلافة العباسية، ودامت بين (297 هـ، أو 299 هـ - 567 هـ)، وأوّل خلفائها عُبَيْد الله المَهْديّ، وآخرهم العاضِد لدين الله، واتخذوا مدينة المَهديّة في تونس عاصمة لهم، ثم فتحوا مصر سنة (973 م)، وبنى فاتح مصر القائد جَوْهَرُ الصِّقِلّي مدينةَ القاهرة، فاتخذوها عاصمة، وشرعوا يقارعون الخلافة العباسية، ونافسوا الإمارة الحَمْدانية على بلاد الشام، ودخلوا في صراع مع السلاجقة، وتمكّن السلاجقة من دحرهم، ولم يبق للفاطميين نفـوذ في الشام سوى في القدس، مع مساحة ساحلية محدودة، بدءاً من مدينة جُبَيْل (في لبنان) وإلى الجنوب( ).
وتفاقم التنافس على الخلافة داخل الأسرة الفاطمية، وخاصّة بعد وفاة الخليفة المُستنصِر بالله سنة (487 هـ)، إذ ولّت مراكز القوى ابنَه الأصغر المُستَعلي بالله أحمد الخلافة، بدلاً من ابنه الأكبر ووليّ عهده أبي منصور نِزار، فأدّى ذلك إلى حدوث انشقاق عقائدي عميق؛ كان من أخطر نتائجه ظهور طائفة الإسماعيلية (الحشّاشين) بقيادة الحسن بن الصَّبّاح. وعندما بدأت الحروب الفرنجية (الصليبية) كانت الخلافة الفاطمية في أدنى دَرَكات الضعف لعوامل كثيرة أبرزها اثنان:
- أولهما: انعدام التجانس بين عناصر الجيش الفاطمي، والصراعات بين الجنود الأتراك والمغاربة والسودان والأرمن.
- ثانيهما: استبداد الوزراء بالحكم نظراً لصغر بعض الخلفاء وضعفهم( ).
4 ـ الحملات الصليبية: كانت معركة مَنازْگِرد سنة (463 هـ/1071 م) حدثاً سياسياً خطيراً في تاريخ شرقي البحر المتوسط؛ فبعد أن انتصر السلاجقة، بقيادة السلطان أَلْب أَرْسَلان، انتصاراً ساحقاً على الإمبراطور البيزنطي أَرْمـانوس (رومانوس)، انفتحت أبواب آسيا الصغرى أمـامهم للاندفاع غرباً باتجاه البوسفور والدَّرْدَنيل( ).
وكانت تلك المعركة أهم أسباب "الحروب الصليبية"، فقد عقد البابا أُورْبان الثاني مَجمع كِليرمُونْت في فرنسا سنة (1095 م)، ودعا شعوب أوربا وملوكها وأمراءها إلى المشاركة في الحرب المقدّسة ضد المسلمين، وانطلـقت الحملــة الصليبية الأولى سنة (489 ه/1096 م) شرقاً، وعبرت البوسفور، واقتحمت أراضي آسيا الصغرى (غربي تركيا حالياً) الخاضعة للسلطان السَّلجوقي قِـليجْ أَرْسَلان، وأسّست إمارة الرُّها سنة (490/491 هـ/1098 م)، ثم إمارة أنطاكيا سنة (491 هـ/1098 م)، ومملكة القدس سنة (492 هـ/1099 م)، وإمارة طرابلس لبنان سنة (502 هـ/1108 م)( ).
5- الدولة الزَّنكية: الزنكيون تركمان من قبائل (ساپْ يو)، برز جدّهم قَسِيم الدولة آقْسُنْقُر في عهد السلطان السَّلجوقي مَلِكْشاه، وبعد مقتل آقْسُنْقُر في حرب سلجوقية داخلية حلّ ابنه عماد الدين زَنْكي محلّه في الولاية على الموصل والجزيرة، فبسط سيطرته على مناطق واسعة من شمالي كُردستان (نِصيبين، سِنْجار، منطقة الخابور، حَرّان، جزيرة ابن عُمَر)، إضافةً إلى المناطق الكُردية المحيطة بالموصل، ثم ضمّ حلب إلى إمارته، وتطلّع إلى جنوبي بلاد الشام، وسيطر على بَعْلَبَك (في لبنان).
