حوارعمره عشرون عاما أجري مع شيركوف صيف 1993‏

2013-08-08

الشاعر الكردي شيركوبيكس وإبراهيم اليوسف

 
    لقد أحببت الطبيعة حيث القمم السحرية والغابات التي تتحدث ليلا.
    لغة الشعر هي التي تضيء النفس الإنسانية وتحتضن المطلق
    هناك طيور شعرية جميلة في سماء تراثنا من قبل ثلاثمائة سنة لا تزال تحلق
    التأثيرات الشعرية جاءت من تركيا التي كانت قلب الالتقاء بين الشرق والغرب
    وداعا للكلاسيكية المستقبل للقصيدة الجديدة وللزهور الجديدة
 
في خريطة الشعر الكردي، يبرز اسم شيركوبيكس لافتا وبشدة كأحد أهم الأسماء الإبداعية المعاصرة، وأهميته تأتي ليس لكونه يشغل الآن منصب وزير الثقافة فى كردستان العراق، وإنما لكون قامة الشاعر الإبداعية عالية جدا، فهو إلى جانب الأسماء الشعرية المعاصرة: قدري جان - عبد الله كوران - روجن بارناس - عبدالله بشيو - رفيق صابرإلخ،  ممن يشكلون علامة فارقة في حياة الشعر الكردي، يستحوذ اهتماما فائقا، نظرا لفعالية خطابه الأدبي، وقدرته الحقيقية على بث روح جديدة في جسد الشعر، من خلال وضوح بصماتة الشخصية.. وترجمته لمضامين بيان روانكه التجديدي، الذي كان وليد شعور وغيرة كبرى علما مستقبل الشعر الكردي بعامة. وشيركوبيكس ابن السليمانية، والشاهد على مأساة شعبه، هذا الشعب الذي يعيش بحق حالة بؤس استثنائية في التاريخ الإنساني، فهو لم يبك فقط أطفال "حلبجة" الذين حصد الطاغية بأبشع الأساليب التى عرفها التاريخ الإنساني، بل إنه يبكي كذلك مع جراحات كل الأمم، والشعوب، فهي سمة تميز نتاجات المبدعين الأكراد عموما في شتى أجزاء كردستان، هؤلاء الذين يتحدثون عن مجازر ومآسي وآلام سواهم بالدرجة نفسها التى يتحدثون عبرها عن قضيتهم وجراحاتهم. وهذه إحدى العلامات الفارقة للإنسان والأدب الكرديين، ولعل شيركوبيكس شاعر على مستوى عالمي أيضا، بقدر ماهو جدا، كردستانيا، وإن لحصوله على جائزة من طراز "تولجنسكي" مما يؤكد مثل هذا الكلام.. بل إنني أرى أن شيركوبيكس وسليم بركات هما من اكثر المرشحن العالميين جدارة بجائزة عالمية كنوبل.
 
الحديث في تقديم شاعر كبير جدا مثل شيركوبيكس يطول جدا، وإن مقدمة كهذه لن تفيه حقه، على أي حال، لذلك سنتركه يجيب عن أسئلتنا الموجهة إليه، نظرا لضرورة إطلاع قارىء العربية على الأدب الكردي المعاصر، وآفاقه وأهميته، لاسيما إذا أدركنا خصوصية العلاقة التاريخية المتينة بين الشعبين العربي والكردي.
 
ولد شاعرنا فى عام 1940 لأب هو الشاعر الكردي الخالد بيكس. وقد تفتحت مواهبه الشعرية وهو في السادسة عشرة. ثم انضم إلى فصائل الثورة في كردستان العراق وعمل في إذاعتها. وأصدر ديوانه الأول عام (1968) بعنوان في "ضياء القصائد" ثم توالت الدواوين مثل هودج البكاء (1969) والنهر (1980) وأنا باللهيب أرتدي (1973) بالإضافة إلى بعض المسرحيات الشعرية مثل الغزالة والغسق (1978).
 
وقد أجرى الحوار إبراهيم اليوسف وهو صحفي وشاعر سوري اصدر حتى الآن ثلاث مجموعات شعرية "للعشق، للقبرات، والمسافة" (1986) "وهكذا تصل القصيدة" (1988). "عويل رسول الممالك" (1992).
 
