سوزدار ميدي : سلسلة تاريخ إقليم غرب كُردستان- دراسات تاريخية الحلقة ( 12 ) من ممالك الحوريين وعواصمهم في غرب كُردستان

أصالة الحوريين في غرب كُردستان:
ذكر المؤرخون أن وجود الحوريين في غرب كُردستان (المقسَّم بين دولتي تركيا وسوريا)- وخاصة القسم الشرقي منه- يعود إلى حوالي عام (2200 ق.م) ( ). والحقيقة أن الوجود الحوري هناك يرجع إلى العهدين السُّوباري والگُوتي كما ذكرنا سابقاً، ولم تكن أعداد الحوريين في غرب كُردستان قليلة، ولم يكونوا مجرد جاليات دخيلة أو جماعات متشرّدة، إنهم كانوا شعباً بكل ما تعنيه عبارة (شعب) من معان ديموغرافية واجتماعية وثقافية وسياسية، وكانوا يشكّلون كثافة سكانية كبيرة.

والدليل على ذلك أن الحوريين أقاموا ممالك في غرب كُردستان، وهل كان من الممكن إقامة ممالك هناك إلا إذا كانوا شعباً كثير العدد، ويسيطر على الجغرافيا ديموغرافياً وسياسياً واقتصادياً؟ أضف إلى هذا أن الممالك لا تظهر فجأة في تواريخ الأمم، وإنما تتطلّب توافر عوامل ديموغرافية واجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية متكاملة، وتتطلّب أيضاً وقتاً غير قصير كي تبلغ تلك العوامل مرحلة النضج.
وثمّة أمر آخر نعتقد أنه بالغ الأهمّية، وهو أنه لم يَرِدْ في المصادر الأوربية والعربية التي تناولت تاريخ الحوريين أيُّ ذِكر لوجود شعب آخر كان مقيماً في غرب كُردستان قبل الوجود الحوري باستثناء السوباريين، ولو كان في غرب كُردستان شعب آخر من غير أسلاف الكُرد؛ لذكرت المصادر الحروبَ التي اشتعلت بينه وبين الحوريين للسيطرة على الجغرافيا، وهذا دليل قويّ جداً على أن الوجود الحوري في غرب كُردستان كان وجوداً عريقاً وأصيلاً، وأنهم كانوا امتداداً إثنياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً للأسلاف السوباريين والگُوتيين.
وفيما يلي بعض ما جاء في المصادر بشأن الممالك الحورية في غرب كُردستان (على طرفي الحدود التركية- السورية).
ممالك الحُوريّين في غرب كُردستان:
تفيد المصادر أنه بعد سقوط الإمبراطورية الأكّادية حوالي سنة (2160 ق.م)، وزوال السيادة الگُوتية في سومر وأكّاد، أسّس الحوريون دولة واسعة، بقيادة ملك يدعى (أتَلْ- شين)، ولقبه (إيندان أُوركيش) أيْ (حاكم أوركيش)( )، ويرِد اسمه أحياناً بصيغة (آري- شين)، وقد ترك لوحاً من البرونز عُثر عليه في أساس معبد الإله نِرْگال (نرغال)، عليه كتابة مدوَّنة بالخط المسماري وباللغة الأكّادية، جاء فيها "أن أَتَلْ- شين بن شَتَرْمات هو ملك أُورْكيش ونَوار"( ). وعلّق د. جمال رشيد أحمد على هذه المعلومة قائلاً: "وبما أن أُوركيش كانت مركزاً لعبادة رئيس المعبد الإلهي الخوري كُوماربي Kumarbi، فلا بد أنها كانت عاصمة الدولة"( ).

وذكر الدكتور أحمد ارْحَيِّمْ هُبُّو أن الحوريين- على الرغم من أعدادهم الكبيرة- لم يتمكّنوا من إقامة مملكة واحدة تجمع شملهم في المناطق الشاسعة التي حلّوا فيها طوال النصف الأول من الألف (2 ق.م)( ). وأضاف أنهم " أسّسوا كيانات متفرقة في عدد من بقاع شمالي بلاد الرافدين، وشمالي سورية، وجنوبي آسية الصغرى، ولكنهم لم يُوفَّقوا إلى إنشاء دولة واحدة تجمعهم، إذْ كانت الظروف غير ملائمة، أو لأنهم لم يَملكوا القوّة اللازمة لقيام دولة لهم في ظلّ أوضاع المنطقة"( ).

