الخلفيات السياسية لتصفية الناشطات الكرديات الثلاث

2013-01-12

الشرق الاوسط
يقع مكتب المعهد الكردي حيث نفذت بالأمس عملية تصفية ثلاث ناشطات في حزب العمال الكردستاني في مبنى متواضع عادي بحي الدائرة العاشرة في العاصمة الفرنسية باريس. بيد أن المكتب وإن كان يُعرف بـ«السفارة» فإنه يفتقر في الواقع إلى أي من المزايا والصفات الملازمة للبعثات الدبلوماسية.

لسنوات عديدة استخدم المكتب المستهدف مكانا للاجتماعات التي يعقدها الناشطون والحركيون الأكراد في فرنسا، كما كان محفلا تنظم فيه مناسبات أخرى مثل المعارض الفنية والمؤتمرات الثقافية الكردية. لكن خلف هذه الواجهة كان المكتب والمبنى الذي يضمه مركز نشاط وتنسيق لحزب العمال الكردستاني (بي كيه كيه) الذي هو تنظيم غالبية أفراده من أكراد تركيا من خلفيات آيديولوجية ماركسية لينينية. وبما أن الـ«بي كيه كيه» محظور في الأراضي الفرنسية، بعدما صنّفه الاتحاد الأوروبي «منظمة إرهابية»، فلا أثر معلنا في أي من أجزاء المبنى، غير أن الإعلاميين يعلمون جيدا أنه المركز الإعلامي للحزب.

ولكن يوم أول من أمس الخميس تحوّل «المكتب الكردي» إلى مسرح جريمة، مما استدعى زيارة من وزير الداخلية الفرنسي مانويل فالس، الذي جاء ليشهد على المنظر البشع لجريمة قتل ثلاثية نفذت بطريقة الإعدام راحت ضحيتها ثلاث ناشطات كرديات جرت تصفيتهن برصاص زمرة قتلة محترفين ما زالت هوية أفرادها مجهولة. وبين القتيلات الثلاث سكينة جانسيز، الحركية المعروفة من أجل الحقوق الإنسانية للأكراد.

جانسيز، المرأة الحمراء الشعر التي ما زالت تحتفظ بمسحة من الجمال الأخاذ، كانت وفقا لشائعات يعتد بها من مؤسسي الـ«بي كيه كيه»، كما كانت كما يقال أيضا على علاقة حب مع عبد الله أوجلان، زعيم الحزب القابع حاليا خلف القضبان. أما الضحيتان الأخريان فهما فيدان دوغان وليلى سليميز اللتان كانت تعملان مساعدتين لجانسيز.

من يقف خلف هذا «الإعدام الثلاثي»؟

* رد الفعل الأول من الشرطة الفرنسية تحدث عن وجود عدة «فرضيات عملية» من دون أن تعطي تفاصيل إضافية. غير أن آخر ما تريده إدارة الرئيس الفرنسي الجديد فرنسوا هولاند، التي هزتها في الآونة الأخيرة سلسلة جرائم قتل متصلة بعصابات وزمر الجريمة المنظمة في مدينة مارسيليا، ثالثة كبرى مدن فرنسا، أن تتعامل مع اعتداء إرهابي ذي صلة بتعقيدات الشرق الأوسط ويستحضر من الماضي الأيام السيئة لـ«كارلوس» الشهير بـ«ابن آوى» (الجقل).

بين الفرضيات التي تتردّد في باريس الآن أن الجريمة نتاج دام لصراع أجنحة داخل الـ«بي كيه كيه»، ذلك أنه طوال عام 2011 والنصف الأول من العام الماضي مزّق الحزب جدل حول ماذا يتوجّب فعله إزاء الأزمة السورية. ومنذ الخريف الفائت تعرض الحزب لتشققات تسبب فيها الخلاف على تبني استراتيجية جديدة للتفاوض على صفقة سلام مع تركيا.