الشعر.. لماذا؟
 
    الطفولة، القراءات الأول، التراث الذكريات الأول مع الشعر ولماذا الشعر؟، حبذا لو تحدثتم عن كل ذلك؟
 
- عم تريدني أن أحدثك،؟ عن طفولتي التي لم تعرف الضحك، تلك الطفولة المستباحة من قبل اللون الأسود، حيث موت الوالد، ومن ثم حياة بؤس في كنف والدة "موشحة بالأسود" وهى بعد، شابة، أجل لا أتذكر من حقل الألوان غيرلونين فقط: الأسود الذي حدثتك عنه، لون فستان والدتي، والأبيض لون الثلج المنهمر في شتاء وطني كردستان، الحرمان هو الذي أيقظ الفطرة الشعرية فيّ، حينها لم يكن أمامى بد من الاحتماء باللغة، من خلال الحكايات الشعبية، والأساطير التي علمتني نكهة الضحك ولأول مرة كما الأطفال العادين خلال الأحلام الليلية.
 
لقد أحببت الطبيعة، حيث القمم السحرية، والجبال العملاقة، والغابات التى تتكلم ليلا بصوت عال، حيث الريح المسافرة مع السحب البراقة، لا شيء أكبر من الطبيعة، والنار الموقدة في الغرفة الصغيرة، والدتي وأخواتي والحكاية. "كان ياما كان في قديم الزمان ملك يعيش في أقاصي الدينا.. إلخ"، وأستمع إلى الأشجار الكهوف، والسحب مع السماء، والمطر ينهمر خارجا، ووالدتي تستمر في حكايتها إلى آخر الليل، حتى أنام، وفي منامي أمشي مع (لاس) (Las) في الممرات الجبلية، أتسلق أشجار البلوط، أضحك، ألعب مع الأرانب البرية، أغتسل بماء الشلالات الفضية، وأسرع لكي ألتقي ب(خزال) (Xezal) وفي ظل سنديانة، أقبل فمها..، أقدم لها باقة من شقائق النعمان..، وهكذا، حيث أستيقظ أعيش في العالم السحري للشعر، ولا خلاص من سحر يداهمك ليلا ونهارا، لغة الشعر أقرب اللغات إلى نبض الطبيعة، إنها لغة الماء في جريانه، ولغة القمر، ولغة الفقر، أيضا، المجازية، مجازية اللغة الشعرية التي لا تصل مباشرة، إلا من خلال وسائط أخرى، صور داخل صور!، لقد أحببت هذه اللغة منذ أول لقاء بيننا، اللغة لاتكشف عن أسرارها بسهولة، إنها كالحب الذي لا يستسلم في أول لقاء، إنها الحب الصعب، ومع هذا وذاك فالصعب لذيذ أيضا، إنه عذاب إذا ابتعد عنك اشتقت إليه، على أمل أن يأتيك.. ويكويك، كما الاكتواء بوردة، في البداية، كنت كغزال شعري من خلال الاتكاء على الفطرة وحدها: لا أدوات فنية، الكتابة من الداخل دون التدفق خارجا، الكتابة بماء ورد الخيال ثم الانزواء الحزين، والترقب المستمر لمجىء شيء لا أعرفه، ولا أعلم متى يأتي، وفي انتظار لغة لا أراها خلال علاقتي مع الناس، إنها ليست لغة السوق أو المدرسة.. بل لغة الأساطير التي ترويها والدتي، ولكن بوشاح آخر، وبوجه آخر، وبجاذبية كنت أجدها في أحلامي فقط.
 
كم كنت شغوفا لو أكتب على طريقة الثلج مع الأشجار، وعلى طريقة المطر مع الأرض، وأن اتكلم تماما على طريقة الريح في الليالي الشتائية..!!
 
الصوفية والشعر
 
    من التراث الصوفي الكلاسيكي، في دنيا الشعر، إلى وضع اللبنات الأولى لمشروع كتابة قصيدة كردية جديدة، حبذا لو توضحون لنا، كيف تم كل ذلك؟
 