ويقول جرنوت فلهلم: " تَكْثُر المصادر التاريخية، بدءاً من أواخر القرن الثامن عشر ق.م؛ ولا سيّما في عهدي شَمْشي أَدَد [= الأول Shamshi- Adad (1815 – 1782 ق.م)] ملك آشور، وحَمُورابي [= حكم بين 1792 – 1750 ق.م] ملك بابل، وأبرزُها الوثائق المكتشَفة في مملكة ماري الفراتية، وهي تقدّم لنا صورة شاملة عن وجود دولة حورية كانت تمتدّ من شمالي سوريا وشمالي بلاد الرافدين، حتى منطقة شرقي دجلة وجبال زاغروس. إنّ تمييزَ هذه الدولة ووصْفَها بـ (الحورية)، يعتمد على حورية أسماء ملوكها، وعلى حقيقة ملاحظة أنّ قسماً كبيراً من السكان كان يتحدّث باللغة الحورية؛ وذلك اعتماداً على إحصاء أسماء الأشخاص المقيمين في تلك المنطقة الواسعة الواقعة جنوبي السلسلة الجبلية العالية (طوروس)"( ).
وخلال العصر الآشوري القديم (بين 2000 – 1500 ق.م)، عُثر في مدينة (كانيش) الأناضولية على رسالة موجّهة إلى حاكم المدينة من أمير يُدعى "أَنُوم خِرْبي" حاكم مدينة (ماما)، وكانت هذه المدينة تقع على الأرجح في المنطقة المحيطة بمدينة مَرْعَش الحالية، ويرى معظم الباحثين أن اسم "أَنُوم خِرْبي" اسمٌ حوري، ونستنتج من ذلك أن مدينة (ماما) – وقد كانت في القرن (14 ق.م) من مناطق انتشار اللغة الحورية- كانت منذ بواكير القرن الثامن عشر ق. م مأهولةً بسكّان يتحدثون الحورية، أو أنها كانت تخضع لحكم سلالة حورية( ).
وقد ذكر جين بوترو وزملاؤه الباحثون أنه في القرن (18 ق.م)، كانت سلسلة من الدول الحورية توجد في شمال كَرْكَميش (أي في جنوب تركيا حالياً)، منها أُورشو Urshu، وخَاشُّوم Hasshum (تقع شمال غربي حلب)( ).
وفيما يلي أسماء بعض ملوك الحوريين وأسماء ممالكهم في غرب كُردستان:
1) نانب شاويري: ملك خابوراتوم (قرب تل عَجاجة على نهر دجلة).
2) تِيش أُولْمِيَه: ملك ماردنام (ماردين في القسم التركي من غرب كُردستان).
3) شِين نام: ملك أُوشوم (على نهر الفرات قرب أُورْفَه في القسم التركي من غرب كُردستان).
4) أَنِيش حُورْبي: ملك خاشوم (قرب كَرْكَميش على الحدود السورية- التركية).
5) شُوكروم تِشُوب: ملك إيلاخوت (بين كَرْكَميش والبحر الأبيض المتوسط).
6) أَتَل شيني: ملك بوروندوم (قرب غازي عَينْتاب، في القسم التركي من غرب كُردستان).)( ).
عَواصِمُ حُورِيّة في غرب كُردستان:
يتردّد في المصادر اسم أشهر عاصمتين حوريتين، هما أُورْكيش ونَوار، وقد مرّ أن الملك الحوري (أَتَل- شِن) كان يسمّي نفسه "ملك أُورْكيش ونَوار"، وإنّ تقديم اسم (أُورْكيش) على اسم (نَوار) دليل على أن أُورْكيش كانت أكثر أهمية، وتقع المدينتان في مثلّث الخابور، لكن ثمّة غموض إلى حدّ ما في تحديد موقعيهما بدقة، وهذا جزء من الغموض المحيط بتاريخ الكُرد وجغرافيا كُردستان بسبب سياسات الاحتلال.
1 - العاصمة الحورية أُوركيش: ذكر بعض المؤرخين أن أُوركيش Urkish تقع شرقي نهر دجلة، وقال د. جمال رشيد أحمد: "كانت أوركيش مقاطعة في بلاد سوبارتو"( )؛ والمقصود سوبارتو المركزية في جنوب كُردستان، وأضاف أن أوركيش كانت منطقة تقع في منطقة أرّابخا (كركوك حالياً)( ). وربما كانت هناك مدينة أخرى باسم (أوركيش). لكنّ مؤرخين آخرين ذكروا أنّ العاصمة الحورية الشهيرة (أوركيش) بُحِث عنها في منطقة (مثلّث الخابور)، وقال جرنوت فِلْهلْم بشأنها: "طابقها ڤان ليرVan Liere (عام 1957م) وهرودا Hrouda (عام 1958م) مع تلّ عامودا؛ الواقع شمالي مدينة عامودا قرب الحدود السورية التركية"( ).