أيضا كان الرئيس السوري بشار الأسد قد سعى لمنع أكراد سوريا من الالتحاق بصفوف الانتفاضة الشعبية ضد نظامه عبر منح الجنسية السورية لأكثر من 300 ألف منهم كانوا مُهملين ومهجورين من الناحية القانونية منذ ستينات القرن الماضي. ومن جهتهم، كان الأكراد يدّعون أن هذا العدد، أي 300 ألف نسمة، يمثل أقل من ثلث الأكراد السوريين الذي انتزعت منهم الجنسية السورية إبان فترة حكم حزب البعث. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الأسد أمر أخيرا بالإفراج عن أكثر من سجين سياسي كردي، بعضهم ظل يرزح في غياهب السجون لأكثر من 30 سنة.

وكعرفان من الـ«بي كيه كيه» بما اعتبره «وقفة شهامة» من الرئيس السوري، وافق الحزب على طي صفحة ظلاماته وشكاواه من السلطة البعثية، فمنع الثوار المناوئين للأسد من دخول المناطق الكردية، ويذكر أنه كان بين الظلامات قرار دمشق عام 1999 طرد مؤسس الـ«بي كيه كيه» وقائده عبد الله أوجلان. والأسوأ من هذا، أنه في لفتة لإرضاء السلطات التركية أبلغ نظام الأسد الأتراك بالمكان الجديد الذي اختاره أوجلان مخبأ له في السودان، وهو ما مكن جهاز الأمن السري التركي «إم آي تي» من اعتقال أوجلان في السودان ونقله من هناك إلى أحد سجون تركيا.

وبناء عليه، فإن الـ«بي كيه كيه» ومعه التنظيمات الكردية الصغيرة المنضوية تحت لوائه سيطروا خلال الشهور الماضية على عدد من المدن والمواقع السورية المهمة في مناطق الكثافة الكردية بينها القامشلي وعامودا والدرباسية وبيريك وعين العرب وعفرين، كما أن مئات من مقاتلي الـ«بي كيه كيه» الذي كانوا قد فرّوا إلى العراق عادوا لكي يساعدوا حزبهم على فرض هيمنته على قطاعات واسعة من الأراضي السورية. وبحلول الصيف الفائت كانت عناصر الـ«بي كيه كيه» والتنظيمات الحليفة تمسك بأكثر من 250 نقطة تفتيش في مناطق الكثافة السكانية الكردية في شمال سوريا.

ثم إنه خلال يوليو (تموز) الماضي، عقد الزعيم الكردي مسعود بارزاني مؤتمرا استثنائيا في مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق الذاتي الحكم، ونجح في إقناع الأحزاب الكردية في سوريا، بمن فيها أعضاء في الـ«بي كيه كيه»، بأن انحيازهم لنظام الأسد المشرف على الانهيار رهان خاطئ.

وبالفعل، خلال مؤتمر أربيل هذا، بدّل 22 حزبا وتنظيما كرديا سوريا مواقفها، إلا أنه ذُكر أن بعض التنظيمات الصغيرة الشراذم المرتبطة بالأجهزة الاستخباراتية السورية والإيرانية عارضت التفاهم الذي أقر في نهاية المؤتمر. ومن ثم، واصلت هذه التنظيمات النظر إلى تركيا على أنها العدو اللدود الحقيقي للأكراد معتبرة الأزمة السورية حرفا للصراع عن وجهته الأصلية. وفي ما يخص الـ«بي كيه كيه»، وعلى الرغم من خوضه صراعا غير قصير ضد نظام الخميني في طهران، فإن جناحه الإيراني المعروف بمسمى «بيجاك» (حزب الحياة الكردي)، كان من القوى التي عارضت حصيلة مؤتمر أربيل.