- الإبداع الشعري له عالم واحد، رغم كثرة الطرق المؤدية إليه، إننا نبحث عن الجوهر من خلال السبك الشعري الذي يتحدى الزمن، هنالك طيور شعرية جميلة في سماء تراثنا منذ قبل ثلاثمائة سنة، ولا تزال تحلق فوقنا، برشاقة وكانها بدأت الطيران للتو، الإبداع هو الإبداع، ما كان جديرا في الأمس، هو جدير الآن، ويصلح للغد، أيضا، المبدعون يثورون داخل  اللغة قبل أي شيء آخر، ثوروية الصوفيين، ثوروية الواقعيين، ثوروية السريالين.. إلخ. تبدأ من الكلمة المبدعة، الكثافة، المتوجهة إلى المستقبل أبدا، ولكل زمن شعراؤه وأنبياؤه، "نالي" كان صوتا حداثويا في وقته، إذ ثار داخل اللغة على اللغة الصنمية، المبدع الشاعر هو المتحول، دائما، المتجاوز للغة المستكينة. إن الجريان المستمر للغة، يجب أن يدركه المبدع الذي يشكل بدوره امتدادا لنهر الإبداع الأزلي، فالنهر الذي يجف يفقد اسمه بعد حين من الصمت، كان "كوران" رأس جسر حداثوي للشعر الكردي، غير المفهوم الشعري لدى الناس، لقد كتب بلغة بسيطة، بساطة جمال كردستان، وغير الإيقاع الشعري، والإيقاع بمثابة مطر لروح الشعر، الانهمار والمطر لايفترقان، وبعد "كوران" تشعبت الأساليب الشعرية عندنا، ولكن كل ذلك جاء بعد الحرب العالمية الأولى- وعن طريق تركيا- التي كانت ناهضة آنئذ، وتركيا كانت بمثابة قلب الالتقاء- بين الشرق والغرب- إذ تجلى فيها التأثر المبكر بالحركات السياسية والاجتماعية والأدبية، وكان لحضور نخبة من الأدباء الأكراد- وبحكم وجودهم هناك- تأثير مباشر على الحداثوية في رؤاهم، ويمكن أن أذكر هنا "بيره مير" و"شيخ نوري شيخ صالح" وغيرهما ممن كانوا من المتأثرين الأول بالتجديدية الأدبية بعامة، والشعرية - بخاصة هكذا هو شأن الثقافات التى تتلاقى عادة، كي تتولد عنها جداول إبداعية.
 
    القصيدة الكردية أكدت من خلال كتابات شيركوبيكس، عبدالله بشيو، وآخرين قدرتها على تناول هموم العصر، والقضايا الدقيقة والحساسة، بلغة العصر؟ نفسه، هل لديكم أشياء أخرى؟ يمكن إضافتها هنا؟
 
- في الحقيقة، الخريطة الشعرية الحداثية الآن عندنا- أي في كردستان العراق- متغيرة، أو تغيرت خلال السنوات العشر الأخيرة، نعم، لإبداعات عبد الله بشيو ورفيق صابر ولطيف هه لمه ت، وآخرين مساحات مضيئة وإضافات مهمة، ولكن الآن بدأت تظهر أصوات جميلة اخرى، لم تكن معروفة، إنها سنة الحياة التي تجيء بالجديد دائما. لقد كانت بدايتنا نحن في أوائل السبعينيات- حيث الهزة العنيفة- إذ أصدرنا بيان (روانكه) الأدبي، أي قبل 22 عاما- طبعا، متأثرين بالبيان الشعري 69 في العراق، وبحركات التجديد في العالم العربي وبيان (جاليري 68) في مصر- لنقل كان روانكه الصيحة الحداثوية أو المرصد الجديد، لتحريك ( البركة الجامدة)، لقد توقف بعضهم عن الإبداع، وسكت آخرون نهائيا منذ ذلك الوقت، في مقابل استمرار آخرين أيضا مع أن بعضهم يسير بالوتيرة نفسها من الإبداع، وبعضهم تراخى.
 
لقد كنت في الخارج، في الغربة كتبت، وآخر ما كتبته هو الملحمة الشعرية الطويلة (مضيق الفراشات) عام 1991، وهي تقع في 235 صفحة من القطع الوسط، ولا أزال مستمرا حتى الآن، وبعد عودتي رأيت سحبا شعرية جميلة في كردستان، فاستمعت إلى هدير شلالات شعرية جميلة في عالم الجيل الجديد الحداثوي ( به ختيار علي) مثلا، والذي هو صوت متفرد، ومتميز، وموهبة شعرية ذات قدرات هائلة، إنه يحلق عاليا الآن، بالإضافة إلى أصوات ، جميلة أخرى، ل قوبادي جه لي زاده- كريم ده شتى- نوزاد رفعت- والشاعرة الموهوبة "كه. زال أحمد" تلك هي الكوكبة الجميلة في فضاء الشعر الكردي الجديد.
 
