حوار بينوسا نو مع الكاتب د. محمود عباس - الجزء الثاني

2013-07-16

أجرى الحوار  السيد عصام فتاح

نشر في العدد  الرابع عشر
 
 
س – 8 ."... مهاجرٌ إلى اللاوطن، تائه بين الغائب والحاضر، يصارع الزمن كلما تحرك، يهيم بوطن الأمجاد التي لم تخلق بعد في روابي لم تغب يوماً عن الذات، وفي وهادها التي لم يختف طيفنا عنها لحظة" .....
لاشك فيه يرى المتتبع لسيرتك الذاتية بأنك ذقت مرارة الغربة مرتين، الأولى انتهت بعودتك للوطن، و الثانية لا تزال، بين خاركوف - موسكو وحيث أنت مقيم الآن بإحدى الولايات الأمريكية ترى ما هي نقاط التشابه والتمايز بين الغربتين ؟
 
  ج – 8  .. مرارة الغربة واحدة، رغم الإختلاف في السويات ومدى إندماجها مع المتعة، قد يتعود عليها المهاجر مثلما يتحمل المريض آلام مرض عضال، التباين بين المهجرين، كانت نوعية، بينهما أختلاف في اللذة أو الألم الروحي، الحالتان موجودتان، يتلقاها المهاجر في غربته، لكن الهجرتين هدت الذات في بعضه، الوهج كان مختلفاً، في الأولى حملتها على آمال العودة، والحنين كان يضمحل بنزعة عبثية الشباب والمرحلة الطلابية وبالتعليلات الفكرية، كنت أبني الذات على تكوين ثقافي أحمل عليها مستقبلي، لكن الهجرة الحاضرة ضُمرت في ثنايها آمال العودة الدائمة، ولا أعني الزيارات الطويلة، الأسباب متنوعة، ذاتية وموضوعية، أطفال ينتمون إلى العالم الحاضر، والظروف الإقتصادية، السلبية والإيجابية، وجذور عائلية مشتركة غرزت في ملامح الضياع في اللاوطن أو وطن الأبعاد على حساب وطن الأمجاد، وهذه حقيقة، أنفي الإقتناع بها رغم تفاقمها مع تكالب الزمن، لأنها تزيد الحنين ومعها الآلم، تشترك الغربتين في كثيره، الأيام القاسية في الماضي تصبح أمتعها، وأشذ الأماكن تنبثق كألذها إلى الذات، عشت في المهجرين مع أصحابي الماضي ولم أبالي إن كان حلماً، رغم أن الإنترنيت في الغربة الحاضرة ألغت الزمن وقصرت الأبعاد، وربطتني بالوطن بكل أبعادها، بعكس الماضي، أعيش مع  الوطن أنام واستيقظ معه، اتتبع كل تفاصيله، أعاني معها الألم حتى ولو روحياً، ومع ذلك ورغم الإندماج والتقارب إليها، تبقى متعة الحضور فارضة ذاتها ولا يمكن أن تختفي. أشعر أن الحنين إلى روابي الطفولة يتفاقم مع تقادم العمر، وكأنني أحلم بأن العودة ستعيد إلي ليس فقط لذة الماضي بل مراحل الشباب ومرحه.
 
■  ... 
 
س – 9 .. إذا ما تعمقنا قليلاً في تاريخ مغادرتك الأولى والثانية من الوطن نجدها تتطابق مع حدثين آخرين:
 
فبينما غادرت إلى خاركوف عام (1981) كان قد عاد لغرب كردستان قادماً من كردستان إيران الفنان الراحل محمد شيخو، وقبل مغادرتك الثانية لأمريكا والتي كانت عام (1990) كان قد انتقل فناننا الكبير  إلى مثواه الأخير قبلها بعام..... برأيك إلى أي مدى كانت لكلمات أغاني الراحل وجمله الموسيقية المرتبطة بتلك الكلمات من أثر على الشارع الكردي، وأيهما ترى بأنه ذو تأثير أكبر على الشارع بشكل عام (الموسيقى أم الكتابة)؟
 