(أوركيش = تل موزان)
وليس من الغريب أن تكون في الجغرافيا الحورية مدينتان باسم واحد، فهذا معهود في تاريخ أسلاف الكُرد، مثل مدينة (آمَدان= هَمَذان) في شرق كُردستان، ومدينة (آمَد= دياربكر) في شمال كُردستان، ومدينة (آمَدا= آمودا= عامودا) في غرب كُردستان، أما وجود أكثر من قرية في كُردستان باسم واحد فالأمر معروف. وفي تواريخ الأمم الأخرى أيضاً أمثلة على وجود أكثر من مدينة باسم واحد؛ منها أن الإسكندر المكدوني سمّى عدداً من المدن التي أمر ببنائها باسمه، منها: الإسكندرية في ميزوپوتاميا، والإسكندرونة على ساحل شمال شرقي البحر الأبيض المتوسط، والإسكندرية على ساحل البحر الأبيض المتوسط في مصر.
وذكر جرنوت فِلْهلْم أيضاً أن أُوركيش كانت مركز مملكة حورية في أواخر الألف (3 ق.م)، وكانت في الوقت ذاته مدينة دينية مهمّة، ومركزاً لعبادة الإله (كُوماربي) الإله الرئيسي في الميثولوجيا الحورية، وهناك من يرى أن موقعها يطابق موقع (تل شَرْمُولا) المجاور لمدينة عامودا، وتوضّح النصوص الكتابية أن أوركيش كانت ترى نفسها مماثلة لمملكة أكّاد( ). وخلال التنقيبات الأمريكية في تل مُوزان (8 كم شرقي عامودا) منذ سنة (1984 م)، ظهرت أختام أسطوانية عليها كتابات تشير إلى تطابق موقع هذا التل مع العاصمة الحورية أُورْكيش( ).

(مدخل معبد أوركيش)

(آثار القصر الملكي في أوركيش)
وإن وقوع أوركيش في منطقة الخابور يدل على أن مملكة حوري " امتد نطاقُها من منطقة مثلّث الخابور حتى مناطق نهر دِيالا [= في جنوب كُردستان]، وشملت شمالي آشور، أمّا امتدادُها نحو الشمال فغير معروف بدقّة، ولكنه ربما كان يصل حتى المناطق الجبلية جنوبي بحيرة وان، حيث ظلّت اللغة الحورية مستخدَمة حتى بعد خمسة عشر قرناً من الزمن"( ).

