رابعة جلبي : شاهد على العصور قراءة في رواية (قايين) لـ خوسيه ساراماغو

 عدد كبير من الأدباء تعرضوا لقصص بدء الخليقة وخلق آدم وقصة قابيل وهابيل، وطوفان نوح...الخ، من خلال أعمال روائية وشعرية، منهم بايرون الشاعر الإنكليزي، وفي الأدب العربي، عملاق الرواية العربية نجيب محفوظ في روايته المثيرة للجدل (أولاد حارتنا) وكذلك إبراهيم الكوني في (نزيف الحجر)، وذلك عبر إسقاطات ومقاربات موحية وبالغة الدلالة، ومن هذه الأعمال أيضاً، رواية (قايين) للعملاق البرتغالي خوسيه ساراماغو (نوبل 1998) الذي بدأ روايته بآية من سفر العبرانيين: (وقدم هابيل للرب، باﻹيمان قرباناً أفضل من قايين، وباﻹيمان حين تلقى الرب نفسه أعطياته، شهد له أنه بار...).

رواية قايين هي آخر عمل لساراماغو (1992) في ترجمتها العربية (ط1/2011)  تقع في (187) صفحة من القطع المتوسط، صادرة عن (دار دال) بترجمة للمترجم المعروف (صالح علماني).
 
تبدأ الرواية بسرد قصة آدم وحواء وكيف حلت عليهما لعنة السيد (الله) لمخالفتهما أمره بأكلهما من الشجرة المحرمة، وكعقاب لهما ينزلان للأرض ليبدأا رحلتهما الشاقة والشائقة، الكاتب يفسر نزولهما على أنه انغماس في أرض الواقع، فنجد الأرض تضج بالحياة، وبعد معاناة يتعلم آدم حفر اﻷرض وحراثتها ليصبح مزارعاً جيداً.وبعدها ينتقل إلى قصة قايين (قابيل) وهابيل، وكيف قتل قايين هابيل ليحكم عليه السيد بأن يظل ملعوناً وتائهاً وهائماً على وجهه، ملاحقاً بخطواته نفسها، وهكذا نجد أنفسنا مع قايبن نطوف بين اﻷزمنة والعوالم الكثيرة، تارة نكون في الماضي السحيق، وتارة في الحاضر القريب، ليستمر بنا الحال حتى نهاية الرواية، بداية رحلته تكون في أرض نود حيث يعمل (معجن الطين) وتفتن به سيدة العمل (ليليث) التي لم تكن تنجب من زوجها نوح، وعندما تحمل؛ يضطر للهرب لكي لا ينكشف أمره، وفي الصفحة (88) نجد قايين يقف إلى جانب سيدنا إبراهيم وابنه اسحاق (اسماعيل بحسب الرؤية الإسلامية)، فنرى قايين شاهداً على محاولة ذبح النبي إبراهيم لابنه اسحاق تنفيذاً ﻷمر السيد، وعلى عكس الرواية اﻷسلامية نجد بأن اسحاق يستنكر عمل والده حيث يقول: (يا أبتاه،أي ضرر سببته لك وجعلك تريد قتلي وأنا ابنك الوحيد) ص 90، وبعدها يستعرض لنا انجاب سارة زوجة سيدنا إبراهيم لطفل آخر واستغراب ابراهيم بقوله (كيف لي أن أجد هذه السعادة بعد أن صرت وزوجي عجوزين متعبين)، وبعدها ننتقل معه  لنجد نفسنا مع سيدنا (لوط) شاهدين على حكايته التاريخية مع قومه وعلى الغضب الذي حل بهم وكيف دمرهم السيد بذنوبهم ص105، ويستمر عبورنا للزمن لننتقل في رحلة رابعة، لنكون مع سيدنا موسى على الجبل حيث كان يكلم السيد في صحراء سيناء...
 
وينتقل لتقريع موسى لهارون، لتركه القوم يعبدون العجل، فيدافع هارون عن نفسه بقوله: (آه يا سيدي، لا تغضب مني، أنت تعرف أن هذا الشعب يميل نحو الشر، وقد كانت الفكرة فكرتهم، أرادوا آلهاً أخر، ﻷنهم ظنوا أنك لن ترجع، وكانوا سيقتلونني دون ريب لو أنني رفضت تنفيذ مشيئتهم) ص 110، وهنا أيضاً في هذه الرحلة – كسابقتها- نكون شهوداً على عقاب قوم موسى لعبادتهم العجل، حيث قتلوا بطريقة وحشية.وفي إعصار زمني وزوبعة في التاريخ، ينتقل قايين كمراقب بسيط للأحداث التاريخية في رحلة خامسة فنجد أنفسنا في أريحا نشهد تدمير بني اسرائيل على يد القائد (يشوع)؛ ﻷنهم لم ينفذوا أمر الله ص 115، ثم نعود مجدداً لليليث كما في بداية رحلته لنجد أن نوح قد مات ويقيم أياماً قبل انتقاله مجدداً في حواضر متعددة، عاملاً في أرض النبي أيوب في عوص، والنبي أيوب وكما هو معروف رجل متدين يؤمن بالسيد، يهلك أولاده وتبور زراعته ويصاب بمرض شديد، ليختبر السيد إيمانه، وبعدها وفي رحلة أخيرة يساعد نبي الله نوح في بناء الفلك، ويشارك نوح وزوجاته والحيوانات الركوب بالسفينة الموكلة بإنقاذ الجنس البشري وأصناف الكائنات الأرضية، وهنا يقوم قايين برمي نوح وزوجاته وأبناءه من السفينة، ليصل إلى البر وحده، وتنتهي الرواية بجدل ما زال دائراً بينه وبين السيد كإشارة، بأنه لا يمكن لكلاهما الاستغناء عن اﻵخر ..
 
 وهكذا وبكثير من اﻷسئلة الفلسفية حول مفهوم الإله، والعلاقة بينه من جهة وبين الانسان والشيطان من جهة أخرى، كل هذه اﻷسئلة التي يستمر بطرحها من خلال الرواية، حيث يطرحها على لسان قايين، فنراه تارة (وفي كثير من المواضع) متحاملاً على السيد فمثلاً عند معاقبته لامرأة لوط يبرر ذلك بقوله: (من المحتمل أن السيد أراد معاقبة الفضول كما لو كان خطيئة قاتلة) ص 107، وكذلك عند تدمير قوم موسى: (يجب أن يكون السيد مستمتعاً بانتقامه) ص 111، وأيضاً: (الشيطان مكلف بإنجاز اﻷعمال القذرة التي لا يستطيع الإله توقيعها باسمه) ص 152، ثم يذكر السيد بأن الإنسان له إرادة فيقول: (ما لا يفهمه هو أنني لا أمتلك السلطة الكافية لمنعه من الذهاب إلى حيث تقوده مشيئته ومن أن يفعل ما يريده) ص 130.
..وهكذا وبمنحى فلسفي للأحداث وبكثير من الإسقاطات للأحداث التاريخية على الحاضر نمضي بالتفكير وبالعودة إلى أنفسنا، للإجابة على الكثير مما طرح وﻷخذ العبرة من القصص..
 
ساراماغو في روايته هذه يسير على خطى عدد كبير من الروائيين الذين اقتحموا مجال القصص الديني بإسقاطات رمزية أثارت أحياناً الكثير من الجدل والنقاشات الحادة. والأمرالذي لا يمكن إغفاله؛ السرد الروائي الممتع الذي يتصف به ساراماغو ذو القلم الساخر..
 


ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.