 ج -  9 ..أغاني المرحوم ( محمد شيخو ) رحمه الله، لم تأخذ صداه  (القومي ) مقارنة بإنتشارها الشعبي الواسع إلا بعد رحيله، في حياته لم يتلقى من المجتمع الكردي ولا من السياسيين التقدير الكافي، بعد وفاته تسابق الكل في بيع الوطنيات على قيمه القومية، وتاجروا بإسمه. قدر الشارع الكردي أغانيه ونسوا حضوره الشخصي، أجتاحت صدى أغانيه الكثير من الحواجز، لهذا فإن السلطة أنتبهت إليها مبكراً لبعدها القومي وهو لا يزال حياً، أدركت الأجهزة الأمنية أن الأغنية القومية أو الثورية والتي تندرج  أغاني المرحوم بأغلبيتها في ذلك المنحى، ستلهب الشارع والشباب في ثورة فكرية ما وتغطيها بعاطفة جياشة، رغم إنها ككل الاغاني القومية الثورية أو القومية العاطفية غالباً ما تكون آنية وتنتسى بعد فترة زمنية قصيرة، وربما بعد إنتهاء الأغنية بلحظات، لكنهم عرفوا أن أغاني المرحوم بدأت تخرج من إطارها  الشعبي إلى أبعادها القومية، لذلك كان المرحوم في صراع دائم ومضايقات صعبة مع السلطة، ولم تنتهي  حتى وفاته.
 
 من المعروف في الواقع الثقافي الفكري أن الأغنية في أبعادها الوطنية والقومية تثير العاطفة والأحساس، وتحفز شعور الفرد  اللحظية، وهكذا كانت  أغاني المرحوم ولا تزال، رغم أن تأثير الأغاني تتبدل مع مرور الزمن، لكن  ما خلفه المرحوم تكاد أن تدخل في ثنايا البعد القومي الكلاسيكي، لهذا نجد لأغانيه حضور حتى اللحظة، رغم ملاحظة اختفاء ما في وعي الجيل الحاضر، ولا شك - كما ذكرنا - تأثير كلمات أغنية المرحوم في الوعي القومي الكردي حينها،  كان السبب في معاناته مع قوى الأمن السورية، دفع المرحوم ثمنها حياته، مثلها كان قد واجهها في إيران في مخيمات مهاباد. أصدقاء من الكرد العراقيين لا زالوا يتحدثون عنه بشوق، وكثيراً ما يتذكرونه بحنين وحسرة، ويتذكرون معاناته مع المخابرات الإيرانية.
 
   أعطى الشعب الكردي جثمانه حق قدره، تأنيباً للضمير، نقلوا المرحوم من مغني  محبوب لنوعية غنائه إلى شبه اسطورة قومية بموسيقاه وكلمات أغانية، تبين للجماهير بعد موته بأنه كان يحمل آهات كل الأمة بكلماته ومعانيها، عاش فقيراً في كردستانه ومات بطلاً، خلد أغنية قومية مؤثرة، خليطة بين الألم والعنفوان، لا يزال وسيبقى المرحوم بصوته وأغانيه رمزاً في وجدان الأمة.
 
 وكمقارنة بين الأغنية والموسيقى - القلم والكتابة،  فالأغنية والموسيقى أقوى تأثيراً من الكتاب على المدى القريب في الشارع، علماً أنهما يكملان بعضهما في حقل الثقافة، لكن القلم والكتاب متلقفيه قلة، والنخبة هم الذين يحملونها، أما الموسيقى والأغنية بكلماتها تدخل بسهولة في كل الأروقة وإلى وجدان كل فرد، من العادي إلى النخبة، أغاني المرحوم لها صداها الذي يتجاوز الكتاب في كثيره، من حيث تفعيل الشعور القومي وتحريك العاطفة الوطنية الآنية، لكن الكتاب يبقى المؤثر الأعمق في الثقافة والأهم في تغيير المفاهيم.
 
■   ...  


ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.