    هل ثمة هوة بين ما يمكن أن نسميهم بالكلاسيكيين الأكراد ورواد الحداثة؟ أم أن العملية هي تكاملية، واستمرارية، وديمومة؟
 
- َكلاسيكيونا ومحدثونا في المحصلة يشكلون حديقة واحدة، متنوعة، متكاملة، رائعة، وأحب أن أستطرد بالقول: إن الكلاسيكية في أدبنا توقفت تماما، والفرز أصبح واضحا فالمستقبل للقصيدة الجديدة، للزهور الجديدة، الكتابة الشعرية، برمتها تنهل من الإيقاع الذي بدأه "كوران" وعمقه كثيرون من بعده، وكوران ترك الكتابة بأوزان العروض العربية، عائدا إلى الأوزان الكردية الخالصة التى كان يكتب بها شعراء منطقة (هه ورامان) من قبل، مع أن كوران أضاف إلى تلك الأوزان إيقاعات مبتكرة اكتشفها هو.
 
    أنسنة الجمادات التي في قصيدتك، ألا يمكن اعتبارها ردة فعل على التشيؤ الذي يواجهه إنساننا الكردي؟
 
- ربما كذلك، ولكن هي قبل كل شىء تدخل في مشروع التجربة والمحاولة للمسك بلب الشعر، والتخلص من الزيادات التي تشوه القصيدة. إنني معني بالقصيدة التي تقترب بحذر وبدقة من منطقة القلب الشعري، الصور المكثفة، الحالة الشعرية سريعة الجريان، إنها النقلة من الخاص إلى العام، من الأشياء الصغيرة نكون العالم الكبير، ومن مجرد كلمة تنطلق إلى بحر القواميس كى تتكلم وردة وحيدة بدلا عن عالم حزين، آو تتفوه محبرة بدلا عن ثورات العالم، وهكذا نبصر في أصغر الأشياء، وأكثرها هامشية، جوهر الوجود!!
 
    إشكالية اللهجات الكردية- ألا تقف برأيك- كأحد المثبطات ضد تطورالقصيدة الكردية وتواصلها! وهل ثمة مايدعو في المستقبل إلى التفاؤل من أجل وضع حد لمثل هذه الإشكالية؟
 
- نعم إن تعدد اللهجات يضيق خارطة الإبداع الشعري، كما ونوعا، إنه المشكلة الكبرى في لغتنا، إن تعدد اللهجات يعني تعدد الإحساسات تقريبا، فمثلا: القصائد المنشورة عندنا، وبالحروف العربية، لايستطيع قارىء كردي في كردستان تركيا قراءتها، لأن هذا القاريء يكتب ويقرأ بأحرف لاتينية. كذلك، فالذي يقرأ ويكتب بالحروف اللاتينية هو بالتالي أمام ثلاث لهجات كردية رئيسية، وثلاث طرق مختلفة في الكتابة أيضا، وهذه الكتابات يجب أن تترجم داخل لغة واحدة، وهذه مسألة  مأساوية، ولكن يجب ان نعلم أن الواقع المجزأ للشعب الكردي، هو الذى قطع هذا الجسد الواحد بهذا الشكل، أي أن المسالة سياسية، واجتماعية، واقتصادية قبل كل شيء.
 
إن هذه الإشكالية- كما تقول أنت- هي إشكالية الواقع القومي للشعب الكردي، إشكالية التجزئة. وعلى الرغم من وجود حلول ما هنا.. أو هناك، إلا أنها تبقى حلولا مؤقتة، إن الحل الجذري يكمن في الالتئام القومي، وللحديث صلة!
 
    هل في نيتكم إصدار معجم للشعراء الاكراد، الذين هم معرضون حقا للضياع بين خطوط الخرائط التي تتناوب كردستان؟
 
- في نيتنا عمل الكثير، ولكن كما يقال: "اليد قصيرة" ولا تطال أفنان الشجرة الجميلة التي نراها. معجم للشعراء الاكراد، التواصل مع الشعراء في عموم كردستان، إقامة الندوات والأمسيات الشعرية تبادل الوفود والمؤتمرات، وغير ذلك، الكثير.عموما، هنا، لاتحاد الأدباء الاكراد في كردستان العراق مثل هذه الأحلام والتوجهات والآمال، والطريق!!
 