وهكذا أصبح عماد الدين على تماسّ مباشر مع الفرنج: شمالاً وشرقاً مع إمارة الرُّها، وجنوباً وغرباً مع إمارتي أنطاكيا وطَرابلس، فخاض سلسلة من المعارك ضدهم، وقضى على إمارة الرُّها سنة (539 هـ/1144 م)، وقضى بعدئذ على بقيّة معاقل الفرنج شرقي الفرات. وبعد مقتل عماد الدين انتهج ابنه نور الدين نهجه في الصراع ضد الفرنج، وكان الغضب قد استبدّ بهم لسقوط إمارة الرُّها، فشنّوا الحملة الصليبية الثانية (542 هـ/1147 م). وقد اسـتعان نور الدين بحنكة وبسالة قائد جيوشه الكُردي شَيركُوه، فاستولى على عدد من حصون الفرنج في بلاد الشام، واستخلص دمشق من أيدي بني أُرْتُق السلاجقة سنة (549 هـ/1153 م)، وامتدّ بنفوذه إلى مصر( ).
ولمّا توفّي السلطان نور الـدين زنكي سنة (569 هـ/1164 م)، نشب الصراع على السلطة بين ورثته ومن وراءهم من مراكز القوى، وضعفت الدولة الزنكية، وتعاون بعض قادتها مع الفرنج، في حـين كان الفرنج يتربّصون بها للانقضاض عليها، وطلب قادة آخرون من صـلاح الدين أن يتدخّـل، فقدِم من مصر إلى سوريا، وسيطر على الأوضاع هناك، وتمّ تأسيس الدولة الأيوبية (570 هـ/1174م)( ).
5- دولة المُوحِّدين: طوال قرن ونصف القرن من الزمان هيمن المُرابطون- وهم من الأمازيغ (البربر)- على شمالي إفريقيا والأندلس، ومع بدايات القرن (6 هـ/12م) تضاءلت قوتهم، وظهرت قوة أمازيغية منافسة جديدة تحت اسم "المُوحِّدين".
ومع سنة (540 هـ/1145م) قضى المُوحِّدون على الدولة المُرابطية، وبسطوا نفوذهم على شـمالي إفريقيا من المحيط الأطلسي غرباً إلى تونس شرقاً بقيـادة شخصية أمازيغية (بربرية)، هو عبد المؤمن بن علي (ت 558 هـ/1162 م)، إضافةً إلى أنهم عبروا إلى الأندلس (إسبانيا) التي كانت ممزّقة بسبب خصومات ملوك الطوائف، وسيطروا عليها سنة (556 هـ/1160 م)، واتّخذ عبد المؤمن لقب "أمير المؤمنين"، وأعلن نفسه خليفة للمسلمين، واحتفظت دولة المُوحِّدين بقوتها زمن السلطـان أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن (ت 580 هـ/1184 م).
غير أنّ أقوى عهود الدولة المُوَحِّدية هو عهد السلطان أبي يوسف يعقوب المنصور (ت 595 هـ/1198 م)، وقد أنشأ هذا السلطان قوَة برّية وبحرية ضاربة، وحقّق الانتصار على ملوك إسـبانيا في معركة "أَرَك" الشهيرة سنة (591 هـ/1195 م)، رغم أنّ جيوشاً أوربية متمرّسة في القتال أسرعت إلى نجدة الإسـبان، قادمةً من فرنسا وألمانيا وهولندا وغيرها من الدول الأوربية؛ وكان الصراع بين المُوحِّـدين والدول الأوربية المتعاطفة مع الإسـبان موازياً، من حيث الزمـان، للصراع بين المسلمين والفرنجة في شرقي البحر الأبيض المتوسـط( ).
هكذا كانت أوضاع الشرق الأوسط قُبيل الدولة الأيوبية، وفي تلك الظروف السياسية المتشابكة نشأت، ونستكمل لاحقاً البحث في دور الكُرد وكُردستان خلال العهد الأيوبي.
الدراسة مقتبسة من كتابنا (تاريخ الكُرد في الحضارة الإسلامية) مع إضافات جديدة
12 – 12 - 2013
المراجع:



ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.