Feqî Kurdan : دراسات في الفكر القومي الكردستاني ( الحلقة 26 ) : الإسلام السياسي وبؤس الثقافة الكُردية

2013-04-01

تمهيد: 

لن نبحث الآن في العلاقة بين الكُرد والإسلام من المنظور الكوني (قصّة الخليقة، العالَم الآخر)، ولا من المنظور الروحي (الشعائر والعبادات)، ولا من المنظور التشريعي (الحقوق والواجبات). موضوعنا هو البحث في العلاقة بين الكُرد والإسلام السياسي، ومعرفة حال الثقافة الكُردية في ظل الدول التي حكمت باسم الإسلام 13 قرناً، بدءاً بقيام الخلافة الراشدة (632 م) إلى سقوط الدولة العثمانية (1923 م).  
وقد دلّلنا في دراسة سابقة على أن العرب أجادوا توظيف الإسلام لخدمة أمّتهم في جميع المجالات، وهذا حقّهم، فالعروبة والإسلام وجهان لحقيقة واحدة؛ حسبما يؤكّد كثير من منظّري القومية العربية (مثال: مُحيي الدين صُبحي: ملامح الشخصية العربية، ص 73. محمد طارق قائد بَيه: أركان القومية العربية، ص 54.)، وحسبما أكّد كثير من منظّري الحركات الإسلامية (مثال: محمد عمارة: فجر اليقظة القومية، ص 41.). وعلمنا أيضاً أن الفرس والترك قفزوا إلى سُدّة السلطة، وحكموا باسم الإسلام، ووظّفوه لخدمة الأمّة الفارسية والأمّة التركية، فهل نهج الكرد نهجهم، وهل وظّفوا الإسلام لخدمة الثقافة الكردية؟ 
جدلية الثقافة والدولة:
لا نزعم أن الثقافة الكُردية كانت مزدهرة قبل الإسلام، فالكُرد كانوا تحت تابعبن للدولة الساسانية، وصحيح أن أسرة بني ساسان كردية الأصل (الطَّبَري: تاريخ الرُسُل والملوك، 2/39)، لكنها كانت فارسية الهوى والثقافة والسياسة، ووظّفت الدينَ الزردشتي الكردي المنبت لخدمة المشروع التوسّعي الفارسي، ومعروف أن (السلطة، الثروة، الثقافة) ثلاثي متلازم متكامل، ونظراً لافتقار الكرد إلى دولة (سلطة) خاصة بهم حُرِموا من الثروة أيضاً، واضطر معظمهم إلى العيش في كنف الحياة الرعوية الريفية، للاحتفاظ بالبقاء تحت أقسى الظروف، ومتى كانت البيئة الرعوية الريفية مناسبة لازدهار الثقافة؟
لقد وقعت كُردستان تحت سلطة دولة الخلافة بدءاً من حوالي سنة (16 هـ = 637 م) ، وبدأ الكُرد رويداً رويداً باعتناق الإسلام طَوْعاً أو كَرْهاً، ومعروف أن العربيةَ لغةُ الإسلام، وكانت في الوقت نفسه لغةَ دولة الخلافة؛ لأن الخليفة الأُموي عبد الملك بن مروان أمر بتعريب الدواوين (إدارات الدولة) حوالي سنة (720 م) (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 3/354)، فأصبح كلُّ كُردي محبٍّ للثقافة، أو راغبٍ في الوظائف، ملزَماً بتعلّم العربية، ومنذ حوالي سنة (1500 م) أصبح الكُردي الواقع تحت سلطة الدولة الصَّفَوية والدولة العثمانية ملزَماً بتعلّم اللغتين الفارسية والتركية والكتابة بهما إلى جانب العربية. 
وقد نبّه الشاعر الكُردي الكبير أحمد خاني (1651 – 1707 م) إلى العلاقة الوثيقة بين إقامة الأمّة لدولتها وازدهار لغتها وثقافتها، فقال ما معناه:
" أمن الممكن أن يحالفَنا دورانُ الفلك، ويَطْلَعَ كوكبُ سَعْدنا،
ويصبحَ حظُّنا- ولو مرةً- حليفاً لنا، وننهضَ من رَقْدتنا،
ويقومَ فينا أيضاً سلطانٌ يكونُ ملاذاً للعالَم،
ويسودَ سيفُ معرفتنا، ويُعرَفَ قدْرُ قلمنا،
فتجدَ علّتُنا علاجاً، ويَلقى عِلْمُنا رَواجاً "؟! (أحمد خاني: مَمْ وزِين، ص 133)
إن وقوع كُردستان تحت هيمنة الدول العربية والفارسية والتركية الحاكمة باسم الإسلام، أدّى إلى اهتمام المثقفين الكُرد بثقافات تلك الشعوب، وإهمال الثقافة الكردية، وكانت النتيجة أن العهود الإسلامية تزخر بمئات المثقفين الكُرد الذين ألّفوا بالعربية والفارسية والتركية في مجالات الدين والعلوم والآداب والفنون، ويُعَدّ بعضُهم من المشاهير في تخصصاتهم الدينية والأدبية والعلمية. أمّا الذين ألّفوا منهم بالكُردية طوال 12 قرناً (بين القرنين 7 و 19 م)، ووصلتْنا أسماؤهم وبعضُ آثارهم، فعددهم لا يتجاوز العشرين، وانحصرت معظم كتاباتهم في الأدب وبعض علوم الدين.
مفارقــة غريبة:
وثمّة مفارقة مثيرة للانتباه بين حال الثقافة الفارسية وحال الثقافة الكُردية في ظل الإسلام السياسي، فقد بدأ نُخب الفرس بوضع الأساس لنهوض الأمّة الفارسية، وتحريرها من هيمنة دولة الخلافة العربية، منذ القرن (9 م)، حدث ذلك في عهد الدولة الصُّفّارية التي حكمت بلاد فارس بين (867 – 908 م)، ثم في عهد الدولة السامانية التي حلّت محلّ الدولة الصُّفّارية، وحكمت بلاد فارس وشمالي أفغانستان بين (874 – 999 م) (سيديّو: تاريخ العرب العام، ص 215. فيليب حتّي وآخران: تاريخ العرب، ص 537.). 
في ظل الدولتين الصُّفّارية والسامانية أُحييت الروح الفارسية، ونشط المثقفون الفرس وألّفوا بالفارسية، وعادوا إلى تاريخهم الأسطوري، واتخذوا كتاب (خُدايْ نامَه) المؤلَّف في العهد الساساني بالپَهْلوية (أصل اللغة الكُردية) مرجعاً ثقافياً، وتكلّلت جهودهم على يدي الشاعر الفِرْدَوْسي (توفّي حوالي 1020 م) بتأليف ملحمة (شاهْنامَه) شعراً بالفارسية، وأهداه إلى السلطان محمود الغَزْنَوي، مع العلم أن الغَزْنَويين تُركٌ، كانوا مرتزقةً في الجيش الساماني، ثم سيطروا على الدولة السامانية، وأقاموا الدولة الغزنوية، ولا ريب في أن إهداء (شاهنامه) إلى السلطان الغَزنوي دليل على أن الثقافة الفارسية كانت قد ترسّخت، حتّى إنها صارت لغة أثيرة في البلاط الغزنوي التركي. (حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام، 3/82. أمين عبد المجيد بدوي: جولة في شاهنامة الفردوسي، ص 8 – 15.)
وقد تأسّست في كُردستان أيضاً حكومات كُردية مستقلة نسبياً ومعاصرة للدولة السامانية، أبرزها الحكومة الحَسْنَوَيْهِية (البَرْزَيكانية) في هَمَذان، وتلتها الحكومة الشَّدّادِية في أَرّان (مقسّمة الآن بين أذربيجان وأرمينيا وجورجيا)، وبعدئذ تأسست الدولة الدُّوسْتِكية في شمالي كُردستان، وتأسّست الدولة الأيوبية في مصر وسوريا، وشملت غربي كُردستان، وأجزاء كبيرة من شمالي كُردستان وجنوبها. لكن الغريب أننا لا نجد ما يدلّ على اهتمام تلك الدول بإحياء اللغة والثقافة الكُردية، ولا نجد فيها مثقفاً كُردياً شهيراً كالفِردوسي، والأغرب من هذا أن الأمير شرف خان بَدْليسي (صاحب إمارة بدليس) ألّف كتابه (شَرَف نامَه) في التاريخ الكُردي بالفارسية (1005 هـ = 1596 م)، وليس بالكُردية، بخلاف ما فعله الفردوسي قبله بحوالي خمسة قرون.
من بؤس قديم إلى بؤس جديد:
ليس غرضنا من هذه المقارنة اتهام شرف خان وغيره من المثقفين الكُرد بالتقصير، فالمثقف محكوم بظروف العصر السياسية والثقافية، وكانت الحكومات والدول الكُردية ذات طابع أُسَري وقَبَلي، وتدور في فلك الثقافات العربية والفارسية والتركية، ولم تكن قومية النزعة كالدول العربية والفارسية والتركية، ومعروف أن الدولة الأيوبية كانت أكبر الدول الكردية وأقواها، لكنها كانت عربية الثقافة، ولم نجد في تاريخها أيَّ دليل على اهتمام سلاطينها باستخدام اللغة الكُردية في الإدارات، ولا بإحياء الثقافة الكُردية.
إن الثقافة الكُردية عانت بؤساً شاملاً في ظل الإسلام السياسي بجميع عهوده، لقد  أُبعدت عن السياسة والثقافة والاقتصاد، وكُبّلت بالجهل في الأرياف والمراعي، فعبَرت إلى القرن العشرين بحال بائسة؛ لا دولة ترعاها، ولا ثروة تتيح لها الازدهار. إضافةً إلى أن الدول التي خرجت من عباءة الإسلام السياسي القديم (إيران وتركيا والعراق وسوريا)، وتقاسمت كُردستان، كرّست ثقافة الإنكار والإقصاء والقهر والصهر، ومارست سياسات شوفينية ضد الكُرد، فابتُليت الثقافة الكُردية ببؤس جديد أسوأ وأشدّ هولاً.
 ونتيجةً لذلك اضطرّ معظم المثقفين الكُرد إلى خدمة الثقافة العربية والفارسية والتركية، ساهين تماماً عن اللغة والثقافة الكُردية، وعلى سبيل المثال: مَن يتأمّل أشعار أحمد شوقي في مصر، وأشعارَ معروف الرُّصافي في العراق، ومؤلَّفات العلاّمة محمد كُرد علي في سوريا، لا يجد فيها أيّة علاقة بالشأن الثقافي الكُردي.
وما زالت الثقافة الكُردية تدفع إلى هذا اليوم ثمناً باهظاً لذلك البؤس.
ومهما يكن، فلا بدّ من تحرير كُردستان!
1 – 4 – 2013
Feqî Kurdan (Dr. E. Xelîl)
 


ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.