لغة خاصة للشعر
 
    هل ثمة لغة خاصة للشعر؟
 
- إن لم تكن للشعر لغة خاصة به، فهذا يعني أنه ليس للحب أيضا لغة خاصة به، لغة الشعر هي لغة الحياة، نفسها مع نفسها، اللغة السحرية حين تضيء داخل النفس الإنسانية والتى تحضن المطلق، متجاوزة جميع الحدود، والأمكنة والازمنة.
 
    من المنفى إلى الوطن، إلى اليوميات الجميلة التي يتخللها هنا الفرح، والترقب.. و..، كيف يرى شاعرنا شيركوبيكس ذلك؟
 
- إنني طائر أتلون بالشعر، سواء أكنت في المنفى، أو في الوطن، أو فيما كنت أعيش الفرح والترقب، إنه القلق الجميل، الظمأ الدائم، ورفض القناعة أبدا، حين كنت في الجبل مع فصائل المقاومة، كنت أتلون بدم الشهداء محاولا ان تحلق قصيدتي عاليا، مثل أرواح هؤلاء، وحينما كنت في المنفى كنت أتلون وأكتوي بالغربة حيث يبدأ الشوق إلى الأرض- المهد - وهكذا لا نهاية لاشتياق العذاب والفرح والوحدة، ولا نهاية للمطر/ الكتابة، إلا بالموت الجسدي وحده، إنني أتنفس برئة الشعر، لقد قلت هنا وفي ندوة أدبية: إنني الآن شاعر وزير- ولست بوزير شاعر، غدا سيبقى الشعر فقط، أليس كذلك؟
 
فأنا أنظر إلى الوزارة، ومنصبي كوزير على أنه مجرد وظيفة وطنية فقط وفى هذه المرحلة المهمة من تاريخ شعبنا، وحين أكتب الآن، فلا أستطيع الكتابة كما يحلو لي إلا بعد أن أبتعد كليا عن هذا الكرسي لأحلق في فضاء آخر، فضاء الحب والشعر!
 
    هل يدخل ضمن اهتمامات وزارة الثقافة في كردستان العراق، إصدار مجلة، تهتم بالإبداع الكردي- كردستانيا؟!! 
 
- نعم، إن كل اهتمامنا الآن منصب ضمن وزارة الثقافة في كردستان نحو ثقافة كردية، متنوعة، وإعلام كردي ديمقراطي، لقد بدأنا عمليا- بالأمر: حيث سنصدر الآن مجلة "كاروان" القافلة- الشهرية، ومجلة " هه ريم" الأسبوعية. وسيصدر العدد الأول من القافلة قريبا جدا، بالعربية، كذلك ستصدر مجلة "هه نك)- النحلة- للأطفال، كما أن الأمسيات الشعرية والأدبية في عموم كردستان مستمرة بالإضافة إلى إقامة المعارض الفنية، وغيرها..
 
الشعر الكردي في سوريا
 
    ما رأيكم بالشعر الكردي الجديد في سوريا؟
 
- لنقل الشعر الكردي المكتوب بالعربية، وهذه حقيقة لا مناص منها، إن النماذج التي اطلعت عليها- خاصة عندما كنت في الخارج- هي نماذج متطورة فنيا، قصائد لها نكهتها الخاصة. الجسد عربي والروح كردية. ولقد لاحظت في السنوات الأخيرة أن همومنا لها سماء واحدة، الأمكنة واحدة تقريبا، والتوجه نحو الينابيع نفسها، هو واحد، بيد أن مسألة اللغة، وإشكالية الكتابة بها، (......) تخلف الكثير من التساؤلات المشروعة، على شعرائنا الشباب في سوريا أن "يندمجوا مع لغتهم الأم" وأن يكتبوا بها،- وهذه مسألة حياتية للشعر والأدب معا.
 
أن تفكر ككردي..وتكتب بالعربية، اصطدام بواقع مؤلم. فعلى شعرائنا الشباب تجاوز هذه الإشكالية، وتخطيها مهما كانت العراقيل، والكتابة بلغتهم الأم من أجل كتابة نصوص جميلة نلتقي فيها مع دموع العراقيل، والكتابة بلغتهم الأم من أجل؟ كتابة نصوص جميلة نلتقي فيها مع- دموع، حلبجة- ومع رماد وورد قرانا، إن الشعر الكردي الجديد في سوريا متأثر بالتجديدية السورية العربية في مجال الشعر- وهذا أمر طبيعي- هناك بصمات لشعراء وكتاب مبدعين ( ولاسيما سليم بركات ) على قصائد شعرائنا الشباب فيما يخص الأسلوب الكتابي.
 
