حاجي سليمان : الى اخي الذي لم تلده امي

الصداقة كلمة صغيرة لكن لاتقدر بمعانيها ولا تثمن بقيمها ،تحوي في مضمونها مفاهيم عظيمة تكبر وتتعظم بعظمة الوفاء والاخلاص وتتعمق العلاقة بعمق الحياة لا يدركها المرء إلا من عاشها عمقاً ولا العابر فوق خيالات الحياة إلا من تعمق فيها وذاق حلاوتها مؤثراً بمفعولها الحقيقي دون غايات ومصالح ،وهي في غاية التقعيد والصعوبة لمن لا يفهمها فعلاً

وهي ليست عملية تعارفية تتم بين اشخاص يودون معرفة الاخر فضولاً ولا انها عملية بحثية في تبادل الابتسامات والزيارات ومناقشة الاحاديث والقضايا الانية ، بقدر ما انها نبع من ينابيع المحبة والعطاء المتبادل وسند للمتصادقين عند الصعوبات وهي كوردة شماء تفوح عبيرهآ بالأمل وتتعمق رحيقهآ بالاخلاص تستمد استمراريتها من الشعور والحاجة في البقاء متضامناً انها كشجرة تنمو وتزدهر عندما تكن الوفاء والاخلاص اساسها وتزول على الفور عند تعرضها لاية هزة مضللة نابعة من النوايا الخداعية
يقول احد الاخصائيين في علم النفس وهو الأمريكي ... يوجين كيندي ...إن معظم الناس يحتاجون الى شخص يثقون به ويثق بهم ذلك الشخص حتى يستطيعوا أن يروا له ما يلاقونه وما يتعرضون له بالتفصيل دون الإحساس بالخوف والحرج ولا يخجلون من مناقشة أدق أمورهم ومشكلاتهم الخاصة معه...
فتلك كانت صداقتي والراحل جسداً ابا جودي نعم انها حقيقة مرة تزداد مرارتها في كل ذكرى عشناها معاً انها حقيقة ان قلت لم تبقى مدينة ولا دولة زرناها في اوربا وإلا لنا فيها ذكريات جميلة بجمال ذاك البلد او المدينة ، فحاولت كثيراً أن أجمع ما شتته رحيل صديقي الغالي ابو جودي ولكن للاسف لازلت لم اصدق حتى اللحظة من هول وقساوة الصدمة بان أبا جودي قد رحل ولم يعد ثانية، رحلة ابدية لا يستحقها المرء الا مرة واحدة في العمر وها هو صديقي ينالها رغم الارادة الفطرية الرافضة لمثل هذه الرحلة الابدية .انها صعبة عليّ كصديق واخ بان افتقده هكذا بغدر القدر فكيف باهله واولاده في غفلة من الزمن يفقدون اعز واغلى مخلوق على الاطلاق في حياتهم والى الابد، ينتظرون اللقاء في دنيا الاخرة دون ضمان سوى الافكار المبحوحة بالامل و الملفوفة بصدق النوايا وحب القدر المغدور جبراً ...فكيف لن أراه و لن أكلمه او اتلفنه رغم أني حاولت مرات ومرات لسماع صوته من تلفونه الخاص كالعادة التي كنا مألوفين بها يومياً دون تردد، ولكن للاسف لم افلح في ذلك .. قد يصعب وجود وجمع كل تلك الصفات في شخص ما واعترف بانني لا استطيع من خلال هذه الاسطر القليلة ذكر خصال ما كان فقيدنا الراحل ابا جودي يجمع ويشترك به ، ولم ازاود عندما اقول بان الكلمات تتبعثر مني وتضلني من الصواب والقلب يترنح و يرتجف الماً لغياب صديقي الابدي والحزن يرقص ويدغدغ ذاكرتي الميؤسة في رحاب الغيبوبة الفكرية التي تجتاحني بين الحين والاخر والعقل رغم ضياعه القهري يعصر ويتظاهر بالايمان الكوني وسنته في الحياة ، والشكل الظاهري ينطق بخجول كلمات ممزوجة بدموع ودماء حزينة على رحيل اعز صديق افتقدته ولا يخفى بان رحيله سبب جرح يصعب إلتأمه بسهولة ليعود الى صوابه .. ولا يمكن نسيان الغصة التي جرفتني الى خارج اسوار الوعي ومنعتني من النطق بما هو مطلوب وتتعرقل خروج الكلمات المبعثرة في الحلق إدامة للحزن بسبب الرحيل المباغت الذي غزانا ونحن في وقت الامان المضطرب ...فالصداقة مفهوم يحمل معاني عظيمة في قمة الاخلاص والاخلاق لدى من يدرك معنى الصداقة وفق درجة استيعاب الصديق للصداقة واذكر ماقاله الشاعر بخصوص الصداقة :
صديقي من يقاسمني همومي ...... ويرمي بالعداوة من رماني