ولاحقا، في الخريف الفائت تعزز القرار الكردي بالوقوف ضد نظام الأسد بحدث آخر. ذلك أنه انتهى إضراب عن الطعام كان قد أعلنه سجناء سياسيون من أكراد تركيا، طال لمدة 68 يوما، بعرض للتفاوض قدمه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان. ثم زاد أوجلان نفسه، الملقب بلقب «العم»، من جرعة التفاؤل عندما طرح التوسط بغاية الوصول إلى تسوية طويلة الأجل. وبناء عليه، بدا وكأن الحرب التي فجرها الـ«بي كيه كيه» ضد الجمهورية التركية عام 1984، متجهة نحو نهايتها.

في هذه الأثناء كان كل من الحزب والقيادة التركية حريصين على الحيلولة دون سقوط مناطق حساسة من سوريا في أيدي الجهاديين العرب. وفي الوقت نفسه، كان الفريقان على اقتناع بأن رفض الأسد التخلي عن السلطة يمكن أن يؤدي إلى انهيار سوريا وتفتتها بكل ما لذلك من عواقب مدمرة لكل المعنيين.

وحقا، في انعكاس للاستراتيجية الجديدة للـ«بي كيه كيه»، غدا «المعهد الكردي» في باريس صوتا قويا داعما لموقف فرنسا الصلب ضد الرئيس بشار الأسد. وبالتالي، بصرف النظر عن الجهة التي ارتكبت جريمة القتل الثلاثية التي راحت ضحيتها سكينة جانسيز ورفيقتاها، فإنها كانت تهدف إلى توجيه إنذار مزدوج: شقه الأول موجه إلى الجالية الكردية في فرنسا التي يقدر عدد أبنائها بنحو 150 ألف نسمة، وشقه الثاني إلى الرئيس هولاند وحكومته. ذلك أن فرنسا كانت أول دولة تعترف بالمعارضة السورية على أنها الحكومة الشرعية الوحيدة لسوريا، والأولى التي استقبلت قادتها بحفاوة رسمية.

ثم إن فرنسا، خلال الأشهر الأخيرة نشطت كثيرا وراء كواليس الاتحاد الأوروبي لإقناع شركائها الأوروبيين بضرورة التحضير لتدخل عسكري ممكن بهدف حماية المدنيين السوريين من المجازر التي ترتكبها قوات الأسد. وتبعا لخبراء فرنسيين في شؤون الإرهاب، يحتمل أن تكون عملية الإعدام الثلاثية قد نفذت على أيدي واحدة من ثلاث مجموعات، هي: إما مجموعة اغتيالات سورية أرسلت إلى باريس من لبنان، أو زمرة من حزب الله اللبناني نفذت العملية لحساب إيران، أو جماعة كردية منشقة عن الـ«بي كيه كيه» تناوئ التصالح مع أنقرة وتسعى لعقد تحالف مع بقايا نظام الأسد.

هل لأجهزة الاستخبارات التركية دور في «الجريمة»؟

* هذا الاحتمال يبدو ضعيفا لسببين: الأول هو أنه ثمة اتفاق غير مكتوب مع الـ«بي كيه كيه» يحجم بموجبه أي طرف عن استهداف كبار مسؤولي الطرف الآخر. وهذا بخلاف الموقف غير الممانع عند الأجهزة الأمنية التركية باستهداف أعضاء «الجيش السري الأرمني» (آسالا) في عدد من العواصم الأوروبية، بما فيها باريس. والثاني، أن القادة الأمنيين الأتراك كانوا بالفعل منخرطين لأسابيع في مفاوضات سرية مع أوجلان داخل سجنه الموجود في إحدى الجزر، وعليه لا مصلحة لديهم في تنفيذ عملية من هذا النوع.

إن العملية، التي نفذت في مكان قريب من قلب العاصمة الفرنسية، لا بد من أن يذكر الجميع بأن خطر إطالة أمد الأزمة السورية بات يهدد السلام والأمن في أماكن  بعيدة عن الحدود ومناطق المواجهات المباشرة في الشرق الأوسط.



ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.