رغم أن روح هذه القصائد كما أوضحت كردية، إلا أن هذه القصائد تعاني كما قلت من غربتها واغترابها!! إذ ثمة غربة تشكلها المفردة مع قارئها الكردي، وغربة عدم التواصل الكامل مع الأحبة خارج بعض الحدود، إضافة إلى حاجز الاغتراب. وفي هذا نوع من الانشطار، أو نوع من الانشطار اللغوي وإنهاك النص الشعري. فما أقسى من أن يكتوي الابن بلهيب قضيته، وآلامها. إذ يشتاق للانصهار في كل خلية من جسد الوطن دون أن يتكلم، ويكتب بلغة الوطن نفسه. وفي هذه الحالة تبرز الحاجة إلى مترجم دائم يقف بينه وبين النص من أجل استمرار التواصل (......)
 
أمام الكتابات الإبداعية، والنصوص الجميلة (رواية- شعر) لشاعر جميل مثل سليم بركات نجد نبض كردستان وتاريخه في شرايين نتاجاته، وكذلك إننا أمام كتابات بشار كمال نلمس تلك اللغة التي تعيش غربتها، ونحن لوعدنا إلى الآداب العالمية، لوجدنا أن الإشكالية نفسها تكررت في الأدبين الجزائري والمغربي، حيث يكتب هؤلاء المبدعون باللغة الفرنسية، وهنا ترانا ماذا يجب أن نقول؟ هل نلغى اللغة القومية ونتمسك بتلك الروح التي ترفرف داخل هذا النص أو ذاك؟ ثم لمن ستحسب تلك النتاجات في الغد، هل ستحسب لصالح اللغة التي كتبت بها؟ أم لصالح اللغة الأم لمبدعيها، ام للطرفين في آن؟!
 
الفن وظيفة
 
    ثمة طروحات جديدة بدأنا نسمعها ومن جديد... ينادي أصحابها بأن لا وظيفة للفن. ماذا يجب أن يكون موقف مبدعنا من هذه المقولة، لاسيما أن لجرحنا خصوصيته التامة؟
 
- إن المتعة الأدبية هي وظيفة أيضا، ودون المتعة- والمتعة شمولية هنا- لا فن، ولا روح، ثم ماذا سيبقى للكتابة حين تكون دون الآخرين، وحب الآخرين؟ وكلمة (الوظيفة) هي هنا (مقحمة) أي تم وضعها في غير مكانها تقريبا، إن اللغة نفسها وعملية الكتابة بها هما نوع من الالتزام بحد ذاته، لا "وظيفية الفن" هل يعني ذلك أن الفن خارج أحاسيس الآخرين؟ إنني أكتب للغرفة التي أعيش فيها، فقط، وإذا افترضنا وقلنا: نعم، فلماذا الكتابة أصلا؟ الكتابة كالحب تواصل مع الآخرين، مع القراء
 
ولا شيء في الفراغ، إنني أرى الإبداع مهما اختلفت أساليبه، وتسمياته، لا يستطيع العيش دون التواصل الصميمي مع الاخرين، العشاق الآخرين. ثم إننا لسنا بحاجة إلي إطارات توضع من قبل نقاد غربيين، كأن توضع من قبلهم (إطارات لقلوبنا وأحاسيسنا) إنهم بذلك يقعون في الوظيفية أيضا، إن كثيرا من التيارات المفتعلة في الغرب في مجال الشعر والنثر لم تتمكن من العيش، بل دفنت، صمتا، بعد أن أثار دعاتها ( زوابع كلام دون نصوص إبداعية تشفع لهم) ولتحلق في سماء حب الآخرين وتواصلهم معها، أيعني ذلك عدمية اللغة؟ وكيف؟
 
إن الينابيع الأولى لقصيدتي هي هنا في رؤاي، ورأسي، كما ان رأسي ورؤاي منضمان إلى هذا الزمن، وهذا الدخان، وهذا الدم الملون لتاريخي، ووجودي، كي ينطلق الشعر، فكيف إذن نسمع لمن يريد الفصل بيننا وبين ماننضم إليه، وينضم إلينا، كيف؟
 
نشرالحوارفي صيف 1993-مجلة العربي- وجهاً لوجه
 
 


ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.