نعم للصداقة معاني لا تقدر ولا تثمن انه لغز يلتصق في ذاكرة الانسان تنخر وتتجذر عمقاً وفق درجة الاحساس والشعور الباطني في اختيار الصداقة الحقيقية بدلاً من صداقة المنفعة ويصعب على المرء في هذه الظروف ايجاد صديق خلوقٌ مسامح كريمٌ رحيم صادقٌ وفيّ حنونٌ مسالم كما كان صديقي الراحل ابا جودي رحمه الله يجمع بين تلك الصفات التي يصعب على المرء جمعه ، لا اقول هذا مجاملة ولا تماشياً مع العادة في وصف الراحلين وانما حقيقة اشعربها وعايشتها سنين طويلة يدركها كل من يعرفنا نحن الاثنين نعم ان البحث عن صداقات حقيقية كاملة ممزوجة بالاخلاص والوفاء يصعب ايجاده ..بينما نجد ان علماء النفس يؤكدون دون مواربة عن حاجة الانسان الى صداقات حقيقية اساسها الاخلاص والوفاء بما يعاكس طموحات المرء في التعامل الانساني متجنباً الاوهام والعلاقات النفعية التي تنتهي بانتهاء المنفعة والمصالح الانية ومن الخطأ ايضا الاستسلام الى فكرة عدم وجود صداقات حقيقية دائمة او ان تلك الصداقات التي كانت تبنى على اساس الاخلاص والوفاء الانساني في طريقها الى الزوال والتهلكة بحكم التحول الانساني الى شبه آلي خدمة لمصالحه وانتهازيته وانانيته المفرطة ... فلا بد للانسان حتى ان يبني صداقات حميمية سليمة وهذا يفرض ان يكون المرء صادقاً مع نفسه اولاً فمن لا يستطيع ان يصادق نفسه لا يمكن ان يبنى اية صداقات مع الاخرين ولا ان يفهم ما في خوالج الناس عامة فابا جودي الراحل كان ودوداً مع الكل بدءاً من نفسه وانتهاءاً بالاخرين ولم يفرق بين كبير وصغير واعي وجاهل بل كان صادقاً وحنوناً مع الجميع يراعي مشاعرهم وفق درجة استيعابهم للامور والقضايا...ولم يخفي لاحد ما في دواخله من شعور قومي نقي بخصوص بني جلدته محاولاً التوافق بين الاقطاب المتنافرة على اسس كردية نابعة من الشعور الانساني الضامن لحرية الانسان وحقوقه ..ولم يكن يوماً طرفاً في اي صراع حدثت بين الاطراف المتصارعة التي وصلت البعض منها الى درجة التناحر حاول دائماً تذليل
الاخطاء والتقارب بين وجهات النظر المتخالفين والكل يشهد له بذلك فلم يعيقه عائق في السير على ما كنا قد خططنا له منطلقا من نبع الكردايتي التي تربينا عليها في محيطنا الكردي ولم يمانعه المرض من مشقة السفر رغم بُعد مراكز النضال ولا الامور الاخرى التي عاقت الكثيرين عن التملص من مهامهم بقدر ماكان يفرح ويزداد حيوية عند الانتهاء من اي عمل نضالي اقدم عليه ليجهز نفسه لعملاً اخر شرطه الوحيد ان يكون في خدمة بني جلدته حيث كان دم الكردايتي يجري في عروقه ورائحة التضامن يفوح منه وكان اجتماعياً بشكل لايتصوره المرء بحيث تمكن باسلوبه المرح والفكاهي وحبه اللامحدود للكبار والصغار ومناصرته الكلية لحقوق المرأة بان يدخل قلوب الكبار قبل الصغار قادراً ان يفهم من ملامح المرء من ما يُريد ودراسة ابعاد شخصية المرء من كل جوانبه مع تقبل الكل بعللهم ونواقصهم واقامة اصدق الصداقات السليمة مع الاخرين متجاوزاً ذاته في فهم الامور الكيدية منطلقاً من عمق انسانيته تجاه اخيه الانسان .
نعم ان السماء سرت وهي تفتح اذرعتها لاحتضان روحكم الطاهر ، لتطير روحكم فوق رؤسنا ونحن غافلين عن مسعاكم الوحدوي رغم كرهكم وامتعاضكم من الوحدانية فناموا اخي ابا جودي العزيز وانتم مطمئن البال انها مشيئة القدر بان نفترق جبراً دون رغبتنا الاخوية بالفراق ..ولم نحقق وعدنا الذي كنا قد حلمنا به للعودة معاً الى ارض الوطن ، ونتعرج في جولتنا الى كردستان الجنوب وعاصمتها هولير لنتعلم منها الدروس والى كردستان الشمال في بيتختها آمد بين يديه الممدودتين لاحتضان ابنائها والزوار بحنانٍ واحد وتعاطف كردي قل نظيره وهي تستغيث الماً على تاريخها المضطرب بفعل الضياع العمدي ...فكن على ثقة باننا سنسير حتماً في الخط الذي رسمناها معاً لانفسنا كما عاهدنا بان نعمل من اجل الانسانية وقضيتنا الكردية معاً
فالف رحمة من المولى القدير على روحكم الطاهر
ستبقى خالداً في قلوبنا

حاجي سليمان



ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.