(أسد أوركيش – متحف اللوفر)
والأرجح أن لاسم (أوركيش) صلة باسم الحوريين أنفسهم (هوري= أُوري= أور)، وقد يكون اسمها على صلة بكلمة (وار= war) بمعنى (مكان الإقامة)، وما زال مستعمَلاً بهذه الصيغة وبهذا المعنى في اللغة الكُردية الحالية.
2 - العاصمة الحورية نَوار: تفيد المصادر أنّ (نَوار Nawar) تسمّى (نَجار= نَغار) أيضاً، وأصل الاسمين (نَاجْوار) Nagwar، ومن المؤرخين من يرى أن موقع نَوار يتطابق مع الموقع المسمّى في المصادر الآشورية والبابلية بـ "نَمار، نَمْري" Namrî، وذكر د. جمال رشيد أحمد أن نوار إقليم كان يقع شرق إقليم أُوركيش في جنوب كُردستان، وتمتدّ حدوده حتى مدينة كِرْمَنْشاه في شرق كُردستان، وأن ثمّة مدينة هناك كانت تحمل اسم (نوار= نامري) فيما بين قَرَه داغ وجبل حَمْرين( ).
غير أنّ أكثر المؤرخين يرون أن موقع نَوار مطابق لموقع (تل بَراك) الحالي على أحد روافد الخابور الشرقية، والأرجح أن هذا الاختلاف يعود إلى وجود أكثر من مدينة بهذا الاسم في الجغرافيا الحورية كما مرّ، وورد في إحدى المراسلات السياسية القديمة أنه كانت توجد مدينتان تحملان هذا الاسم، وكلتا المدينتين كانتا تقعان في مثلّث الخابور، ويبدو أن اسم (نَوار)، في أواسط الألف (2 ق. م)، كان شائع الاستخدام كجزء من أسماء الأشخاص في مدينة نُوزي الواقعة شرقي دجلة، وهناك من يرى أن اسم (نوار) تحوّل بعدئذ إلى صيغة (نَوال)( ).

(نوار= ناغار= تل براك)
ومهما تكن صيغة هذا الاسم، ورغم الرحلة الطويلة التي قطعها على امتداد أربعة آلاف عام، ورغم وقوعه تحت تأثير الصيغ الآشورية والحثّية والأمورية والآرامية قديماً، وتحت تأثير صيغ اللغات الأوربية والعربية حديثاً، بقيت صيغة (وار War) الكُردية صامدة في اسم هذه المدينة، وهو يعني (مكان الإقامة) خاصّة، وإذا عدّلنا صوتية (نَوار) قليلاً إلى (نُوار= نُو وار= Nû war)، حصلنا على اسم يعني بالكُردية (البلد الجديد= المدينة الجديدة).
نتائج وإضاءات:
إن الحقائق التاريخية والجغرافية السابقة تُوصلنا إلى النتائج الآتية:
1 – يعود تاريخ الحوريين في غرب كُردستان إلى ما قبل عام (2200 ق.م).
2 – وجود الحوريين في غرب كُردستان أصيل وليس دخيلاً، وهم لم يحتلوا وطن شعب آخر، وإنما كانوا يقيمون على جغرافيا أسلافهم السوباريين والگُوتيين.
3 – أعداد الحوريين كانت كثيرة، إلى درجة أنهم أقاموا ممالك خاصة بهم.
4 – لم يستطع الحوريون، قبل منتصف الألف الثاني ق. م، إقامة مملكة مركزية واحدة، وهذا هو الطابع السياسي الغالب على تاريخ أسلاف الكُرد.
5 – كانت ممالك الحوريين في غرب كُردستان تقع على جانبي الحدود التركية- السوري حالياً، وتمتد من منطقة الجزيرة (القسم الشرقي من غرب كُردستان)، وتصل إلى منطقة عفرين التي تُعَدّ امتداداً لمنطقة عَينتاب ومَرعش.
6 – كانت حلب ذاتها- وهي كبرى العواصم في شمال دولة سوريا حالياً- مملكة حورية في وقت من الأوقات.
وبعد هذا لا يبقى شكّ في أن جغرافيا غرب كُردستان المقسَّمة بين دولتي تركيا وسوريا هي جغرافيا حورية، والكُرد الذين يقيمون الآن في الجغرافيا ذاتها على جانبي الحدود لم يغتصبوها من أحد، وإنما يقيمون على أرض أسلافهم الحوريين.
حبّذا إرسال هذه الحلقات إلى السادة ساسة الكُرد في إقليم غرب كُردستان.
26 – 11 - 2013
المراجع:



ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.